محم هاشم عبد السلام

قطعًا، يسمع الجميع يوميًا بأسماء أشهر رواد الأعمال في عالمنا، ويقرأون دائمًا عن قوائم الأكثر ثراءً. إذ تطالعنا يوميًا أخبار شركاتهم، وتفاصيل حياتهم، وكم يحصدون من المال، ليس سنويًا ولا شهريًا أو أسبوعيًا، بل كل دقيقة. ومن ثم، ليس غريبًا أبدًا تداول وحفظ أسماء مثل: إيلون ماسك أو جيف بيزوس أو مارك زوكربيرغ أو بيل غيتس، وغيرهم. كما من المستحيل أن أحدًا لم يسمع مثلًا بـ”أمازون” أو “تسلا” أو “ميتا” أو “إكس” أو “مايكروسوفت” أو “أبل” أو “أرامكو”. لكن، الأكثر مدعاة للغرابة ذلك الجهل التام بأسماء شركات عملاقة فعلًا مثل: “فيتول”، و”غلينكور”، و”ترافيغورا”.
إن سيل الأخبار المتدفقة كل لحظة عن رجال الأعمال والأثرياء، وكبريات الشركات المعروفة والمتغلغلة في حياتنا اليومية حتى داخل منازلنا، رسّخ لدينا يقينًا لا يتزعزع في أن هؤلاء هم سادة العالم، وأن تلك هي شركاته الكبرى فعلًا على ظهر الكوكب. الحقيقة، إن هؤلاء ليسوا سوى الواجهة المعروفة للتجارة العادية المعلنة، والأرباح التي يمكن رصدها، والأرقام الناجمة عن أنشطة يمكن تتبعها. بينما أكبر وأضخم الشركات، المالكة لرؤوس الأموال الكبرى، والأشخاص أصحاب الحيازات المالية الطائلة، أو باختصار، من يديرون كوكبنا فعلًا، فليسوا معروفين لنا بالمرة.

مجرد محاولة لكشف الغطاء

بصعوبة بالغة، أمكن مؤخرًا معرفة أسماء وأنشطة بعض هذه الشركات. وذلك بفضل الجهد البحثي المبذول والمنقول في كتاب “العالم للبيع: المال والسلطة وتجار يقايضون موارد الأرض” للصحافيين خافيير بلاس وجاك فاركي. صعوبة تتبع وتعقب هذه الكيانات نابعة من أن الكثير منها اختفى، أو اندمج مع أخريات، أو جرى الاستحواذ عليه عبر التاريخ المعاصر. ما تبقى هي الأسماء الأشهر، أو “بنوك الظل”، كما يطلقان عليها في فصل بعنوان “من هم تجار العالم؟” ويقصدان بهذه التسمية كيانات مثل: “غلينكور” و”فيتول” و”ترافيغورا”، وأغلبها شركات مملوكة لأفراد أو لعائلات.
يُدخلنا كتاب “العالم للبيع: المال والسلطة وتجار يقايضون موارد الأرض” للمؤلفين خافيير بلاس وجاك فاركي إلى الساحة الخلفية التي يُدار من خلالها اقتصاد العالم، منذ عقود، وحتى الآن. ويوضحان كيف يتم التحكم في مصائر ومقدرات وممتلكات وأقوات قارات ودول وشعوب بأكملها، بدون أدنى مبالغة البتة. الصورة المرصودة في الكتاب تنقل، على نحو غير مسبوق، كيفية وآلية تشابك السياسة الدولية والاقتصاد العالمي مع تجارة هذه الشركات، ومع المتحكمين فيها أو المعروفين بـ”تجار السلع”.
بشق الأنفس، أمكن للمؤلفين خافيير بلاس وجاك فاركي، الصحافيين المتخصصين منذ عقود في الكتابة عن أسواق السلع والطاقة، جمع ما تيسر من مواد ومعلومات وأرقام وخبايا هذه الشركات، والقائمين عليها، عبر أبحاث ميدانية وتحقيقات صحافية مكثفة، ومقابلات مع عشرات التجار، والاطلاع على وثائق داخلية، وتقارير مالية، وعقود وصفقات، لم تكن معروفة أو متاحة من قبل. وذلك، رغم استحالة الأمور، واعترافهما بالعجز عن القيام بالعمل على أكمل وجه، وإمكانية كشفهما للحقيقة كاملة. فالأمر، على حد قولهما، تعجز عنه حتى أعتى أجهزة المخابرات. ليس في الأمر مبالغة بالمرة.

خاصة، عندما نقرأ في متن الكتاب عن كيفية استعانة أجهزة مخابرات كبرى بعملاء وموظفين في هذه الشركات، لجمع معلومات وبيانات وإحصاءات دقيقة، عن أنشطة بعض الدول وأسواقها وعملاتها وتجارتها، وحتى أحوالها الاجتماعية.

