محمد هاشم عبد السلام

 

في إقليم ماهاراشترا في الهند وبالتحديد في شمال وغرب مدينة أورانج أباد، عُثر في القرن التاسع عشر الميلادي، على مجموعة من المعابد المنحوتة في الكهوف ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ظلت هذه الكهوف مجهولة ولا يدري أحد عنها أي شيء لما يزيد على ألف سنة، إلى أن اكتشفها عن طريق المصادفة الضابط البريطاني “جون” سميث الذي كان يحاول اصطياد أحد النمور في تلك المنطقة في عام 1819.

عُثر على مجموعتين من هذه الكهوف في منطقتين مختلفتين، الأولى الكهوف الممتدة عبر منطقة أجانتا والثانية مجموعة الكهوف الممتدة عبر منطقة إلورا، في عمق تلال سيهادري، وبعض هذه الكهوف المتنوعة، من حيث المساحة أو النحت أو طرق التزيين التي شقت يدويًا عن طريق الحفر والتفريغ، منحوتة في جانب التل المنحدر بشدة فوق نهر واغورا. الغريب والمدهش فيما يتعلق بأمر هذه الكهوف أنها قد تم نحتها وتجميلها وتزيينها ليس من جانب مجموعة من الفنانين أو الحرفيين المهرة المتخصصين أو البناءين بل تم إبداعها والتفنن في هذا الإبداع من جانب مجموعة من الرهبان والنساك البوذيين واليانيين والهندوس، وكان الغرض من هذه المعابد الكهفية هو استخدامها في السكن والعبادة والتأمل والدراسة.

 

كهوف منطقة أجانتا

 

تقع مجموعة كهوف أجانتا البالغ عددها تسع وعشرين كهفًا على بعد مائة كيلو متر تقريبًا من مدينة أورانج أباد في ماهاراشترا، وهي تبعد حوالي 487 كيلو متر تقريبًا عن مدينة مومبي. وهي عبارة عن مجموعة من الكهوف الصخرية المُفرغة والمنحوتة في الجبل، وقد تم نحت وتفريغ هذه الكهوف في الفترة الواقعة ما بين 200  قبل الميلاد إلى 650 بعد الميلاد تقريبًا، باستخدام أدوات بدائية ترجح المصادر أنها لا تزيد عن مجموعة من المطارق الصغيرة والأزاميل التي لا يزيد مقاسها عن بوصة ونصف. ومعظم هذه الكهوف التسعة والعشرين عبارة عن ما يسمى “فيهارات” أي مساكن، والقلة الباقية تسمى “تشيتياس” أي معابد، ويبلغ عدد الفيهارات خمسًا وعشرين وعدد التشيتياس أربعة وتشغل الكهوف التي تحمل الأرقام التالية (9، 10، 26، 29).

من أهم السمات التي تتميز بها مجموعة التشيتياس الموجودة في منطقة أجانتا، هو ضيقها وعمقها الشديدين، وأيضًا وجود ما يسمى بالإسطبة في نهاية كل واحدة منها، والإسطبة عبارة عن برج بوذي على شكل هرم أو قبة، كما أنها تتميز أيضًا بوجود صفوف من الأعمدة الممتدة على جانبي الكهف أو التشيتياس وحول الإسطبة. أما الفيهارات أو مساكن الرهبان فهي مكونة بوجه عام من خلايا أو غرف صغيرة الحجم على جانبي الكهف.

