محمد هاشم عبد السلام
31/1/2017
بات ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة من تاريخ السينما الإيطالية أنه رغم الأسماء الكبيرة اللامعة في السينما الروائية المعاصرة، كناني موريتي وباولو سورينتينو وماتيو جاروني وغيرهم أو ما تبقى من جيل الرواد كبيرتولوتشي وإرمانو أولمي على سبيل المثال، لكن السينما الروائية في إيطاليا تعاني من هبوط ملحوظ، وربما بعض الانحدار في مسيرتها، وذلك مقارنة بما حققته ولا تزال تُحققه السينما التسجيلية من تفوق لافت خلال السنوات الأخيرة، وذلك عبر نشاطها البارز وأفلامها الجادة والأسماء التي تطرحها، وأرفع الجوائز التي باتت تقتنصها من المهرجانات الكبرى، وكان من أبرزها “الدب الذهبي” بمسابقة مهرجان برلين العام الماضي لفيلم “نار في البحر” إخراج المخضرم فرانشيسكو روزي.
وعن ثالث تجاربها التسجيلية في مسارها المهني، حصلت المخرجة الإيطالية المتميزة “فريدريكا دي جياكومو” على جائزة مسابقة “الأوروزونتى” أو “آفاق” في مهرجان فينيسيا الأخير، وذلك عن فيلمها الجريء والمهم والخطير، “حررني” (Liberami). والعنوان، رغم قلة عدد حروفه، يحمل أكثر من ترجمة ودلالة، فمعناه المباشر طلب أو رجاء بالتحرر أو الإنقاذ أو التخليص، إلى آخره من المفردات التي هي، بعكس ما قد يوحي معناها، بعيدة كل البعد عن مجال السياسة ودروبها. أما المعنى الدلالي لعنوان الفيلم فيمكننا صياغته على نحو تبسيطي مباشر بما يفيد المُناشدة والرجاء، بالأحرى، التوسل، من أجل الخروج من الجسد وعدم السكون فيه. والخروج هنا يُقصد به خروج الجن وفقًا لمفهومنا ومعتقداتنا وتراثنا، لكن المقصود به تحديدًا في الفيلم “الشيطان” أو أي روح الشريرة تسكن الجسد أو كما نقول “تتلبسه”.
بالطبع ما يرمي إليه الفيلم هنا شديد البُعد عمّا يحدث عندنا، ويمكن أن يندرج تحت معنى فك السحر أو الربط أو العمل إلى آخره. فتلك المُسميات ودلالاتها تبدو غير متجذرة ولا مطروقة ولا حتى معروفة في المجتمعات الغربية أو على الأقل بإيطاليا، حيث تدور أحداث الفيلم. وذلك بالرغم من أننا نسمع على لسان تلك الشخصيات “الملبوسة”، وإن بأصوات غريبة مُغايرة، نفس ما نصادف ونسمعه على لسان أشخاص بمنطقتنا تتشابه حالاتهم وتلك التي بالفيلم، مثل “لن أخرج، وهذا الشخص ملكي، لن أتركه” إلى آخره. يرصد الفيلم مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يعتقدون أن الشيطان بذاته قد تلبسهم، وأنه بات يسكن ويعيش داخل أجسادهم، ويشاركهم الحياة والمأكل والمشرب، بل وراح يتحكم في مصائرهم وقرارتها وكل ما يتعلق بوجودهم. وعلى امتداد ساعة ونصف الساعة هي زمن الفيلم، نجدنا بشكل أساسي إزاء تلك النقطة المحورية التي تدور حولها كافة خيوط الفيلم الأساسية والفرعية.
بعِلم وموافقة رسمية من الفاتيكان يُمارس العديد من القساوسة مهامهم – عادة بعد انقضاء القداديس – المُتعلقة بعقد جلسات خاصة من أجل طرد الشيطان أو الأرواح الشريرة من أجساد المصابين، الذين نراهم في الفيلم على صورتين، تلك الطبيعية والأخرى المريضة. فمع دخول هؤلاء الأفراد الأصحاء إلى القداس بالكنيسة نرى الجانب الطبيعي لهم إذ يجلسون لأداء الصلاة في هدوء وسكينة ورزانة تامة، لكن بمجرد أن تمسهم يد الكاهن أو القس أو يطولهم الماء المقدس الذي يباركهم به حتى يظهر الجانب الآخر للمريض، فينقلب الفرد منهم إلى وحش كاسر يُحطم ويُهاجم ما حوله أو يتلوى يمينًا ويسارًا من فرط الألم والذعر. وفي تلك الأثناء، تنقلب العيون في محاجرها على نحو مُخيف، وتتبدل الأصوات على نحو مُرعب، بينما يحاول من حولهم من الأهل والأصدقاء المساعدة حتى لا يؤذون أنفسهم ومن حولهم أو يُصيبهم الاختناق جراء ابتلاع ألسنتهم.
