محمد هاشم عبد السلام

 

13/2/2018

 

يتحدث فيلم “لم تٌظلم بعد” عن المخرج السينمائي الإيرلندي “سايمون فيتزموريس”،وعن حياته، الشبيهة بالمعجزة،وهو من إخراج الإيرلندي الشاب “فرانكي فينتون” .

كثيرة هي الأفلام الروائية الطويلة أو حتى القصيرة، ناهيك عن الكم  الهائل من الأفلام التسجيلية، التي تصدمنا كل يوم بما يقع من أهوال وكوارث في عالمنا، حروب وإهدار دماء  ومجاعات إلى آخره. ومعظمها، ليس لعلة في تلك الأفلام بالطبع وإنما طبيعة ما تنقله، يُصيب المرء بالتوتر والحزن والحسرة، وربما بالكآبة والأفكار السوداوية، وفوق ذلك، القلق البالغ على مصيرنا كبشر في هذا الكوكب الذي مُنحت لنا الحياة فوقه. من جهة أخرى، نصادف بين الحين والآخر، وإن بات نادرًا جدًا مع الأسف، بعض الأفلام التي تُدخِلُ أيضًا، ليس فقط السرور أو مجرد الترفيه والاستمتاع بالفن، الأمل والتفاؤل وحب الحياة وعدم الاعتراف بالمستحيل، والإيمان بغد أفضل ما دام القلب ينبض.

“لم تُظلِمُ بعد، لا يزال بإمكاني رؤية بعض الضوء في آخر النفق… ما زالت إنسانًا، لا زلت هنا، أشعر بكل شيء، قلبي لا يزال ينبض بالحياة… كان ينبغي عليّ أقرر ما إن كنت سأرغب في الموت أو مواصلة الحياة، قررت أن أعيش، أن أعيش، أن أعيش”. كانت تلك كلمات المخرج السينمائي الإيرلندي “سايمون فيتزموريس”، التي كانت حياته، الشبيهة بالمعجزة، مادة خام نادرة، دفعت المخرج الإيرلندي الشاب “فرانكي فينتون” لصناعة فيلم حولها، أطلق عليه “لم تُظلم بعد”.

لم يسبق لي من قبل أن سمعت باسم المخرج “سايمون فيتزموريس”، ولا شاهدت فيلميه التسجيليين “دائرة كاملة” و”صوت البشر” ولا فيلمه الروائي الطويل “اسمي إيميلي”. لكن من المؤكد أنه بعد مُشاهدة فيلم المخرج “فرانكي فينتون”، “لم تُظلم بعد”، لم يعد “سايمون فيتزموريس” بالنسبة لي محض اسم لمخرج مجهول أو شبه مغمور أو ربما متواضع الموهبة، بل بات مثالا لقمة تُحتذى في الجَلَدِ والتحمل والعزيمة والإصرار وحب الحياة. فلولا كل هذا، لكان “سايمون” قد حمل اسمه معه إلى القبر منذ سنوات بعيدة، دون أن ندري عنه أو عن كفاحه أي شيء. أمثال “سايمون” بالفعل قلة في حياتنا، لكن ما أن يوجدوا حتى يبعثوا فينا الكثير من الحياة والأمل في الغد، ويشعروننا بالحرج من ذواتنا، من ضعفنا وسرعة استسلامنا، وأنفاسنا القصيرة.

يتناول الفيلم مسيرة كفاحه مع زوجته “روث” وأطفاله الخمسة، ضد مرض الخلايا العصبية الحركية أو العصبون الحركي.

عندما وقف “سايمون”، قبل عشر سنوات تقريبًا، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ليقدم فيلمه التسجيلي الثاني “صوت البشر” في مهرجان “سان دانس” عام 2008، لم يكن يتصور أبدًا أنه بعد مرور عشر سنوات تقريبًا، سيعود هذا الشاب المُتفجر بالطاقة والنضارة والحيوية، إلى ذات المهرجان، لكن هذه المرة، كمادة لفيلم وثائقي يسرد مأساته خلال العشر سنوات الأخيرة. ويتناول مسيرة كفاحه أيضًا على مدى تلك السنوات مع زوجته “روث” وأطفاله الخمسة، ضد مرض الخلايا العصبية الحركية أو العصبون الحركي. وهو تقريبًا نفس مرض العالم الكبير “ستيفن هاوكنج”. لكن، الاختلاف بين حالتي “ستيفن” و”سايمون”، أن الأول أصيب به على مدى سنوات طويلة نسبيًا ومنذ أن كان في الحادية والعشرين من عمره. أيضًا، في حالة “سايمون”، قدّر له الأطباء العيش لشهور معدودة فحسب، في حين قدّروا لحياة “ستيفن” بضعة أعوام على الأكثر.