ومجموعة كهوف منطقة أجانتا بوذية كلها، ومشهورة أكثر برسومها ونقوشها البارزة داخل جدران الكهوف، تلك الرسوم النحتية التي تصور وتسجل بدقة شديدة تطور وتقدم فن المعمار وفن النحت البوذي في الفترتين الهينيانية والمهايانية. والفترة أو المرحلة الهينيانية هي الفترة التي تم فيها عبادة وتأليه البوذا وتصويره على هيئة رموز وأشكال فقط، حيث البوذا لم يكن مصورًا أو ممثلاً في الشكل البشري المتعارف عليه الآن، أما الفترة اللاحقة للهينيانية والتي تسمى بالمهايانية، فقد أتخذ فيها البوذا الشكل البشري وبدأ الرهبان في تصويره في أشكال وأحجام مختلفة، مع رصد العديد من الحركات والسكنات والأفعال اليومية الحياتية التي كانت تصدر عنه، وذلك بطريقة غاية في الروعة والإعجاز. نشاهد، على سبيل المثال، في الكهف رقم ستة وعشرين تصوير نحتي بحجم كبير جدًا للبوذا وهو مضجع متوسدًا يده اليسرى، ونلاحظ أن النحت رغم أنه يصور لنا جسد البوذا بحجم كبير يكاد يكون مبالغًا فيه، إلاّ أنه أبرز لنا وبصدق ملامح الوجه البوذي، حيث الهدوء والسلام والصفاء وجمال الوجه، وقد تعمد الفنان أن يعطي كل هذه الانطباعات بل وأكثر منها لدى من يشاهده تبعًا لتغير الضوء الساقط على الوجه النحتي للبوذا.

تحتوي المرحلة الهينيانية على عدد 2 تشيتياس (كهفي رقم 9، 10) وأربعة فيهارات (كهوف 8، 12، 13، 15 أ). أما المرحلة المهايانية فتحتوي على ثلاثة تشيتياس (كهوف 19، 26، 29 وتبدو غير مكتملة) وعلى عدد إحدى عشرة فيهارة غاية في الروعة وتحمل كهوفها الأرقام التالية (1، 2، 4، 6، 7، 11، 15، 17، ومن 20 إلى 24).

تشير المصادر التاريخية بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن كهوف أجانتا من عمل الإنسان، وأن من قام بنحتها هم الرهبان والنساك البوذيون قبل أكثر من ألفي عام. لكن معظم هذه المصادر تضاربت عندما تعرضت إلى سبب اختيار الرهبان البوذيين لهذه المنطقة بالذات لنحت كهوفهم أو معابدهم الكهفية. بعض هذه المراجع أرجع ذلك إلى أن منطقة أجانتا نشأت كجيب ديني محاط بالعديد من الأراضي التي كانت تضطهد الرهبان البوذيين، والبعض الآخر أشار إلى التجائهم إليها احتماء في موسم هبوب الرياح الموسمية الهندية الشهيرة، هذا إلى جانب الكثير من المراجع التي عزت الأمر إلى أسباب أخرى كثيرة كالعزلة أو طبيعة الرهبنة والتنسك. أيًا كان السبب فقد أخذ الرهبان والنساك البوذيون في ذلك الوقت بتطوير الكهوف وتوسيعها بحيث أصبحت بمثابة أديرة دائمة، وليست مجرد كهوف عادية للاحتماء أو التنسك، فهناك أديرة كانت تؤوي ربما ما يزيد عن مائتي راهب وناسك. وقد خلَّفَ لنا الرهبان البوذيون في منطقة أجانتا مجموعة من الكهوف أو الأديرة هي غاية في الإعجاز والفخامة سواء من حيث تصميمها أو تزيينها عن طريق الأشكال النحتية البديعة التي تصور حياتهم اليومية والأساطير والحكايات البوذية إلى جانب الأشكال النباتية والحيوانية المميزة للبيئة في ذلك المكان، أو بالأثاث والأعمدة والمقاعد والدرجات وقاعات الصلاة. والمثير للدهشة أن هذا العمل كان يتم على ضوء مصابيح النفط وأشعة الشمس، التي كانت تنفذ شاحبة إلى الداخل عبر مداخل الكهوف.

جدير بالذكر أن المراجع أشارت إلى أن هذه الكهوف وبالذات الأعمال النحتية، كانت مغطاة بأصباغ طبيعية كانت تذاب في الماء ويتم استخلاصها من الطبيعة، إلا أنها لم تعد موجودة الآن بعد أن فقدت تلك النحتيات والجداريات طلاءاتها بفعل الزمن. إن كهوف منطقة أجانتا هي بالفعل تحفة معمارية عظيمة تدل على التحدي والإصرار الشديدين اللذين كان عليهما الصناع أو الرهبان أو النحاتون البوذيون الذين تركوا لنا هذه الأعجوبة، هذا بالإضافة إلى الإحساس الجمالي والفني الراقي الذي تعكسه.

