عرض: محمد هاشم عبد السلام
يُصدِّر المخرج الإيطالي الكبير فيدريكو فيلليني كتابه بإهداء إلى زوجته الممثلة “جوليتا ماسينا”، ثم شكر يوجهه فيلليني لأصدقاءه ورفاق العمل وللصحفيين الذين شجعوه ودفعوه لإنجاز هذا الكتاب، الذي يتحث فيه عن عمله في فن صناعة السينما. وهذا الشكر وردت فيه كلمة “التحدث”، وهذه الكلمة في رأيي هي مفتاح قراءة هذا الكتاب الرائع والشيق، والذي لا يتبع فيه فيلليني قواعد منهجية أكاديمية في تداول الموضوع، بل يتبع فيه نفس منطق أفلامه، التدفق الحر وذكر كل ما يخطر على البال وربما التكرار أيضاً، وكأن فيلليني يلاحق أفكاره ويحاول القبض على ذكرياته وتجاربه قبل أن تتفلَّت منه ويطويها النسيان.
أما تقديم الكتاب الذي حمل عنوان “سيرة ذاتيه لمشاهد”، بقلم الكاتب والروائي الكبير “إيتالو كالفينو”، طلب منه فيلليني كتابته وفقاً لما ذكره كالفينو، الذي يحدثنا فيه عن تجاربه الأولى التي شكلت وعيه بفن السينما ثم متابعته لهذا الفن بعد أن نضج ثم يعرج بنا بعد ذلك على سينما المخرج القدير فيلليني، التي يقول إنها تتماس معه ومع سيرته الذاتية بصفة خاصة، موضحاً لنا أهم منابعها، ثم السمات والخصائص المميزة لها.
ينقسم الكتاب إلى أربعة عشر فصلاً، أو بالأحرى شهادة، يتحدث فيها فيلليني عن الحياة بصفة عامة والعمل بصفة خاصة دون أن يُركَّز على أي منهما دون الآخر. ففي الفصل الأول من الكتاب، يتذكر فيلليني طفولته في مدينة “ريميني” مسقط رأسه، وتلقيه لتعليم ديني صارم متشدد، بدءاً من حضانة رهبانية سان فينسان مروراً بمدرسة رهبانية التياتين في المرحلة الابتدائية فمدرسة للآباء الكريسميين. وهو ما يوضح لنا بعض الشيء لِمَ كان نفور فيلليني وسخريته من كل ما هو سلطوي متشدد صارم، وهو ما نتبينه عند قراءتنا لهذا المقطع الذي يصف موقفاً لاشك أنه ترسب في نفسيه الطفل فيلليني وقتها وبالتالي لم يبرحه أبداً بل وخلق بداخله نوعاً من النفور اللإرادي، وفيه أعطته إحدى راهابات الحضانة شمعة وقالت له “لا تجعلها تنطفئ، لأن يسوع لا يريد ذلك. وكانت تهب ريح قوية وحيث أني طفل، فقد أثقلتني هذه المسؤولية الكبيرة. فهناك الريح والشمعة التي يجب ألاّ تنطفئ. ما الذي قد يفعله يسوع بي؟ وأخيراً أجهشت بالبكاء”. ويفرد فيلليني صفحات هذا الفصل بالكامل تقريباً وهو أكبر فصول الكتاب للتحدث عن مدينته ورفاق صباه وأصدقاء المدرسة والمواقف الطريفة التي كانوا يحدثونها، وعن بعض الشخصيات الغريبة والشاذة التي خلّدَ كثير منها في أفلامه، أيضاً ذهابه للسينما لأول مرة وافتتانه فيها بنوع من العروض يمكننا أن نطلق عليه مجازاً، مسرح.
