محمد هاشم عبد السلام

 

بعد فترة توقف امتدت لما يقترب من سبع سنوات، عاد المخرج الأمريكي المتميز تود هاينز من جديد ليقدم واحدة من تحفه السينمائية اللافتة. وتدور أحداث فيلم “هاينز” الجديد، والذي يحمل عنوان “كارول“، في منتصف القرن الماضي بأمريكا، وتحديدًا في عام 1952. تتقاطع أحداث فيلم “كارول”، الذي يدور حول علاقة حب مثلية بين امرأتين، مع أحداث أبرز أفلام “تود هاينز” السابقة، والذي يحمل عنوان “بعيدًا عن السماء”، والذي لامس فيه قضية الخيانة والتفاوت الطبقي والعرقي والمثلية أيضًا، وكانت أحداثه تدور كذلك في سنوات الخمسينات من القرن الماضي.

على النقيض من فيلم “بعيدًا عن السماء”، الذي كتب له “تود هاينز” السيناريو، يستند فيلم “كارول” إلى رواية الأديبة والكاتبة الأمريكية الشهيرة “باتريشيا هايسميث”، التي تحمل عنوان “ثمن الملح”، والتي صدرت في بداية خمسينات القرن الماضي. وبالرغم من أن الرواية قد صدرت تحت اسم مستعار هو “كلير مورجان”، لكن من المعروف أن الرواية، التي تعتبر الآن من كلاسيكيات الأدب المثلي، كانت سابقة لعصرها بالفعل في جرأتها وتناولها لمثل هذا الموضوع الشائك للغاية، خاصة في تلك الفترة، وهي بأي حال من الأحوال لم تكن فترة تتسم بالكثير من التفهم والتسامح، والاعتراف أيضًا بالحب المثلي، مثلما هو الحال الآن. وقد استطاعت كاتبة السيناريو “فيليس ناجي” أن تُقدِّم سيناريو فيلم لا يقل روعة وقوة وأهمية عن الرواية المقتبس عنها.

وبغض النظر عن كون الرواية شبه سيرة ذاتية لكاتبتها، فإننا لو تأملنا الأمر من ناحية أخرى، سنجد أن الغرض الأساسي الذي كتبت من أجله “باتريشيا هايسميث” روايتها الجريئة تلك، لم يكن الجدل في حد ذاته، بقدر إحداث صدمة لدى القراء، وإماطة اللثام عن المسكوت عنه من جانب المجتمع أو على أقل تقدير تسليط الضوء على وجود مثل هذا النوع من العلاقات في المجتمع، والتي نادرًا ما تناولها الأدب، لا سيما وإن كانت متعلقة بالنساء، وخاصة المنتميات إلى الطبقات الراقية، في تلك الفترة على وجه التحديد. وليس ثمة شك في أن هذا كله، وربما ما هو أكثر، كان يدور في ذهن الأديبة “هايسميث” عندما أبدعت روايتها “ثمن الملح”، ومن المحتمل أن تكون الرواية قد استطاعت آنذاك أن تلمس كل تلك الأوتار بعمق وحدة وجرأة. لكن ما الذي كان يسعى “تود هاينز” وكاتبة السيناريو إلى ملامسته في فيلم “كارول”؟

بالتأكيد لم يكن غرضهما أي شيء مما سبق ذكره، نظرًا لأن كل تلك الأمور باتت مطروقة الآن وعادية واختلفت نوعية الاستجابة أو ردود الفعل تجاهها، على الأقل، في المجتمع الذي تدور به أحداث الرواية والفيلم. كذلك، ليس “تود هاينز” من نوعية المخرجين الذين يسعون للإثارة أو لفت الأنظار، والدليل أنه تجنب ببراعة شديدة الانزلاق في فخ تلك النوعية من الأفلام، التي عادة ما تلعب على المشاعر وابتزازها أو تجنح للحسية المُبالِغة لدرجة إثارة النفور، ومن ثم، فلسنا أمام فيلم عاطفي غارق في الرومانسية أو العذاب والهجر ولا حتى الولع بتجسيد العلاقة الجنسية المثلية على الشاشة وجعلها محور الاهتمام الأساسي دون ما عداها.

كما جانب المخرج المُرهف حقًا “تود هاينز”، البارع فعلا في رصد أدق المشاعر النسائية وأكثر رهافة وتقديمها بسلاسة وعمق وجمال على الشاشة، التوفيق في الابتعاد عن تقديم فيلم من وجهة نظر ذكورية بحتة. فقد تلاشى “هاينز” هذا بتقديمه للفيلم من وجهة نظر الحبيبتين – “كيت بلانشيت” في أداء رائع ترشحت عنه للأوسكار هذا العام و”روني مارا” في أداء شديد الانسيابية والجمال فازت عنه مناصفة بجائزة أحسن ممثلة بمهرجان “كان” العام الماضي – اللتين نرى قصة حبهما تُنسج ببراعة وصدق، وتتفتح بعفوية وطبيعية أمام أعيننا، دون أي تكلف أو ابتذال أو فرض لأي وجهة نظر أو تصور أو أحكام مُسبقة.