تركز فريدريكا في فيلمها على ثلاث شخصيات على وجه التحديد تتبع رحلتهم طوال الفيلم، “جوليا” “جراتسيا” “إنريكو”، وذلك قبل وبعد تلك النوبات الطارئة التي تقلب كياناتهم. وحتى تمضي المخرجة لما هو أبعد من ذلك، إذ تعقد معهم شبه صداقة تتيح لها مصاحبتهم إلى منازلهم، والتعرف عليهم وعلى الواقع الحياتي الذي يحيونه، وتبين لنا أوجه القرابة أو الصداقة مع من حولهم، وبالتالي نفهم بعض الشيء، القليل أو الكثير حول خلفيات مرض كل منهم أو طبيعة تلك الحالة ومشكلاتها وتبعاتها. وحتى تتحدث فريدريكا، في بعض الأحيان، مع هؤلاء الأفراد حول ما إن كانت حالاتهم مجرد أمراض نفسية أو اجتماعية تستوجب العلاج النفسي أو الاجتماعي، وذلك في سعيها من أجل إبراز جميع الجوانب المتعلقة بتلك الظاهرة وعدم الانحياز ضدها أو معها. ولفرط الدهشة، نكتشف أن هؤلاء قد خضعوا بالفعل لمثل تلك العلاجات لفترة من الزمن ولم يظهر عليهم أي تحسن، فتوقف البعض عنها أو أهملها أو طرق عدة أبواب مغايرة أو تناول علاجات أخرى أو حتى لجأ لساحر من أجل ترياق ناجع.
بجانب تلك الشخصيات نتعرف على شخصية الأب “كاتالدو”، وهو قس في السابعة والسبعين من عمره، ويعتبر الأكثر شعبية في صقلية وإيطاليا. والأب كاتالدو بمثابة البطل الرئيسي للفيلم، إن جاز التعبير، إذ يكتفي الفيلم باتخاذه وكنيسته في “باليرمو” نموذجًا يُسلط من خلاله الضوء على تلك الظاهرة، ويرصد تحديدًا من يترددون عليه للعلاج. ويشير كاتالدو إلى لجوء أمثال هؤلاء المرضى إليه جراء فشلهم مع الطب النفسي الحديث تارة أو أية علاجات بديلة أو لفقدانهم الحب أو افتقادهم للرعاية والحنان أو حتى الإيمان تارة أخرى. ومن ثم، نجدنا، نظرًا لأن المخرجة قررت بحنكة وفنية عدم الانحياز لوجهة نظر بعينها أو تأييد جانب على آخر وترك كاميرتها ترصد ما تراه فحسب، نجدنا إزاء حيرة بالغة من أمر هؤلاء. هل هم بالفعل مرضى اضطراب عقلي أو ذهني نادر ولم يكتشف بعد؟ أم لاضطرابات نفسية واعتلالات روحية أو ضغوط حياتية أفضت بهم للاعتقاد أنهم فعلا ضحايا لقوى خارجية سكنتهم؟ أم هم حقًا تعرضوا لما يمكن أن نطلق عليه المس الشيطاني أو لقوة شريرة سكنت أجسادهم بالفعل وفقًا لاعتقادهم؟ المُرجّح أن تلك العينات، في النهاية، قادمة من خلفيات مضطربة، وعلاقات مختلة، وعلى قدر كبير من الضعف الإنساني والهشاشة.
قبل أن تختتم فريدريكا فيلمها، تستعرض لفترة ليست بالقصيرة، المؤتمر الدولي لطاردي الأرواح الشريرة، الذي انعقد بروما في عام 2015، وفيه تحدث القساوسة، ومن بينهم الأب كاتالدو، عن العقبات والمشكلات التي تواجههم ومدى تأثرهم بما يرونه من حالات يعالجونها، رغم إيمانهم التام بأن ما يقومون به ما هو إلا شكل من أشكال المساعدة الاجتماعية لرعايا الكنيسة. أيضًا عن الدورات والمعرفة التي يتلقونها في مجال الطب النفسي وغيره، مثل الاطلاع على أحدث عقاقير الهلوسة وغيرها التي يتعاطاها الشباب أو طبيعة الحفلات والطقوس التي يقيمونها فيما يُطلق عليه عبادة الشيطان، وذلك من أجل الوقوف على طبيعة الحالات التي يتعاملون معها. ويضيف في نقاش مع مجموعة من القساوسة بالمؤتمر، أن كل هذا بعيد عن الجنون والاضطراب العصبي، وربما يكون التلبس حقيقي، وربما هذا كله مجرد بحث عن اهتمام، لا سيما في أوساط الشباب تحديدًا، وأنه لا شك قطعًا في أن البعض ينتحل ويزيف ويدعي، هربًا من مشاكل أو منغصات. وبالنهاية لم يُجمِع القساوسة على رأي مُحدد بخصوص تشخيص تلك الظواهر أو الحالات بصفة عامة، وكل ما اتفقوا عليه أن الجميع بحاجة إلى الرب ورعايته، وأن الأمر بالنسبة لهم في النهاية محض عمل شاق ومرهق.