يعزو فيلليني انطواءه وانعزاله كطفل إلى نحافة جسده الشديدة، والتي كانت تجعله يحجم تماماً عن ارتداء ثياب البحر “كانوا يدعونني غاندي أو صرصار البحر”. وهو ما دفعه لممارسة الرسم واللعب بالعرائس المسرحية وممارسة التخفي بدهن وجهه بالمساحيق، إلى أن انتهى في النهاية بأن أصبح بارعاً في الرسوم وبخاصة الكاريكاتيري، الذي كان يطالعه في الصحف والمجلات بشغف إلى جانب الرسم الكرتونية التي ملكت عليه لبه. “إذن ولأجل تعبئة هذا الفراغ، انشغلت بالفن، فافتتحت بمشاركة ديموس بونيني مشغلاً فنياً، على الواجهة كتبنا “فيبو”. كنا نرسم الكاريكاتير وبعض البورتريهات لوجوه السيدات، حتى في منازلهن. كنت أوقع باسم فيلاس”. يتقاضى فيلليني بعد ذلك من صاحب سينما الفيلغور أول عمولة له لرسمه الممثلين بطريقة كاريكاتيرية لغرض الدعاية. يُنهي فيلليني هذا الفصل النوستالجي بشيء من الحسرة على المدينة التي زارها كبيراً ولم يجدها مثلما كانت عليه. عزاؤه أنه أعاد خلقها لنا مرة ثانية على الورق في هذا الفصل الطريف.
يستهل فلليني الفصل الثاني بهذا المقطع “لم أسأل نفسي مرة حتى المرحلة الثانوية ما الذي سأفعله في حياتي، إذا لم أنجح في تصوّر حالي في المستقبل. كنت أفكر بالمهنة كما أفكر بشيء لا يمكن تجنبه، مثل قداس الأحد. لم أقل يوماً: “حينما سأصبح كبيراً، سأكون … !”. ثم يبدأ بنوع من الاعتراف الخجل بتبرير عدم معرفته بكبار مخرجي السينما العالمية وبالأعمال التي أسهموا بها في تاريخ الفن السابع، استناداً لعدم توقعه أنه كان سيصبح مخرجاً. ينتقل بنا بعد ذلك إلى ما بعد مغادرته لبلدته واستقراره في روما وتردده على دور السينما فيها، “بعد وصولي إلى روما، بدأت بارتياد دور السينما أكثر فأكثر. مرة في الأسبوع، مرة كل خمسة عشر يوماً”. ويقول واصفاً السينما “فالسينما هي بالنسبة لي صالة تفور بالصوت والعرق، والمرشدات، والكستناء المشوية، وتبول الأطفال: جو من أجواء نهاية العالم، والكارثة، وكبسات الشرطة”. وعن الانطباع الذي تركته السينما فيه في ذاك الوقت” عنت السينما شيئاً ما عند وصولي إلى روما : لقد رأيت الكثير من الأفلام الأمريكية، حيث بدا الصحافيون أشخاصاً رائعين! لم أعد أذكر عناوين الأفلام فقد انقضت سنوات عديدة على ذلك، لكن الأمر المؤكد، هو أني كنت متأثراً جداً بالطريقة التي كان الصحافيون يعيشونها، لدرجة أني قررت أن أصبح صحافياً أنا أيضاً. لقد أحببت معاطفهم وطريقتهم في اعتمار قبعاتهم المدفوعة إلى الوراء”. وبالفعل يصبح فيلليني صحافياً ويمارس هذه المهنة لفترة من الوقت. في أحد الأيام تتطلب مقتضيات عمله أن يقوم بإجراء مقابلة صحفية مع أحد الممثلين، الأمر الذي يدفعه لأول مرة في حياته للذهاب إلى المُجمَّع السينمائي الإيطالي ” سينيسيتا “. يصيبه الذهول بعدما يرى أحد المخرجين “بلاسيتي” وهو يقوم بالإخراج، فقد فوجئ بحقيقة العمل السينمائي وبخاصة الإخراجي، الأمر الذي لم يجعله يتصور مجرد تصور أن يصبح ممارساً في يوم من الأيام لهذه المهنة، “كنت أعتقد في تلك الآونة، أني لم أُخلق لكي أعمل في الإخراج. كان ينقصني الميل لنوع من الإرادة التسلطية، والانسجام، والإفراط في الدقة، والقدرة على العمل الشاق، والكثير من الأشياء الأخرى، أما ما كان ينقصني على وجه الخصوص فهو السيطرة”.