أسئلة بالجملة

ما سر هذه الشركات؟ لماذا لم نسمع عنها؟ وكيف تتحكم في مقدرات كوكبنا على هذا النحو؟ أهي شركات مخدرات وممنوعات أو ما إلى ذلك تُحاط بهذه السرية أم ماذا؟ تلك عينة من الأسئلة المثيرة التي تحاول فصول الكتاب الإجابة عنها. الأكثر إثارة للانتباه والدهشة أن تجارة هذه الشركات وأفرادها مشروعة تمامًا، في الغالب، بل ولا غنى عنها بالمرة للحياة على ظهر كوكبنا. إذ إن هذه الشركات، باختصار، هي المتحكمة في عالم تجارة السلع الأساسية. أي، الحبوب، والنفط، مرورًا بالمعادن، وغيرها من السلع المحورية في حياة البشر ومعيشتهم. عن تلك الفئة من التجار، التي أصبحت محورية في تحريك الاقتصاد العالمي برمته، وكثيرًا ما تعمل في الظل، يغوص “العالم للبيع”، الصادر في 408 صفحات، عن دار الساقي، بترجمة: مالك سلمان، في هذا العالم الخفي والمجهول والمرعب، من خلال 13 فصلًا، وخاتمة وملاحق وخرائط.
يكشف الكتاب أيضًا عن أن هؤلاء التجار الوسطاء، بعضهم مستقل والآخر ينتمي أو على رأس شركات ضخمة، يمكن أن يمارسوا نفوذًا كبيرًا على السياسات والصراعات والعلاقات الدولية، بصفة عامة، وليس على أسعار السلع وتوجهات الاقتصادات والأسواق فحسب. وعن التقاطع الجلي بين المال والسلطة في أبرز صوره، المعقدة والمخيفة فعلًا. وأن العادي استخدام هؤلاء التجّار لما تحت أيديهم من سلع أو أموال لممارسة الضغوط والنفوذ على أنظمة، بالأحرى استغلالها، لعقد صفقات مريبة في دول تشهد فسادًا أو نزاعًا أو خضوعًا لعقوبات دولية.
كما يناقش الكتاب كيف أن بعض الصفحات المعتمة، ضمن هذا العالم الخفي، تنطوي على حيل ذكية للتهرب من العقوبات، وإخفاء المعاملات المالية، والتلاعب بالوسائل القانونية وغير القانونية للحفاظ على المصالح، وذلك عبر رصد لتاريخ تطور تجارة السلع العالمية. خاصة، بعد الحرب العالمية الثانية، مرورًا بصعود الصين، وتحول الأسواق بتأثير انهيار الاتحاد السوفياتي، وصولًا إلى المتغيرات الحديثة، مثل القضايا البيئية، وتغيّر المناخ، وزيادة المراقبة الإعلامية والتنظيمية. بل ويضربان أكثر من مثال على كيفية إسهام التجار، وبعض الشركات، في الحفاظ على بعض الأنظمة واستمراريتها، رغم العقوبات أو الأزمات المالية، وحتى إقراض حكومات بلدان أوشكت على الإفلاس، أو انهارت عملاتها، أو رفضت الصناديق الدولية والبنوك الكبرى إقراضها. ومن ثم، إنقاذها من أخطار الانهيار والإفلاس والمجاعة والاضطرابات.

سر قوة التجار

“العالم للبيع” ليس تحليلًا نظريًا محضًا، بل يمزج بين الحكايات الشخصية لمتداولين، ووصف صفقات وتفاصيل سياسية، على نحو واقعي مشوق، رغم أن كثرة المعلومات والتقلب بين الأسماء والدول قد يُربك أحيانًا. كما أن الكتاب ليس مجرد سرد لقضايا اقتصادية وتجارية وسياسية فقط، بل تحليل لأسباب وآثار، وتوضيح كيف أن التجارة ليست محايدة، ومرتبطة جدًا بالأخلاق، والبيئة، واستنزاف موارد الكوكب، وحقوق الإنسان، وغيرها.
من ناحية أخرى، يستعرض الكتاب – الذي يُمعن في تغطية فترات حديثة تمتد إلى ما بعد عام 2010، وأزمات معاصرة مثل تلوّث البيئة وتغيّر المناخ، والتأثيرات الجيوسياسية الأخيرة- سرَّ قوة هؤلاء التجار. وفقًا لما ذُكِرَ، أكثر من مرة، إن هؤلاء التجار، منذ ثمانينيات القرن الماضي، تميزوا بالتواجد والاستثمار وحتى المغامرة في أماكن لا تجرؤ الدول أو الحكومات أو الشركات الأخرى أو البنوك على دخولها أو التعامل معها. إما لمحاذير قانونية أو رقابية أو مخاوف جيوسياسية أو مخاطر اقتصادية أو مجازفات مالية أو احتمالات تحقيق خسائر قريبة منظورة، مقارنة بمكاسب طائلة متوقعة غير مضمونة بعيدة المدى.