وقد أخفقت جميع المراجع في أن توضح لنا بشكل قاطع سبب ترك الرهبان أو النحاتين البوذيين لمنطقة أجانتا، ورحيلهم عنها، ولا يعرف أحد لماذا انتقلوا إلى منطقة أخرى لا تبعد عن منطقة أجانتا بأكثر من حوالي 66 كيلو متر، وهي منطقة إلورا، حيث استقروا هناك في القرن السابع الميلادي تقريبًا. وفي منطقة إلورا، وبطول مسافة تمتد لكيلومترين تقريبًا جنوب مدينة أورانج أباد، بدأت في الظهور سلسلة أخرى من الكهوف اليدوية الصنع بعد انتهاء الإقامة في كهوف أجانتا بصورة نهائية.

 

كهوف منطقة إلورا

 

وهي مجموعة من الكهوف المنحوتة في جانب التل البازلتي، على غرار كهوف منطقة أجانتا، وتبعد حوالي 30 كيلو متر من أورانج أباد. على الرغم من أن منطقة إلورا تتمتع بكهوف أكثر عددًا من كهوف منطقة أجانتا، 34 كهفًا، إلا أن غرفها بصفة عامة تتسم بالصغر والبساطة، باستثناء معبد كيلاسا.

كان الملاحظ على كهوف منطقة أجانتا أنها كلها بوذية الطابع أو الديانة، لكن كهوف منطقة إلورا تختلف فهي تجمع بين البوذية والهندوسية واليانية، فيما يمكن أن نطلق عليه تعدد أو تجاور الثقافات والديانات، فهي عبارة عن مزيج لعدة أديان متجاورة: البوذية والهندوسية واليانية وتجيء الكهوف البوذية فيها في المرتبة الأولى زمنيًا ويبلغ عددها اثنا عشر كهفًا (حوالي550 – 759 ميلاديًا) وتقع في جهة الجنوب، ثم تليها الكهوف الهندوسية ويبلغ عددها سبعة عشر كهفًا (600– 850 ميلاديًا) وتقع في المنتصف، وأخيرًا الكهوف اليانية (800 – 1000 ميلاديًا) ويبلغ عددها خمسة كهوف وتقع جهة الشمال. واليانية ديانة هندية نشأت في القرن السادس قبل الميلاد، وكان قوامها تحرير الروح بالمعرفة والإيمان وحسن السلوك، وقد أسسها أحد أتباع الديانة الهندوسية كحركة إصلاحية داخلية وثورة ضد الطبقة المنغلقة المتحجرة الاجتماعية الوراثية ونظام التمييز الطبقي عند الهندوس، وكلمة الياني أو الشخص الياني هندية عن السنسكريتية وكانت تعني في الأصل القديس والمنتصر وتطلق على كل من أتباع هذه الديانة.

وعلى الرغم من أن كهوف منطقة إلورا لا تبعد كثيرًا، من حيث الزمان والمكان، عن كهوف منطقة أجانتا إلا أن كهوف منطقة إلورا تتميز معماريًا ونحتيًا، من حيث طبيعة تكوين ونحت وتزين التشيتياس والفيهارات، فهي تتميز هنا بالحجم الهائل والاتساع الشديد، وأيضًا باهتمام فنانيها أو رهبانها بالتفاصيل الدقيقة، واهتمامهم أكثر بتجسيد ما هو دنيوي أكثر، فنجدهم على سبيل المثال قد قاموا بتقليد الأشكال التي يتم نحتها في الأعمال الخشبية بغرض تزيينها، لدرجة أنك عندما تنظر إلى الصخر المنحوت تعتقد أنه خشب محفور حفر غائر أو بارز، كما نرى مثلاً تقليدهم البارع والمتقن حتى لمفصلات وترابيس الأبواب بطريقة غاية في الإبهار والروعة.

في الكهف رقم ستة عشر من الكهوف الهندوسية نعثر على أكبر وأعظم إنجاز بشري في هذه الكهوف قاطبة، وهذا الوصف ليس مبالغًا فيه ولا يقلل على الإطلاق من أهمية وروعة وجمال الكهوف الأخرى، لكن للكهف رقم ستة عشر ما يميزه، وسر هذا التميز هو أنه يحتوي على معبد كيلاسا المذهل.

