فيينا – محمد هاشم عبد السلام

ضمن فعاليات “مهرجان فيينا السينمائي الدولي” في دورته الـ63، المنعقدة في الفترة (16 ـ 28) أكتوبر/ تشرين الأول، عادة ما تُتيح البرامج الاستعادية (Retrospective) في المهرجان الذي ينعقد سنويًا في قلب العاصمة النمساوية، في نهاية فصل الخريف، نظرةً ثاقبة على أعمال مخرجين سينمائيين عالميين، من أجيال ومدارس فنية مختلفة، مشهورين، أو غير مشهورين. وبالفعل، تستكشف هذه البرامج السنوية، المهمة جدًا، عوالم سينمائية تقدم انطباعات ورؤى عن أزمنة وثقافات وتقنيات مغايرة، وتفسح المجال لعقد مقارنات فنية وفكرية واجتماعية، وغالبًا تقنية، مع حاضرنا، والسينما المعاصرة.

ملصق مهرجان فيينا السينمائي الدولي في دورته الـ63

استعادة استثنائية لأعمال جان إبشتاين

المؤكد أن البرنامج الاستعادي لأعمال المخرج جان إبشتاين هذا العام، الذي نُظمت عروضه بالتعاون مع “متحف السينما النمساوي”، كان من أهم وأبرز أحداث المهرجان بالنسبة لعشاق السينما والباحثين والمتخصصين، أو لغير المهتمين بإعادة مشاهدة الأفلام المعروضة سلفًا في مهرجانات أخرى. كما يعد حضور البرامج الاستعادية في “مهرجان فيينا” من التجارب المثيرة والنادرة فعلًا، سيما وأنها تعيدنا مرات ومرات إلى زمن السينما الصامتة، وعصر ما قبل الانتقال إلى الصوت.
كان جان إبشتاين (1897 ـ 1953) مخرجًا سينمائيًا وناقدًا ومنظرًا فرنسيًا بارزًا جدًا. ربطت أعماله السينمائية المتنوعة والغزيرة بين التجريب الطليعي، والواقعية الشعرية، ضمن إطار يستلهم المدرسة القوطية أحيانًا، وينهل من الأدب العالمي كثيرًا، روايات، أو قصصًا قصيرة، خاصة من الأدب الفرنسي.
وُلِد جان إبشتاين في وارسو، لأب يهودي بولندي وأم فرنسية، ونشأ في سويسرا وفرنسا، ودرس الطب قبل أن يتجه إلى السينما في أوائل عشرينيات القرن الماضي. ارتبط إبشتاين غالبًا بالحركة الانطباعية الفرنسية، وقد طوّر أسلوبًا غنائيًا مكثفًا، رومانسيًا أحيانًا، يمزج بين الابتكار البصري والتأمل الفلسفي، والإدراك الذاتي مع مونتاج لافت للانتباه حقًا.

لقطة من “السادسة والنصف” أحد الأفلام المستعادة لجان إبشتاين.

للمخرج تجربة جدّ عريضة ومتنوعة وثرية، وحداثية إن جاز التعبير. إذ برع في التنقل بين الأفلام القصيرة والطويلة، الروائية والوثائقية، التي عكست شغفه الدائم بجمال المناظر الطبيعية في الحقول، أو البحر، أو حتى القلاع القديمة المنعزلة في حقب تاريخية بعيدة. في أغلب هذه الأعمال يمكن رصد بعض التجليات، أو الانعكاسات لتنظيرات، أو كتابات إبشتاين النظرية، خاصة، حول مفهوم “التصوير الفوتوغرافي”، وكيف أن السينما يمكن أن تكشف جوانب خفية من الواقع.
تنوعت برمجة البرنامج الاستعادي هذا العام بين أفلام قصيرة لا تزيد عن 30 دقيقة، أو روائية طويلة تمتد لساعة ونصف الساعة، أو أكثر قليلًا. المثير للانتباه في فرادة هذه التجربة أن بعض هذه الأعمال، مثل الروائي الطويل “موبرات”، لم يعرض من قبل بعد ترميمه، وحتى خلال المهرجان لم يعرض سوى مرة واحدة فقط. أما الحديث عن كيفية وآليات الترميمات، فالأمر يشبه الإعجاز، نظرًا لأن أغلب الأفلام المُرممة جرى ترميمها بمادة النترات المطابقة لأصول الأفلام المصنوعة في أجزاء منها من نترات الفضة.

