محمد هاشم عبد السلام
بعد إيام قليلة، يتوّج مهرجان برلين السينمائي المخرج الألماني القدير فيم فيندرز، تسعة وستين عامًا، بجائزة “الدب الذهبي”، تقديرًا لإنجازه المهني المتميز وما قدمه من إبداعات خالدة في تاريخ الفن السينمائي، وذلك على امتداد مسيرته المهنية التي لا تزال متواصلة حتى يومنا هذا، برصيد سبعة وخمسين فيلمًا بين الروائي الطويل والقصير والتسجيلي.
بعدما تمحورت أفلامه السابقة حول العين البشرية والملاحظة أو الإدراك البصري، خاصة في ثلاثيته البديعة “صيف في المدينة، أليس في المدن، ملوك الطريق”، وأيضًا في فيلميه “حتى نهاية العالم” و”بعيدًا جدًا، قريبًا جدًا”، يُكرّس فيم فيندرز، أحد رواد جيل السبعينات في السينما الألمانية، فيلمه هذا للتركيز على عنصر الصوت أو بصفة عامة كل ما يمت بصلة لعالم الأصوات. و”قصة لشبونة”، من بين أفلامه، التي نجدها على قدر كبير جدًا من البساطة والجمال الفني والقيمة العالية أيضًا، برغم عدم التفات الكثير إليه أو إغفاله من تصدوا لدراسة ونقد أعماله، وإن كان الفيلم معروفًا بالطبع لدى محبي فيندرز وعشاقه.
الملاحظ في هذا الفيلم أن العنوان بالطبع خادع جدًا، فهو يُهيئنا عند قراءته كي نستعد لمعرفة قصة مدينة لشبونة التي سيسردها لنا الفيلم، لكن على العكس من ذلك، نجد أنه بمثابة رحلة فلسفية تأملية رائعة ولطيفة ومسلية ومضحكة في ذات الوقت. يقوم على ثلاث عناصر رئيسية، مدينة لشبونة ذاتها بمشاهدها وأصواتها، وفرقة مدريديوسا، والسينما.
المثير في الأمر أن فيندرز لم يكن يتنوي صناعة فيلم عن مدينة لشبونة الجميلة، لكن في عام 1994، كانت لشبونة عاصمة الثقافة الأوروبية، فما كان من عمدة المدينة، وفي إطار رغبته في تقديم صورة مغايرة للاحتفال بها، إلا أن طلب من فيندرز أن يخرج فيلمًا تسجيليًا عن المدينة بهذه المناسبة. أي أن العرض بالنسبة لفيندرز لم يكن سوى مجرد مشروع من ضمن مشاريعه الكثيرة، قد يطويه النسيان، سيكسب منه الكثير من المال.
لكن فيندرز، لأنه فنان حقيقي أصيل بالأساس، أطلق العنان لمخيلته المبدعة. فتخلى بداية عن أمر الفيلم التسجيلي، وتبنى مشروع فيلم روائي طويل، كتب بنفسه الخطوط العريضة له، في أول مرة آنذاك لا يلجأ فيها فيندرز لكاتب سيناريو متخصص. وقد جاء الفيلم في خطوطه الأساسية، على هيئة رحلة أو فيلم طريق، وفيندرز من أسياد هذا النوع السينمائي، وفي نفس الوقت به إثارة وقصة حب وموسيقا رائعة وتمثيل جيد بالطبع ومواقف طريفة.
وليس ثمة شك في أن فيندرز قد نجح في النهاية في أن يبدع حقًا فيلمًا روائيًا جميلا عن طريق إدخال أو إضافة بعض العناصر الخيالية، وخلق حبكة امتدت لأكثر من ساعة ونصف الساعة، من قصة صغيرة وبسيطة وسلسلة. مع استعراض بانورامي جد متميز للمدينة بقسميها القديم والحديث، وتلك كانت خلطة فيندرز لصنع عمل فني رائع وأصيل. وقد اختير الفيلم آنذاك للعرض في “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان.
على المستوى الفني والتقني، أهدى فيندرز فيلمه هذا إلى فيدريكو فيلليني، وقرن كامل من السينما. وقد لجأ فيندرز في إخراجه للفيلم للكثير من التقنيات واللقطات المهجورة، التي تشبه في تنفيذها تمامًا نفس التقنيات والأساليب، التي كانت مستخدمة، والتي نُفذت بها الأفلام في بدايات اختراع السينما.
إن فيندرز دقيق جدًا في سرده لأحداث قصته، ويدرك جيدًا كيفية اختياره للقطاته، والمدى الذي ينبغي عليه فيه أن يؤسر لقطاته، ويسرد فيلمه بالكامل دون زيادة أو نقصان، إلا في بعض المواضع. فبينما قد نقوم نحن أو أي مخرج أو سائح بالتقاط لقطات وصور فوتوغرافية لشوارع المدينة ومبانيها، يقوم مهندس الصوت على نحو مبهج وسار، بالتقاط كل أصوات المدينة أو بالأحرى تسجيلها.
وعلى غرار فيلم “حالة الأشياء” نجد قصة لشبونة اختبارًا شخصي لعملية الإخراج السينمائي. وكذلك فيلم “حتى نهاية العالم”، فهو تأكيد على قوة الصورة السينمائية، ودحض لفكرة مغرية مفادها أن صور الفيديو، النقية والخالصة على نحو محض وصرف، بوسعها بطريقة ما أن ترينا الحقيقة، بعكس صور السينما.