ومن دون أن تطرح فريدريكا أسئلة مباشرة حول الأسباب الكامنة وراء تفاقم مثل هذه الحالات، وتلك الطلبات المتزايدة على خدمات الكنائس، ليس فقط في إيطاليا، بل في جميع أنحاء العالم، من أجل البحث عن علاج، نجدها تقدم لنا في خاتمة الفيلم، مجموعة من الأرقام التفصيلية عن مدى انتشار وتزايد هذه الحالات على مستوى كنائس العالم، وتحديدًا في إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية. والمثير في تلك الإحصائية، إن كل كنيسة بفرنسا بها على الأقل أحد القساوسة أو الكهنة المتخصصين في طرد الأرواح، وأن الكنيسة الرئيسية بمدريد تبحث عن سبعة قساوسة أو أكثر للعمل في طرد الأرواح، وأيضًا الكنيستين الرئيسيتين بميلانو وروما بحاجة لما يزيد عن عشرة قساوسة، في حين أن إقليم لومبارديا، وهو الأكثر عددًا من حيث عدد القساوسة طاردو الأرواح الشريرة، بات يُنظم دورات تدريبة للقساوسة في هذا المجال. وأن أعداد هؤلاء القساوسة قد تزايدت عشرات الأضعاف في أمريكا خلال السنوات الأخيرة. وأن غالبية الكنائس باتت توفر خدمة الرد والعلاج عن طريق الاتصال التليفوني بالخط الساخن.
برغم قتامة الفيلم بسبب ما يعرضه علينا من مشاهد تثير الكثير من الحزن والشفقة، لكن به أيضًا بعض المشاهد التي تستدعي الكثير من الضحك البالغ، رغم أنها ليست موجودة للسخرية أو الضحك في حد ذاته، ومنها على سبيل المثال، تكرار لقطات للأب كاتالدو مُتحدثًا في التليفون في خدمة الرد على العملاء، ومحاولته المُضنية عبر الهاتف في الصراخ من أجل طرد الروح الشريرة من جسد مريض على الطرف الآخر من الهاتف، وتجيبه تلك الروح بدورها صارخة وعاصية لأوامره. وفي بعض الأحيان نرى الأب يطرد إحدى الأرواح على الهاتف بينما هو مُنهمك في علاج حالة أخرى أمامه في نفس وقت.
إن الفيلم لا يهدف بالقطع لأي نوع من الإثارة أو الشفقة، ولا السخرية أو التعاطف، بل يطرح الكثير من الأسئلة الخفية من دون التصريح بها، وذلك من خلال رصده لذلك الطقس الغريب والمخيف وهو يتحول تدريجيًا إلى موعد إسبوعي منتظم، يُشبه الصلاة، وربما في المستقبل يُصبح طقسًا يوميًا لا يمكن الاستغناء عنه. ويبرز أيضًا مدى امتداده وتشعبه عبر أنحاء العالم، ويُبَيِّنُ الهوة الآخذة في الاتساع بين الطرق التقليدية البدائية في تشخيص وعلاج الأمراض، والانفصال عن أحدث منجزات العلم والطب والتكنولوجيا. عن الضغوط العصرية ومتطلبات الحياة اليومية من ناحية، وعزلة البشر التي باتت تثقل كاهل الجميع من ناحية أخرى. وبالقطع ذلك التناقض الصارخ بين الحاضر والماضي، القديم والحديث، العصري والتقليدي، وإلى أي اتجاه من هذه الاتجاهات قد تمضي بنا الحياة.
كما يمكن تأويل الفيلم أيضًا، على أسوأ الفروض، كإدانة للكنيسة الكاثوليكية، وتلك الممارسات على وجه التحديد. كذلك، من ناحية أخرى، وإن على نحو أقل، كسخرية من تلك الأفواج التي تتردد على هؤلاء الدجالين طلبًا للعلاج بعدما أعيتهم الحيلة أو حتى التشكيك في كون هؤلاء مرضى بالأساس سكنتهم الشياطين أو الأرواح الشريرة. إنه بالنهاية كأي عمل فني، وكأغلب الأفلام التسجيلية المتميزة، يترك الحكم للمُشاهد ليُقرر بنفسه، في النهاية، طبيعة وحقيقة ما يراه، ولأي وجهة نظر يميل أو إن شاء، الوقوف على الحياد.