وبصرف النظر عن تعقيدات الجهد المبذول في عمليات الترميم والنقل إلى الوسائط الحديثة، والجهات المشاركة فيها، ومدى الجودة النهائية للصورة، أو الفيلم إجمالًا، لكنها تجربة فريدة فعلًا، سيما وأن النسخ المعروضة مطبوعة بقياس 35 ملم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، مصحوبة بموسيقى تصويرية حية. سواء على آلة البيانو، لمدة ساعة ونصف الساعة مثلًا، خلال فيلم “موبرات” (1926)، أو “سقوط منزل آل آشر (63 دقيقة)” (1928)، أو في الاستعانة بأجهزة عزف موسيقى حديثة، تكنوميوزيك، من تأليف 3 عازفات، لتصاحب الأفلام القصيرة، كمؤثرات خاصة، وهي تجربة لم أشهدها من قبل، ولها ما عليها، رغم ألمعية الفكرة.
كان درة الأعمال المعروضة في البرنامج، بخلاف أهمية “موبرات”، المأخوذ عن رواية للأديبة الفرنسية جورج صاند، وشارك فيه المخرج لويس بونويل في التمثيل والإخراج، فيلم الرعب التجريبي القوطي “سقوط منزل آل آشر”، المأخوذ عن قصة للأديب الأميركي إدغار آلان بو. يذكر أن هذا الفيلم من أبرز الأمثلة على السينما الطليعية الفرنسية، وأثَّرَ كثيرًا في مخرجين كبار، مثل ديفيد لينش، وأندريه تاركوفسكي، وجان لوك غودار.
ورغم أن جان إبشتاين وأفلامه هما محور البرنامج الاستعداي، ولذا جرى استلهام الملصق الخاص بالتظاهرة من لقطة من فيلمه “سقوط منزل آل آشر”، لكن، هذا لا يعني أن البرامج اقتصرت عليه فحسب. إذ ثمة كثير، كان من بينهم مثلًا، يانوش زانتوس (1953 ـ 2012)، المخرج والممثل المجري الطليعي البارز، والذي رصدت أعماله الروائية والوثائقية والقصيرة، المغايرة شكلًا ومضمونًا، بعض جوانب تفكك المجر كدولة في الكتلة الشرقية، ونقلت صورة عن عصر وجيل يمر بمرحلة انتقالية ومحورية.
كما عرضت بعض أعمال المخرجة الهولندية ديجنا سينكي (مواليد 1949)، إضافة إلى تركيز الضوء على أعمال الكاتبة والمخرجة النمساوية الشهيرة أنجيلا سمريدر (مواليد 1958)، وصاحبة الإسهامات اللافتة في تاريخ السينما النمساوية. وضمن هذا الإطار عرض المهرجان فيلمها الأول “زيخمايستر” (1981)، الذي رُمم مؤخرًا.
وضمن إطار البرامج الجانبية الاستعادية، وأيضًا بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني النمساوي يوم 26 أكتوبر، عرض الفيلم الأميركي الأيقوني الشهير “ثلاثة رجال أشرار” (1926)، من إخراج جون فورد. الفيلم من الأفلام الصامتة المهمة، ورافقه العزف الحي للغيتار والطبول والموسيقى الإلكترونية.

أهم أفلام العام المعروضة

ليس معنى ما سبق أن فعاليات مهرجان “فييناله”، وفقًا للتسمية المختصرة والأشهر له، قاصرة أو متمحورة حول أفلام البرامج الاستعادية. بالعكس، إذ رغم أن المهرجان ليست فيه برامج تنافسية، ولا مسابقة رئيسية، ولا لجان تحكيم، أو جوائز اعتيادية، كأغلب المهرجانات، لكنه ينقسم إلى أقسام رئيسية عدة تعرض أحدث الإنتاجات السينمائية الروائية الطويلة من مختلف أنحاء العالم، وتلك الفائزة بجوائز في مختلف المهرجانات.

لقطة من فيلم “ماجلان” للمخرج الفليبيني لاف دياز.

من بين الأفلام الكثيرة المعروضة في مختلف المهرجانات العالمية، والفائزة بجوائز وترشيحات عديدة، عرض المهرجان “بيجونيا”، لليوناني يورغوس لانتيموس، و”قيم عاطفية” للنرويجي يواكيم ترير، و”الموجة” للتشيلي سيباستيان ليلو، و”ألفا” للفرنسية جوليا دوكرنو، و”كونتنتال 25″ للروماني رادو جود، و”بعد الصيد” للإيطالي لوكا جوادانينو، و”سياج” للفرنسية كلير دينيس، و”كرونولوجيا الماء” لكريستين ستيوارت، و“ماجلان” للفليبيني لاف دياز، وعرض للأميركي ريتشارد لانكليتر “صوت القمر”، و”الموجة الجديدة”، وهما من إنتاج هذا العام.

