محمد هاشم عبد السلام

 

1/1/2017

 

فيلم “على طريق اللبن” On The Milky Road، هو أحدث ما قدّمه المخرج الصربي المتميز أمير كوستوريكا Emir Kusturica، وذلك بعد توقف طويل امتدّ لتسع سنوات تقريبًا، لم يُقدِمُ فيها كوستوريكا على إخراج أية أفلام روائية، وإن تخلّل تلك الفترة إخراج وتصوير عدة أفلام تسجيلية. في فيلمه الجديد يقف كوستوريكا  للمرة الأولى في تاريخه الفني أمام الكاميرا كبطل في فيلم روائي من إخراجه. وقد ذكر كوستوريكا أن الفيلم، الذي كتب له السيناريو والحوار، يعتمد بالأساس على ثلاث قصص واقعية طعّمَها ببعض الأحداث الخرافية من نسج خياله. وقد عُرض الفيلم مؤخرًا في المسابقة الرسمية لدورة مهرجان “فينيسيا” الفائت، الدورة الثالثة والسبعين، كما عُرض مؤخرًا خلال دورة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثامنة والثلاثين، خارج المسابقة الرسمية للمهرجان.

نجد في فيلم “على طريق اللبن” نفس العوالم ذاتها والأجواء التي اعتدنا عليها، والتي ميزّت في السابق سينما أمير كوستوريكا ، حيث الحرب والصراعات الدموية وتبعات كل هذا. وإن غاب بالمرة عن فيلمه الأحدث أية إحالة ولو ضمنية، ذات ثقل أو عمق ما، لما هو اجتماعي أو سياسي أو أية قضايا أخرى شائكة، والتي لم تغب من قبل عن أغلب ما سبق وقدمه من أفلامه.

وقد اعتمد كوستوريكا في بناء حبكة فيلمه الجديد على تيمة الحب والحرب، الحاضرة وبقوة في أكثر من عمل له، وبخاصة فيلم “الحياة معجزة” (2004)، والذي جاءت نهايته أيضًا مشابهة لفيلم “على طريق اللبن”، حيث القضاء على الحب. وقد كان موضوع فيلم “الحياة معجزة” شديد الشبه إلى حدّ بعيد وموضوع فيلم “على طريق اللبن”، إذ تناول بالأساس قصة الحب بين “لوقا” الصربي و”صباحا” البوسنية، وكان الحمار، إن جاز التعبير، شخصية أساسية ومحورية بالفيلم.

نفس الأمر ينطبق هنا في فيلمه الأخير، وإن على نحو أقلّ احترافية، وعلى نحو يفتقر للعمق والقوة والتركيز من جانب كوستوريكا، الذي لم يستطع، مع الأسف، أن يسرد لنا قصة حب بسيطة أو حتى علاقة عاطفية مُقنعة بين كوستا ومونيكا بيلوتشي، ولا حتى أفلح في إقناعنا بالمأساة البالغة التي يتعرّض لها حبهما، وكيف يخوضان ويكابدان الأهوال من أجل الحفاظ على حبهما غير المقنع فنيًا، والذي هو مجرد ذريعة ليس إلا لكل الأحداث التي جاءت مع اقتراب الفيلم من منتصفه. وإن كانت تلك الأحداث، وهذا من قبيل المفارقة، تعتبر من أجمل الأحداث والمشاهد التي جاءت على امتداد الفيلم.

مع كوستوريكا كل الأشياء حاضرة، ولها دورها الأساسي الأصيل أو المُقحم في سياق الفيلم، وهي بالنهاية تُسدي الكثير من العون للشخصيات الرئيسية بالفيلم أو تطغى عليها، كذلك تسهم أحيانًا في تطور الأحداث وتدفقها وتمدّها بروح الدعابة والطرافة والإثارة أو تُثقل عليها وتشتتها أيضًا. ونلحظ ذلك بداية من المنطقة التي تدور فيها الأحداث، والحاضنة لقصة الفيلم، كذلك البيئة المحيطة وكل ما بها من عناصر الطبيعة، مرورا بالحيوانات من مختلف الأجناس والأنواع التي تصادف وجودها في تلك البيئة أو المنطقة، وليس انتهاء بالجماد كالمنازل وغيرها.

في “على طريق اللبن” نجد شذرات من العالم الواقعي – وبالتالي يصعب تناول الفيلم من منطق واقعي صرف – وإغراق تام في عوالم كوستوريكا  الخاصة المفارقة له إلى حدّ بعيد. فنحن في حضرة سيرك من الحيوانات بكافة أنواعها والأدوار المسندة إليها، الموسيقى بكل صخبها وعنفوانها وجمالها أيضًا، الكوميديا السوداء المنثورة هنا وهناك، مشاهد أقرب للأساطير أو القصص الخرافية، كذلك كثرة المعجزات أو الحلول المفارقة لكل ما هو واقعي. سيل من المشاهد والكادرات واللقطات الغريبة والمدهشة والمبهرة في نفس الوقت، وإن كانت في أحيان كثيرة مقصودة في حد ذاتها دون أي هدف واضح. لكن مع كل هذا الزخم، وهذا الكم المتلاحق، يبدو الافتقار للدقة والمصداقية والبراعة، ناهيك عن الإقحام، بارزًا في ثنايا العمل الذي كان من المفترض على مخرجه أن يكبح جماح كل هذا ويخفف من الوتيرة ويضبط الإيقاع، حتى لا يظهر التفاوت بين المشاهد على امتداد الفيلم، الذي تجاوز زمنه الساعتين بدقائق قليلة.