فعندما يتقفى فينتر أثر صديقه المخرج، يكتشف أنه قد فقد إيمانه بالسينما، ونبذها وطرحها جانبًا لصالح ما تلتقطه كاميرات الفيديو، التي تلتقط صورًا خفية للمدينة، والتي يمكن نشرها أو زرعها في الأماكن على نحو عشوائي دون علم الجميع، من أجل الحصول على صور “نقية”، لم تفسد بعد، ولم تفسدها عدسة عيون التقطتها على نحو انتقائي. ومن ثم، يجد فينتر نفسه مدفوعًا لتصحيح وجهة نظر صديقه وإعادته إلى جادة الصواب، ورده لإيمانه حتى لا يكفر كلية في النهاية بعالم السينما.
وفي احتفاء آخر بالسينما وصناعة السينما، استعان فيندرز بالمخرج والكاتب الكبير “مانويل دي أوليفيرا” في مقطع يتحدث فيه عن الكون والفائدة منه، وعن الفن، وضرورة الخلق الفني، ورغبة الإنسان في محاكاة الخالق، وأنه لهذا السبب لدينا فنانين. ويقوم أوليفيرا أيضًا بأداء بعض الحركات الجميلة المضحكة، التي يحاكي فيها شارلي شابلن، في تحية واضحة له.
وكعادة فيندرز، جاء شريط الصوت الخاص بالفيلم مميزًا على نحو لافت، خاصة وقد استعان فيندرز فيه بفرقة “مدريديوسا” الشهيرة الذائعة الصيت في البرتغال. وهي فرقة متخصصة في الأغاني الشعبية أو الفولكلورية الممزوجة بألحان وإيقاعات موسيقية عصرية، بالاستعانة بالبيانو والجيتار والتشيلو والأكورديون، إلى جانب الصوت العذب للمغنية الرائعة “تيريزا سالجويرو”.
إن “قصة لشبونة”، الذي أخرجه فيندرز قبل عشرين عامًا تقريبًا، هو بالفعل بورتريه شخصي لمدينة، لكن تم رسمه وتنفيذه عن طريق الصوت. فبطل الفيلم، مهندس الصوت فيليب فينتر (روديجر فوجلر)، كان قد أرسل له صديقه المخرج فريدرك أو فريدريكو مونرو (باتريك بوشو)، كارت بوستال مُرَمّز، به الكثير من الغموض، كي يحضر إلى لشبونة لمساعدته في التسجيلات الصوتية الخاصة بفيلمه، الذي يعمل على الانتهاء منه.
بالفعل، يصل فيليب إلى لشبونة بعد رحلة مليئة بالمشقة والمواقف غير السارة والطريفة أيضًا، ليجد في النهاية شقة صديقه قد هجرت تمامًا، وليس بها سوى بضعة كاميرات قديمة، ومجموعة من علب الفيلم الخام، وأخرى مُصورة، ومفيولا قديمة، والقليل من الأثاث، ومجموعة من الكتب، وعبارة مدونة على الحائط بالبرتغالية، “هل ممكن أن أكون الجميع وفي كل مكان!”، وهي بيت شعري لـ “ألفارو دي كامبوس”، أحد أشهر ثلاثة أسماء مستعارة للكاتب البرتغالي الشهير، فيرناندو بيسوا. أما الصديق فقد اختفى على نحو غامض، ولا أحد يعرف أين هو، تاركًا خلفه فيلمه غير المكتمل.
يشرع فينتر، انتظارًا لظهور صديقه، في العمل على تسجيل الصوت الخاص بالفيلم. في البداية، يجلس إلى المفيولا ويشاهد المقاطع التي صورها صديقه للمدينة، فيحاول تخمين أماكنها والتردد عليها، والذهاب لتسجيل الأصوات الخاصة بها. كذلك نجد يجوب لشبونة بحثًا عن كل وجميع الأصوات التي يصادفها سمعه، مستعينًا طيلة الفيلم بالميكرفون وجهاز التسجيل الخاص به، فيسجل أصوات الطيور والقطارات والشاحنات والسفن والكباري إلى آخره.
وبعد بحث وتحري، سرعان ما يدرك أن صديقه يعاني من مشكلة خطيرة، لا تتمثل في مجرد اختفائه أو اختطافه أو تعرضه لحادث ما، وإنما في تساؤل طويل بات يؤرقه بشدة، عن معنى السينما أو الغرض من التصوير السينمائي وصناعة الأفلام برمتها، والمعضلة التي يسعى لحلها بين السينما التي يرغبها كفن والسينما كتجارة. “لماذا تضيع حياتك في صور تافهة بينما في وسعك التقاط صور لا غنى عنها بواسطة قلبك على السيلولويد السحري؟” يقول المخرج لصديقه فيليب.
ثمة مشاكل قليلة متعلقة بكتابة السيناريو، مردها دون شك لكتابة فيندرز سيناريو هذا الفيلم بمفرده لأول مرة. منها مثلا، المحادثة المطولة بعض شيء التي يخاطب فيها المخرج صديقه عبر كاميرا الفيديو، أو المونولوج الفردي لمواطن برتغالي، وكذلك الخاص بالمخرج أوليفيرا. وبالطبع، الحوار المباشر جدًا في نهاية الفيلم بين المخرج وفيليب، وشرحه لحالته ورغبته في سينما نقية لم تلوث بعد على غرار رجل الكاميرا لباستر كيتون أو رجل بكاميرا متحركة لدزيجا فيرتوف.