 

معبد كيلاسا… إعجاز معماري مذهل

 

تقع هذه الأعجوبة المعمارية على بعد ميل من الكهوف اليانية، وبالتحديد في الكهف رقم (16)، ويعود معبد كيلاسا، إلى الفترة الهندوسية، ويعتبر بين الكهوف الهندوسية بمثابة جوهرة التاج، فهو تحفة نحتية ومعمارية غاية في الإعجاز ليس في منطقة إلورا أو في مدينة أورانج أباد الهندية فحسب بل في الدنيا قاطبة. لكن لماذا؟

كان معبد كيلاسا مكرسًا كبيت للإله شيفا، وهو أحد آلهة الثالوث الهندوسي (إلى جانب براهما أول هذه الآلهة وفشنو أو ويشنو ثاني هذه الآلهة) ويطلق على الإله شيفا اسم سيفا واسم شيوة أيضًا وتنسب إليه أعمال التدمير والخراب قبل الخلق والتجديد فهو الإله المدمر، وعند البعض من الهندوس هو الكائن الأسمى وعند البعض الآخر هو الثاني وعند البعض الثالث هو الثالث في الثالوث، وقد أضاف عامة الهندوس في الأجيال الأخيرة مهمة البناء إليه بعد أن كان للهدم فقط فأصبح للخلق والهدم وإعادة الخلق أيضًا إلى جانب التدمير وأصل الاسم سنسكريتي ويعني “ميمون أو سعيد أو مبشر بالنجاح”، هذا فيما يتعلق بالسبب الذي نُحت لأجله.

أما عن فترة بناؤه فتشير المراجع إلى أن معبد كيلاسا ينسب بناؤه إلى الملك كريشنا الأول (760 بعد الميلاد تقريبًا) عاهل سلالة راشتراكوتا.

ومعبد كيلاسا يعتبر أكبر بناء نحتي مونوليثي (من قطعة حجرية واحدة) في العالم، وقد تم نحته من أعلى إلى أسفل، على عكس الطريقة التقليدية في تشييد أو إقامة أي معبد أو أي بناء كان. وقد تم البدء بنحت المعبد المكون من طابقين بدءًا بسطحه أولاً ثم بعد ذلك تم الانتقال إلى الطابق الثاني ودواخله، ثم تزيين ذلك الطابق بالنقوش والأعمال النحتية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى الطابق الأول ودواخله، ثم عملية التزيين، ثم بعد ذلك تفريغ البهو والمنطقة المحيطة به والأروقة والمدخل.

أي أن التصميم والنحت والتزيين كانًا معًا جنبًا إلى جنب مرحلة تلو الأخرى أثناء القيام بنحت هذه المعبد، الذي من المؤكد أن جيلين أو ثلاثة من الرهبان قد تعاقبوا على العمل فيه لأن المراجع تشير إلى أنه استغرق قرنًا من العمل والبعض الآخر قال قرن ونصف. وعلى الرغم من هذا كله، تعدد الحرفيين أو الرهبان النحاتين والفترة الزمنية الطويلة، فقد جاء العمل غاية في الانسجام والاتساق، حتى من حيث التعقيد الشديد الذي يتميز به.

والحجم الذي عليه المعبد ككل كبير للغاية، تشغل مساحته تقريبًا مرتين ضعف منطقة “البارثينون” في أثينا ويعلوها من حيث الارتفاع بمقدار مرة ونصف. واستلزم إنشاؤه إزالة ما يقرب من 200.000 طن من الصخور الطبيعية إلى خارج الجبل. ويعتقد أنه استلزم مجهود 7000 عامل لإكماله. ويبلغ عمقه 107 أقدام وعرضه 154 قدمًا وطوله 275 قدمًا. وهو مفتوح إلى أعلى حيث السماء بمثابة سقف له. وجدرانه مزينة بالعديد من الأعمال النحتية البارزة والغائرة التي تصور مشاهد من الرامايانا، و المهابهاراتا، وحياة الكريشنا. وفي منتصف المعبد ضريح “ناندي” المرتكز فوق ظهر مجموعة من الأفيال التي تم نحتها بدقة ومحاكاة وحيوية شديدة تجعلها تكاد تنبض بالحياة. وجدير بالذكر أن المعبد كان مغطى بطبقة من الجص الأبيض لتجميله وحمايته، وبعض من بقايا هذه الطبقة يزال موجودًا حتى الآن.