إضافة إلى ذلك، جرى عرض توليفة متباينة من الوثائقيات التي تسلط الضوء على قضايا اجتماعية وثقافية معاصرة. وإن كان أغلبها قد عرض في مختلف المهرجانات، ومنها فيلم “الأفيال الشبحية” للألماني فيرنر هيرتزوغ، و”تحت الغيوم” للإيطالي جيانفرانكو روزي. أما الأفلام القصيرة، المبرمجة ضمن أكثر من مجموعة مستقلة متمحور حول فكرة بذاتها، فأغلبها مبتكرة، أو تجريبية، وتعرض لأول مرة.

لقطة من الفيلم الوثائقي “مع حسن في غزة” للفلسطيني كمال الجعفري.

يذكر أن الأفلام العربية المختارة هذا العام، في مختلف الفعاليات، لم تكن كثيرة، وأغلبها روائية، أو وثائقية طويلة. كان أبرزها لمخرجتين تونسيتين: “صوت هند رجب” لكوثر بن هنية، و”أرض بلا سماء” للمخرجة أريج السحيري. كما عرض الوثائقي “مع حسن في غزة” بحضور المخرج الفلسطيني كمال الجعفري، والوثائقي “حكايات الأرض الجريحة” بحضور المخرج العراقي عباس فاضل. كما عرض فيلم “غرل البنات” (1985)، الروائي الأول للمخرجة اللبنانية الراحلة جوسلين صعب، ضمن قسم الاستعادات.

عرض أول لجولييت بينوش كمخرجة

المعروف جيدًا عن الممثلة الفرنسية الموهوبة جولييت بينوش تمتعها بمواهب فنية متعددة. فهي مثلًا ممن يمارسون الرسم، ولديها أعمال تشكيلية لافتة فعلًا. لكن لم يعرف عنها كونها ممثلة رقص إيقاعي مسرحي، ولا جرى الإعلان مسبقًا عن أنها في صدد إنجاز فيلم، أو تحويل المادة الأرشيفية التي صورتها شقيقتها إلى فيلم وثائقي لمدة ساعتين بعنوان “في حركة”، يحكي عن تجربتها الفريدة تلك.

جاءت جولييت بينوش إلى “فييناله” لعرض تجربتها لأول مرة، واستطلاع رأي الجمهور، والتحاور بشأنها. جولييت، التي صارحت الجمهور بأنها ربما تجري لاحقًا بعض المونتاج على الفيلم ليصير أقصر وأكثف، كشفت عن موهبة مغايرة تمامًا كمؤدية استعراضية من الدرجة الأولى. وكشفت قبل كل شيء، أو بالأحرى أكدت على أنها صاحبة موهبة فنية جبارة، وطاقة إبداعية لا تنضب تقريبًا، ولديها درجة من الحب والشغب والحرص على إتقان عملها لا يمكن تصورها.

بي
لقطة من “في حركة” تجمع بين أكرم خان و ممثلة ومخرجة الفيلم جوليت بينوش.

فنيًا، لا يمكن التعامل النقدي مع “في حركة” باعتباره فيلمًا بالمعنى العميق. ليس لكونه تجربة أولى للمخرجة/ الممثلة، تحمل بين طياتها عوامل نجاح وفشل، أو جوانب قصور أو تميز، بل لكونه بالأساس عبارة عن توثيق لأيام التدريبات، حيث نرى النقاشات والحوارات واللقاءات والتدريبات الثنائية مع أكرم خان، شريكها في الرقص والتجربة المسرحية، وتفاصيل العمل خلف الكواليس. ثم، لاحقًا، في النصف الثاني من الفيلم، نشاهد التجربة المسرحية نفسها، وقد اكتملت على خشبة المسرح. ولكون المادة في الأساس كانت من تصوير ماريون ستالون، شقيقة جولييت بينوش، فلم يكن هنالك كثير من الجهد المبذول فنيًا، خلا اختيار وتوظيف ومونتاج اللقطات معًا.
ليس معنى هذا أن الفيلم ضعيف، أو غيره. بالعكس، فالتجربة جد ثرية، ممتعة ومشوقة، وملهمة على مختلف المستويات، وأيضًا تنطوي على كثير من الفكاهة والضحك. إجمالًا، تجربة غير مملة ولا مضجرة أبدًا، ربما بفضل روح وحيوية وتألق بينوش.