حالات تجارة سافرة

من بين الحالات السافرة المرصودة في فصول الكتاب، كيف بدأ هؤلاء في التعامل مع الضغوط البيئية المحيطة، والوقوف ضد المنظمات المعارضة. لا سيما في ظل الاتجاه إلى البحث عن بدائل متجددة للطاقة، والتفافهم حولها قانونيًا وضد آليات تطبيقها. أما أكثر الحالات سفورًا، وتمسّنا في الشرق الأوسط، فنجدها متعلقة بليبيا والعراق. وتوثق مثلًا لعمليات بيع النفط الليبي في فترة الفوضى، بعد سقوط النظام الليبي ومعمر القذافي، وحتى سنوات مضت. وقبل هذا، مثلًا، في آليات التعاون مع نظام الرئيس صدام حسين للتحايل على برنامج “النفط مقابل الغذاء”.

أما الأطرف والأكثر إثارة للدهشة، أو حتى الذهول، فهو قصة استفتاء انفصال إقليم كردستان العراق، الذي جرى عام 2017، وعلاقة استقلال الإقليم بصندوق تقاعد المعلمين في ولاية بنسلفانيا الأميركية، وكان يحتوي على 50 مليار دولار أميركي، هي مدخرات 500 ألف من المعلمين العاملين والمتقاعدين، وارتباطها بنفط إقليم كردستان وتمويل انتخابات الإقليم. كذلك، توجيه مدخرات أكثر من 600 ألف شرطي وقاضٍ وعامل أميركي لتصب أيضًا في صالح انتخابات الإقليم، مقابل الحصول على 600 ألف برميل بترول يوميًا، وهو ما يعادل نصف صادرات النرويج النفطية، آنذاك. بينما أصحاب الأموال والصناديق لا يدرون أصلًا أين إقليم كردستان. “كانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها نفط بلد ما بمثابة ضمان لقرض – وسوف يصبح هذا النوع من الصفقات واسع الانتشار في السنوات اللاحقة”، ص 305.
طبعًا، لا يقتصر الرصد على الشرق الأوسط فحسب. إذ ثمة إبحار في شؤون عجيبة لدول أفريقية، مثل الكونغو وساحل العاج. أو في أميركا اللاتينية، مثل البرازيل وفنزويلا. وطبعًا، العملاق القادم، الصين. كما يستعرض الكتاب نبذة عن دور هذه الشركات في تصريف البضائع الأوكرانية حاليًا. والأدهى، كيف حافظت بعض الشركات الغربية على تعاملاتها مع روسيا، رغم العقوبات. ومن هنا، لا نندهش من مناشدات الرئيس الحالي دونالد ترامب لدول في الاتحاد الأوروبي تحديدًا، ولأكثر من مرة، بضرورة الالتزام بمُعاقبة روسيا، وبالعقوبات المفروضة عليها، والتوقف مثلًا عن التزود بالنفط والغاز والسلع القادمة منها!
من بين الأسئلة الذكية جدًا في الكتاب: لماذا لم تُنظَّم تجارة السلع مثلها مثل البنوك أو غيرها من الأنشطة؟ وكيف أصبحت هذه الشركات دولًا داخل الدول؟ وكيف ووفقًا لأي قوانين يُسمح لها بالتهرب الضريبي، أو دفع ضرائب ضئيلة للغاية على أرباحها المليارية؟ ثمة إجابات كثيرة، بعضها بالغ الاستفزاز، رغم حقيقته المثبتة. إحداها توضح كيف أن العاملين في واحدة من هذه الشركات الكبرى لم يكونوا يعرفون مقدار أرباحها، أو حتى القيمة السوقية لأسهمهم هم أنفسهم التي يمتلكونها في الشركة التي يعملون بها، وتلك من أغرب قصص الكتاب وأطرفها عبثية.
المثير في تأمل صفحات هذا الكتاب التفكير في كيف صار هؤلاء التجار، “آخر مغامري الرأسمالية العالمية” على حد وصف الكاتبَين، الذين يعملون في الظل، أدوات ضرورية أو حتمية في الاقتصاد الحديث. إذ من دونهم، مثلًا، سينفد الوقود من المحطات، وسينفد الطحين من المخابز، وتتوقف أغلب المصانع العالمية. وذلك، رغم أنهم لا ينشطون في مجال إنتاج أو استهلاك السلع، بل الاتجار بها فقط. من هنا، ندرك مثلًا سبب عدم اكتراثهم البتة بزيادة أسعار السلع أو انخفاضها، لأن ما يعنيهم بكل بساطة هو فروق الأسعار، وتحقيق أقصى ربح من تقلباتها.