تخرّج “سايمون” في جامعة ماساتشوستس، وحصل بعد تخرجه على درجة الماجستير في السينما. وكان فيلم تخرجه، وأول أفلامه التسجيلية القصيرة “دائرة كاملة”، قد فاز عنه بجائزتي أحسن فيلم بمهرجاني “أوبرهاوزن” و”بلفاست” عامي 2004. في تلك الأثناء، كان “سايمون” على علاقة حب عميقة جمعته بأول وآخر حب وامرأة في حياته، زوجته المستقبلية وأم أولاده وسنده في الحياة “روث فيتزموريس”. حفزه هذا النجاح، في العمل والحب، على المزيد من الإبداع من أجل إنجاز فيلمه الثاني “صوت البشر”، الذي شارك في عدة مهرجانات وفاز بجوائز قليلة.

فاز أول أفلام ” سايمون” التسجيلية القصيرة “دائرة كاملة”، بجائزتي أحسن فيلم بمهرجاني “أوبرهاوزن” و”بلفاست” .

يفتتح المخرج “فرانكي فينتون”، فيلمه بلقاء حافل يلتقي فيه “سايمون” بجمهوره بمناسبة حفل إصدار كتابه “اسمي إيميلي”، والمأخوذ عنه فيلمه الروائي الأول، وذلك بعد تعليق صوتي لـ “سايمون”، بصوت الممثل الأيرلندي الشهير “كولن فاريل”، يتحدث فيه عن تجربته بقدر من العمق الفلسفي، والحكمة والبصيرة النافذة، المستقاة كلها من تجربته الأليمة. لكن، برغم كل الشجن الذي يغلب تلك الكلمات، التي نسمعها بصوت “فاريل” على شريط الصوت من فترة لأخرى، وتختتم الفيلم، فإنها تحمل الكثير من الأمل، وتبعث في النفس الكثير من التفاؤل والتحدي أو على الأقل، عدم الاستسلام بسهولة.

كان مخرج الفيلم “فرانكي فينتون” محظوظًا إلى حد كبير، ليس فقط لأن الموضوع الذي يتناوله فيلمه على قدر كبير من الأهمية والإنسانية، ولكن بالأساس لأن بطله هو في الأصل مخرج، وهذا يعني أن قوام مادة الفيلم الرئيسية، الصور الأرشيفية والتسجيلات إلى آخره، لم يكن من الصعب توفيرها. لا سيما وأن “سايمون” وزوجته حرصا منذ بداية المرض على التسجيل المُكثف لجميع مراحله، إلى جانب بالطبع تلك المراحل التي صاحب فيها المخرج “فرانكي” بطله “سايمون”، على مدى سنوات مرضه وتدهور حالته الصحية. كذلك، استعان “فرانكي” بوالدي “سايمون”، الأب “داميان” والأم “فلورينس”، وشقيقته الصغرى “كيت”، وصديقه منذ الطفولة “فيل”. بالإضافة، بالطبع، أو قبل كل هؤلاء، زوجته وحبيبته “روث”، التي كابدت وتحمّلت ولم تهن أو تضعف لحظة. وكانت السبب في مواصلته وتحمله للحياة، وتربية الأبناء، حتى وكنا نراها تُغالب دموعها ويختنق الكلام في حلقها مرات أثناء التسجيل، وتذكرها لتفاصيل ما حدث.

يضع الفيلم أمام عيني المُشاهد تلك المراحل الزمنية المُتباينة من حياته كشاب سليم البنية في تمام صحة وتألقه، وحتى جلوسه مشلولا تمامًا ظاهريًا إلا من حركة عينية وصوته الآلي الكمبيوتري.

كثيرون حول “سايمون”، بمن فيهم والده، خاصة بعدما أخبرهم الأطباء في بداية الأمر بشهوره المعدودة في الحياة، رغم أن حالته الصحية لم تكن قد تدهورت بعد، بأنهم لن يقفوا ضد حقه في البقاء على قيد الحياة من عدمه، فتلك حياته، وهو وحده من يقرر الاستمرار فيها على هذا النحو أم لا، حتى وإن لأشهر معدودات. كان “سايمون” بصدد اتخذ قراره المصيري، خاصة بعد أن تدهورت حالته الصحية، وبات عاجزًا عن المشي والحركة والقيام بأي شيء، خلا التنفس والبلع وبعض الكلام غير المفهوم. وفي تلك الأثناء، يعلم “سايمون” أن زوجته حبلى في طفل رابع، ويتضح لاحقًا أنها حامل في توأم، ليمسي عدد الأسرة بعد شهور قليلة سبعة أفراد. ربما كانت تلك المصادفة حافزًا إضافيًا لـ “سايمون” من أجل إكمال حياته ورؤية توأمه.