يسير الفيلم على نحو خطّي كلاسيكي عادي في بنائه، في حين أن ما يفارق العادي هو المعالجة الفنية للقصة وبعض الأحداث وطريقة تنفيذها. ومشكلة الفيلم بالأساس ليست في مفارقته للعادي ولجوئه للكثير من الخيال الجامح أو الفانتازيا، المقنعة وغير المقنعة في بعض الأحيان، ودخولها المُقحم بغتة لتحلّ الكثير من المآزق التي خلقتها الحبكة ووضعت فيها شخصياتها، ولكن تكريس كوستوريكا  لكل جهوده كمخرج من أجل خلقها والتفنّن في إبداعها على نحو مقنع، فجاءت مفتعلة في كثير من الأحيان وتفتقد للمصداقية. والأمر الآخر هو طغيانها على شخصيات الفيلم، التي تأثرت بدورها وجاءت باهتة وغير مقنعة ومفتعلة على نحو شديد. ناهيك عن أن كوستوريكا أخطأ على نحو جسيم بقيامه ومونيكا بيلوتشي بهذين الدورين، اللذين تلحظ على امتداد الفيلم أنهما غير لائقين له بالمرة، بالرغم من أن بيلوتشي ظهرت فيه كما لم تظهر من قبل في أدوار سابقة، ورغم بذلها الكثير من الجهد من أجل إتقان الدور، وحتى اللغة الصربية. في حين، على النقيض تمامًا منهما، أضفى أداء الممثلة “سلوبودا” التي قامت بدور “ميلينا”، الكثير من الحيوية والطرافة على أحداث الفيلم والمشاهد التي ظهرت بها.

تدور أحداث الفيلم في قرية صغيرة في الريف الصربي البديع، في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، في أعقاب الحرب البوسنية الصربية، بالرغم من أن الفيلم لم يشر على وجه التحديد لأي زمن بعينه. “كوستا” (كوستوريكا نفسه)، هو متعهد نقل اللبن الطازج من إحدى المزارع إلى أحد المخافر أو النقاط العسكرية الحصينة على خط النار. كل صباح، وعلى نحو يومي، يمتطي حماره الذي يضع فوقه التنكات المحملة باللبن، سالكًا نفس الطريق في غدوه وذهابه، من وإلى المزرعة، وأحيانًا ما يصاحبه صديقه الحميم، الصقر “بودي”، الذي يستكشف له الطريق، والذي سينقذه أكثر من مرة لاحقًا من موت مهلك.

بالمزرعة، حيث يوجد بيت الأسرة المالكة، وساعة ميكانيكية ضخمة لا تعرف سببًا لوجودها هناك تؤذي كل من يحاول الاقتراب منها لضبطها أو الإبطاء من سرعتها، تعيش فتاة تهيم عشقًا بكوستا تدعى “ميلينا” (سلوبودا ميكايلوفيتش)، لاعبة وبطلة جمباز سابقة، مع والدتها شبه المختلّة عقليًا، وأيضًا شقيقها الضابط الكبير المهووس المتواجد بالجبهة، “زاجا” (بريدراج مانيوفيتش)، والذي تجلب له ميلينا زوجة يطلق عليها بالفيلم اسم العروس، وهي النجمة “مونيكا بيلوتشي”.

وبوصول العروس أو مونيكا بيلوتشي تتعقّد الأحداث، إذ تشعر ميلينا أن شيئًا بين كوستا ومونيكا بدأ يلفت الأنظار أكثر من مجرد الإعجاب العابر. مونيكا بدورها، وهي نصف إيطالية نصف صربية، فرّت، وهذا مثير للدهشة والاستغراب من أهوال الحرب وأحد مراكز اللاجئين، إلى تلك المنطقة الملتهبة، وهي أيضًا هاربة من ماضي أليم لا يزال يطاردها. إذ يتعقّبها بجنون أحد الجنرالات الإنجليز، الذي فقد عقله ذات يوم بسبب حبه لها فقتل زوجته من أجلها، وسُجن لثلاث سنوات بسبب وشايتها به. وقد أرسل ذلك الجنرال لمطاردتها واستعادتها، فرقة من الكوماندوز من الناتو إلى تلك المنطقة، الأمر الذي يُشعلها جحيمًا حتى بعد انتهاء الحرب وتوقفها المعارك والقتال.

وبعد عودة شقيق ميلينا وبدء الاستعدادات من أجل يوم الزفاف، زفاف كوستا وميلينا وزاجا وبيلوتشي، تنقلب الأمور رأسًا على عقب، وتبدأ المطاردات التي لا تنتهي من أجل استعادة بيلوتشي للجنرال، الأمر الذي يؤدي إلى تدمير المعسكر والقرية وحرق كل شيء، ووفاة ميلينا والبقية حرقًا، وفرار بيلوتشي وكوستا إلى البراري الصربية الكرواتية خوفًا من الموت الوشيك المتربص بهما. وهنا أيضًا يبدأ الفيلم في الجنوح نحو المزيد من الفانتازيا الخالصة، والإمعان في مفارقة الواقع على نحو كلي مقارنة بالجزء أو النصف الأول من الفيلم، والذي اختلف شكله وأسلوبه ومعالجته وحتى سرعته والنصف الأول منه.