الإعلان الترويجي أو برومو المهرجان

ثمة مهرجانات تولي أهمية كبيرة للإعلانات الترويجية، أو بروموهات دوراتها، وتحرص على هذا من دورة إلى أخرى، وترصد له الميزانيات والاستعدادت والترتيبات الخاصة. أبرز المهرجانات في هذه الصدد “كارلوفي فاري” في دولة التشيك، بإعلاناته الفنية والسينمائية الموجزة والكاشفة جدًا. كذلك، يحرص “مهرجان فيينا” على هذه الإعلانات الترويجية السنوية أيضًا. لكن، في حين أن بروموهات “كارلوفي فاري” باللونين الأبيض والأسود، يترك “الفييناله” حرية الاختيار لصاحب البرومو، أو لمخرجه.
طبعًا، ثمة اختلافات كبيرة ومحورية بين تنفيذ المهرجانين لإعلاناتهما، لكن الملاحظ أن فيينا لا يكترث كثيرًا بمسألة كون الإعلانات بالأبيض والأسود أو الألوان، أو غيرها من الشروط الضرورية المطلوب توفرها.

لقطة من الفيلم القصير “الاستيقاظ” تمثيل وإخراج جوانا هوج.

هذا العام، وقبل انطلاق دورته بأسبوعين تقريبًا، جرى الكشف عن إعلان الدورة الـ63 لعام 2025، إخراج وتمثيل كاتبة السيناريو والمخرجة البريطانية المعروفة جوانا هوج. وحمل عنوان “الاستيقاظ”، وهو مصور بالأبيض والأسود، ولا يتجاوز الدقيقة تقريبًا. ورغم القول إن هدفه بث طاقة متجددة، وإحداث صدمة إبداعية توقظ الحواس لدى المشاهدين والمبدعين، إلا أن الأصوات التي نسمعها في الخلفية ـ مدافع، وطلقات رشاش وبنادق، وطائرات، وقذائف، وقنابل، وصياح وحرب طاحنة تقريبًا ـ لا تشير أبدًا إلى أن استيقاظ أو قلق جوانا هوج في سريرها، وصعوبة النوم بسبب الأصوات، هدفها بث طاقة متجددة، أو إحداث صدمة إبداعية لإيقاظ الحواس، بقدر إحداث صدمة إنسانية وإخلاقية توقظ الحواس والمشاعر والضمائر من سبات عميق طال أمده.
افتتاح وختام عن الأسرة

افتتح المهرجان دورته بفيلم “المرايا رقم 3” للمخرج الألماني المخضرم، والرئيس الجديد للمهرجان، كريستيان بيتزولد. الفيلم الذي عُرض لأول مرة في قسم “نصف شهر المخرجين” في الدورة الأخيرة لـ”مهرجان كان”، بطولة النجمة الألمانية الشابة باولا بيير في دور لورا. تتمحور الأحداث حول الحادث المميت الذي أودى بحياة صديق لورا. وصدمة ما بعد الوفاة، التي تحاول لورا تجاوزها من خلال إقامتها مع عائلة سيدة كانت شاهدة على الحادث، احتضنت لورا كأم حقيقية. الإقامة مع هذه الأسرة، واستكشاف مواضيع مثل الذاكرة، والحزن والفقدان، والهوية الشخصية، وبالطبع العلاقة بين الغريب أو الوافد والأسرة، تكشف عن كثير متعلق بمدى عمق وتعقيدات العلاقات الإنسانية وغرابتها.

بي
لقطة من فيلم الافتتاح “المرايا رقم 3” للألماني كريستيان بيتزولد.

أما ختام فعاليات “مهرجان فيينا” فكان بفيلم “ما الذي تقوله لك الطبيعة؟” للمخرج الكوري الجنوبي هونج سانج سو، والمعروض في مطلع هذا العام في مسابقة “مهرجان برلين” في دورته الأخيرة. موضوع الفيلم، رغم بعض الطرافة، أو الجانب الفكاهي فيه، لا يختلف كثيرًا عن موضوع فيلم “المرايا رقم 3”. يتقاطع معه في محاولة سبر أغوار العلاقات الإنسانية، ومدى غرابتها وتعقيداتها، وتضمين هذا كله في إطار الأسرة، أو الروابط العائلية. ونتعرف من خلال الأحداث البسيطة والمتقشفة جدًا على حبيب يلتقي بعائلة حبيبته لأول مرة. عبر هذا اللقاء تتكشف صراعات متعددة، عن الحياة والعلاقات الشخصية والتأمل في الحياة والحب والبشر، وحتى التسلط العائلي.