بالرغم من أن الحياة قست عليه أكثر وأكثر، خاصة بعد ولادة طفليه. إذ فجأة، فقد “سايمون” حتى القدرة على النطق أو البلع أو التنفس، وبات غير قادر ولو للحظة على عدم الاستعانة بالأجهزة المساعدة من أجل التحرك والتنفس والأكل والشرب إلى آخره. لم يفتّ هذا من عزيمته، بل على العكس، بات يحلم كل يوم بأن يرى مشروعه النور، سواء على هيئة كتاب أو فيلم، وإن استبعد الفرضية الأخيرة، نظرًا لاستحالة المغامرة بإنتاج فيلم لشخص في عداد الأموات. “أفتقد كثيرًا صوته، ولذا أدير من حين لآخر جهاز الرد على الرسائل التليفونية لأسمع صوته، أنساه تدريجيًا”، تقول “روث”، مُنتحبة جراء انفطار قلبها على ما حدث لزوجها. من ناحيته، يعاني “سايمون” مع جهاز الكمبيوتر الذي بات عليه التعامل معه بعينيه من أجل ترجمة ما يريد إيصاله للآخرين، لكن قبل كل ذلك يقول ضاحكًا: “لا أستطيع مطلقًا أن أستسيغ لهجته الأمريكية، المغايرة تمامًا للهجتي الأيرلندية”.

استطاع “سايمون” عبر تعليمات من عينيه يرسلها إلى شاشة الكمبيوتر فتتحول إلى كلمات، أن ينتهي من تصوير أول فيلم روائي له، “اسمي إيملي”.

تضطر “روث” مع الوقت للاستعانة بممرضة للاعتناء بزوجها، كي تتفرغ لمهامها في رعاية الأبناء الخمسة وواجبات المنزل. وبدوره، يعمل “سايمون” جل جهده كي يُخرج حلمه إلى النور. وسرعان ما ينتهي من سيناريو الفيلم، وتبدأ رحلة البحث الشاقة عن التمويل، والجهود المبذولة من أجل الحصول عليه. وبعد شهور قليلة قضاها “سايمون” وفريق عمله في مواقع التصوير، ومن فوق كرسي متحرك، وفقط عبر تعليمات من عينيه يرسلها إلى شاشة الكمبيوتر فتتحول إلى كلمات، ينتهي من تصوير أول فيلم روائي له، “اسمي إيملي”، وسط احتفاء كبير به ممن حوله. ويُعرض الفيلم بالصالات ويلقى الكثير من النجاح، ويطوف عدة مهرجانات دولية.

يُحسب لمخرج الفيلم، دون شك، ذلك الجهد المبذول في تنقية المواد الفيلمية والأرشيفية التي حصل عليها أو التي قام بتسجيلها، ثم اختصارها واختزالها في فترة زمنية لا تتجاوز الساعة وثلث الساعة. وقد استطاع خلال تلك المدة، بصدق، أن يسرد قصة حياته “سايمون”، ويضع أمام عيني المُشاهد تلك المراحل الزمنية المُتباينة من حياته كشاب سليم البنية في تمام صحة وتألقه، وحتى جلوسه مشلولا تمامًا ظاهريًا إلا من حركة عينية وصوته الآلي الكمبيوتري. كذلك، تلك اللفتة الإنسانية الجميلة التي أولاها لزوجة “سايمون”، “روث”، إذ وضع صورتهما معًا على ملصق الفيلم، ليُضيف لفيلمه المزيد من المعاني – بخلاف تلك التي منحنا “سايمون” إياها – عن مدى الولاء والإخلاص والتفاني والحب والتضحية، وغيرها الكثير، من أجل الزوج والحبيب والأسرة. فعلا، لولا “روث”، لكان من الصعب جدًا على “سايمون” أن يحقق كل هذا النجاح، وأن يواصل كفاحه هذا بدأب وصبر، أنهما معًا قصة أمل عظيمة يندر تكرارها. والفيلم برمته، طاقة أمل ونور وسط طاقات سلبية كثيرة تُحيطنا، وظلام يكاد يُطبق على حياتنا، لكنها لحسن الحظ، لم تُظلمُ بعد.