إن فيلم “كارول” يحاول، أيضًا، تسليط الضوء على طريقة تفكير وتعامل المجتمع الأمريكي في تلك الفترة، ويجعلنا نقارن بين عصرنا الآن وبين تلك التحديات والعقبات الاجتماعية والأخلاقية الخانقة لتلك الحقبة الزمنية، والتي كان على المُختلفين خوضها أو التعرُّضِ لها. وهو ما رأيناه مع بطلة فيلمنا “كارول” (كيت بلانشيت) التي اضطرت في النهاية إلى الاختيار المُر، بناء على الأخلاقية المُحرمة أو المُجرمة لمثليتها الجنسية، بين حضانة ابنتها والبقاء مع محبوبتها، وذلك بعدما فشلت جميع محاولات زوجها في التمسك بها وعدم المضي قُدمًا في إجراءات الطلاق، رغم حبه لها وغيرته عليها ومعرفته بطبيعة علاقاتها المثلية. وذلك كله من دون توريطنا في خيوط فرعية تُبعد الفيلم عن الخط الرئيسي أو تثقل علينا كمُشاهدين.

تدور الأحداث في مدينة نيوريورك، حيث تعمل “تيريز بيلفيت” (روني مارا) في متجر ضخم بحي “مانهاتن”، في قسم لعب الأطفال، حيث تذهب “كارول” لشراء دمية لابنتها من أجل احتفالات أعياد الميلاد، فتنصحها “تيريز” بشراء قطار كهربائي. منذ أن وقعت عينيها عليها، وبعد تبادل مقتضب للحديث بينهما، انجذبت “كارول” على نحو ملحوظ للفتاة الشابة، التي تنضح بالجمال والبراءة، فانعقدت بينهما رابطة سحرية بدت أبدية وغير مشروط، جعلتنا نوقن بما لا يدع أي مجال للشك أنه حب من أول نظرة، وأن ثمة ما بدأ يتأجج بين هاتين المرأتين. ولأنها تأكدت، بحكم السن وخبراتها السابقة، من صدق النظرة وما يكمُنُ تحتها، تترك “كارول”، عن قصد، قفازها كدعوة من جانبها للفتاة “تيريز” من أجل لقاء جديد، ليس عابرًا، في المستقبل القريب.

وبالفعل، تتخذ “تيريز” القفاز ذريعة للذهاب إلى منزل “كارول”، التي لم تتفاجئ بالمرة بزيارة “تيريز” لها، ومن ثم، تتطور العلاقة البيوريتانية بين المرأتين إلى حب أفلاطوني صِرف مُجرد عن أي شيء، خلا الصدق والانجذاب العاطفي الجامح بينهما، وإن كان التصريح بالمشاعر يظل ملجُومًا، ولا يتم التعبير عنه كلية، حتى بعدما حدث أول تلامس جسدي بينهما، بعد فترة طويلة من تعارفهما، وإصرارهما على خوض المغامرة معًا وتحدي المجتمع وكافة القيم والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، وأيضًا الفارق السني والطبقي. ولذا، نراهما يقومان معًا بنزوة عِشقية أو شهر عسل وجيز، سرعان ما يُجهض، عبر رحلة بالسيارة إلى خارج “نيويورك” بعيدًا عن الناس والمجتمع والزوج والخطيب، حيث تترك “كارول” زوجها “هارج أيرد” (كايل تشاندلر) مُصممة على الطلاق منه، وتترك “تيريز” خطيبها “داني ماك إيلوري” (جون ماجيرو).

وبالرغم من هذا التحدي السافر لكل القيم والأعراف والقوانين، إلا إن علاقة المرأتين يغلب عليها قوة المشاعر العاطفية والإنسانية والرقي والسمو في الحب، أكثر من أي شيء آخر. وبالرغم من تمرس “كارول” في مثل تلك العلاقات، والتأكيد عبر الفيلم على علاقاتها السابقة، لكنها على سبيل المثال لم تنطق بكلمة “أحبك” لفتاتها “تيريز”، على نحو صريح وعلني، ولا حتى أبدت رغبة أو شهوة جارفة تجاهها. وذلك بالرغم من أن “كارول” إنسانة مُسيطرة بعض الشيء، وتتسم بالثقة والقوة والجرأة أيضًا، بينما شخصية “تيريز” على النقيض منها بعض الشيء، إذ تتسم بالثبات والهدوء والتأمل، وعدم القدرة على التعبير عما يختلج داخلها سوى بابتسامات مقتضبة أو نظرات مُعبرة من عينيها الساحرتين، ويغلب على تصرفاتها إجمالا الخجل الشديد.

لقد استطاع “تود هاينز”، عبر فيلمه الشاعري الجميل والعميق معًا من كافية النواحي، وعلى نحو لافت للغاية أن يعيدنا، من خلال اعتنائه الشديد جدًا بكافة التفاصيل الدقيقة، إلى سنوات الخمسينات من القرن الماضي وروعة الأفلام الكلاسيكية، وذلك عبر اهتمامه البالغ بالديكورات أو الاكسسوارات أو الملابس وكل ما يميز أجواء تلك الفترة. وهذا ينسحب أيضًا على ملابس بطلتي الفيلم والتي تعكس وتؤكد شخصيتيهما إلى حد بعيد، فبينما ترتدي “كارول” الملابس الفخمة التي تدل على طبقتها الاجتماعية وسِنها، نجد “تيريز” شديدة البساطة في ملبسها وألوانها ونوعيتها والتي تعكس طبيعة طبقتها المتوسطة ومرحلتها السنية اليافعة.