كان فيلليني يمارس كتابة السيناريو في تلك الفترة إلى جانب ممارسته للعمل الصحافي، وأيضاً ككاتب للاسكتشات والبرامج الإذاعية، الأمر الذي أتاح له فرصة التعرف على المخرج والرائد الكبير ألبرتو روسيلليني، ثم العمل معه في فيلميه “روما مدينة مفتوحة” و”مناظر طبيعية”، ككاتب للسيناريو، في مساعدته له فيما بعد في الإخراج، وسيقوم فيلليني في نهاية هذا الفصل برد الجميل لروسيلليني عن طريق الإشادة به وبقدراته ومما قاله عنه، “إن روسيلليني كان نوعاً من ابن عاصمة ساعدني على اجتياز الشارع. ولا أعتقد أنه أثر بي تأثيراً عميقاً بالمعنى الذي يعطيه الناس عادة لهذه الكلمة. لكني أعترف له من جهتي، بأبوية كأبوية آدم : نوع من السلف البعيد الذي نحدرنا منه نحن جميعاً. وليس من السهل أن أحدد بدقة ما هي الأشياء التي ورثتها عنه. لقد شجع روسيلليني انتقالي من مرحلة ضبابية ، معدومة الإرادة، دائرية ، إلى ميدان السينما”.
“أعتقد أني أصنع الأفلام، لأني لا أعرف صناعة أي شيء آخر”. “منذ المرة الأولى التي صرخت فيها: “تشغيل! تصوير! قف!” خُيِّلَ إليَّ أني كنت أقوم بهذا منذ زمن بعيد، وأني لم أكن أستطيع القيام بأي شيء آخر، وأن ذلك كان أنا، وتلك كانت حياتي. وبالنتيجة، وعند إخراج الأفلام، فأنا لا أطرح على نفسي شيئاً سوى أن أتبع هذا الميل الطبيعي، أي أن أروي قصصاً عبر السينما”. هذا ما يقوله فيلليني في بداية الفصل الثالث، وكأنه يصرخ من فرط تبرمه من هذه الأسئلة السخيفة والسطحية التي دائماً ما تُطرح على المخرجين، أو الفنانين بصفة عامة. يحدثنا فيلليني في الفصل أيضاً عن تجربته الأولى المشتركة في الإخراج، وعن الخطوات القدرية التي قادته إلى أن يعمل لأول مرة بالإخراج وما صادفه من حسن وسوء حظ في أول طريقه. ويختتم هذا الفصل بتناول العلاقة المتشابكة، الأبدية الصراع ما دام الفن السابع قائماً، ألا وهي العلاقة بين المخرج والمنتج، “في إخراج الفيلم يكون المنتج طرفاً تكميلياً، وله ضرورته الخطأ، وعلى الرغم من أنه يصعب تحليلها، فإن له فائدته التي لا يمكن استبدالها”.
في الفصل الرابع يحاول فيلليني تذكر كيف أتته أفكار أفلامه، كيف تولَّدت، متى وأين، وما هي السبل الخفية المتنافرة التي تسلكها؟ مدللاً على ذلك بأمثلة من بعض أفلامه “الشيخ الأبيض، الطريق، ليالي كابيريا، البيدون/ المحتال”.