إن معبد كيلاسا نموذج حي لبراعة المعماريين القدامى الذين أحدثوا ثورة في نظرية البناء، التي اعتمدت تشييد أي بناء كان من أسفل إلى أعلى، والتي تعتمد على الأعمدة في رفع قواعد أي بناء، والأمر مغاير هنا تمامًا فالأعمدة ليست سوى حليات للتزين ليس إلاّ. كذلك يعتبر هذا المعبد من جانب آخر مدرسة متنوعة وفريدة في فن النحت الذي بلغ ذروته على أيدي هؤلاء الرهبان/النحاتين العظام، الذين شيدوا بحب جم، وذوق فني مرهف، وكدح شديد، العديد من المنحوتات الخالدة من وحوش وحيوانات وفيلة وأسود وآلهة ومشاهد أسطورية وموتيفات على الجدران أو الأبواب أو الأعمدة الخاصة بالمعبد، والذين لم يغفلوا أن المعبد في الأساس مقام ديني مخصص للآلهة والصلوات والتأمل والسكنى من أجل الانقطاع للعبادة والخدمة الروحية، كما لم يكن تدينهم ليعوقهم عن كل ما أبدعوه لنا من كهوف وعلى رأسها هذا الأثر الخالد الفريد من نوعه، والذي يجتذب سنويًا الآلاف من السائحين من شتى بقاع الأرض لمشاهدته، خاصة في شهر ديسمبر من كل عام حيث يقام مهرجان احتفالي موسيقي راقص في منطقة إلورا والمنطقة المحيطة بمعبد كيلاسا.

جدير بالذكر أن آخر دراسات مسحية أجريت في هذه المنطقة أشارت إلى اكتشاف مجموعة أخرى من الكهوف تبلغ ثمانية وعشرين كهفًا في التلال العلوية في المنطقة.

وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نقف عاجزين ومندهشين أمام هذه الكهوف النحتية الضخمة. لكن هل يجب أن نقف مندهشين فقط، أم نتساءل ونعيد طرح السؤال المثير، الذي لا توجد عنه حتى الآن إجابة شافية: لماذا ارتبطت عظمة ورقي وجمال وإعجاز فن النحت، الذي يكاد يكون من غير صنع بشر، بالجانب الديني من حياة البشر؟ أي ما هو دور العامل الديني في بعث وتحفز المخيلة الإبداعية وبخاصة في مجالي العمارة والنحت؟ إن هذا السؤال لا بد وأن يقفز إلى ذهن من يتأمل الأعمال النحتية التي خلفها لنا القدماء على اختلاف عصورهم وأماكنهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية. هل هذه العظمة التي تشارف حد الإعجاز مبعثها، الجانب الديني وإرضاء وحب الآلهة فقط؟ هذا ما تنطق به حتى الآن أعمالهم التي شيدوها وتركوها لنا شاهدة على فنيتهم وصنعتهم ورقي ذوقهم ورحابة مخيلتهم. وهذا بالطبع ينطبق على كثير من الحضارات كالمصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين والحضارة الهندية وحضارة الآزتيك وغيرها من الحضارات. ولو أمعنا في التأمل وحاولنا أن نتساءل عن فن النحت في عصورنا الحديثة والذي لم يبلغ ما بلغه فن القدماء دون شك، مهما علت مكانته وسمت، ولا ينطبق هذا على فن النحت فحسب بل فن العمارة أيضًا، يكون السؤال: هل انتفاء أو الغياب التام للعامل الديني، وما كان يستلزمه من حب ورغبة في إبداع وتكريس العمل للإلهة أو الشخص المخصص له البناء أو العمل المشيد، هو السبب فيما وصلت إليه الآن فنون النحت والعمارة على أيدينا؟