في الفصل الخامس يوضح لنا فيلليني لماذا يرسم شخصيات أفلامه (بالكتاب عدد من الصور التي كان فيلليني قد رسمها لشخصيات أفلامه)، ويقوم بتدوين الملاحظات التي تليق بكل شخصية من الشخصيات عليها، ويقول عن هذا “بالنسبة لي، طريقة للبدء بالنظر إلى الفيلم في عينيه، كي أرى أي كائن هو، ومحاولة لتثبيت شيء ما، مهما كان صغيراً”، “ربما يكون هذا أيضاً حجة للبدء بعلاقة، وربما يكون وسيلة عارضة لم يُرسم لها للإمساك بالفيلم، وأكثر من ذلك، للحفاظ عليه”. هذا التوضيح الذي يسوقه يجعله يرجع في هذا الفصل إلى ذكريات طفولته ليحدثنا عن علاقته بالأسطح البيضاء التي عادة ما كانت تستفزه لملئها، تلك العادة التي لازمته طوال حياته، وجعلته يفتح محلاً في روما لتصوير السياح والجنود الأمريكيين بطريقة كاريكاتيرية طريفة، ويذكر واقعة طريفة كاد يلقي حتفه فيها لولا روسيلليني الذي كان قد حضر مصادفة ليطلب إليه العمل معه.
في الفصل السادس يطلعنا فيلليني على تجربته مع فيلم “ثمانية ونصف”، الفكرة، الشخصيات، السيناريو، وكل ما أسهم في خروج هذا الفيلم. وفي الفصل بعض أراء فيلليني في الحياة، والتي لا تخلو من فلسفة، ونتعرف فيه كذلك على رأي هذا المبدع العظيم في المرأة وفلسفته فيها.
يتحدث في الفصل السابع عن تجربته مع علم الروحانيات وتجربة عقار الهلوسة، قبل أن يحدثنا عن تجربة فيلمه “جوليتا الأرواح”، الذي استخدم فيه عالم الأرواح وتحضير الجان كخلفيه لعرض شخصياته. وفيلمه هذا كان أول أفلامه الملونة، وهو يتحدث في هذا الفصل عن تجربته هذه وعن رأيه في الأفلام الملونة، ويقارن بين الأفلام الأبيض والأسود والألوان من عدة نواح، “… إن ما يدعى بالألوان الطبيعية يُفقر الخيال. وكلما اقترب المرء إيمائياً من الواقع كلما سقط في التقليد. والأبيض والأسود يقدم بهذا المعنى حدوداً للخيال أقل ضيقاً”.
في الفصل الثامن من الكتاب يطلعنا على وجهة نظره وما دفعه لعمل فيلمه “ساتيريكون”، وكذلك يطلعنا على ما دونه عنه من ملاحظات في دفتره.
أما الفصل التاسع فيحدثنا فيه عن تجربته مع فيلمه “دفتر مذكرات مخرج” وعما جذبه للتليفزيون، الأمر الذي أدى به إلى التطرق إلى الحكي عن فيلمه “المهرجون”، وعن علاقته بالسيرك. يخصص فيلليني جزءاً كبيراً من هذا الفصل للحديث عن المهرجين والموهبة التهريجية التي رفعها إلى مصاف أعظم الفنون، وتقسيمه لها تقسيماً رائعاً يجعلنا نفرق بين أنواع المهرجين وما يرمزون إليه في السيرك وكيف نتعرف عليهم في أشخاص الحياة العاديين، إن حديث فيلليني عن المهرجين من أمتع الأشياء الموجودة في الكتاب وحديثه لا يخلو من فلسفة وللأسف يصعب تلخيص هذا الحديث هنا.
يفرد فيلليني الفصل العاشر بأكمله للحديث عن تجربته مع التليفزيون، رأيه فيه وفيما يقدمه وفي طبيعة متلقيه، ويقوم بالمقارنة بينه وبين السينما وروادها وكلها آراء لا تخلو من عمق وفلسفة إلى جانب أنها مقنعة تماماً، “إن واقع الدخول إلى المساكن ينتزع من التواصل صفته، ولنقل الدينية، على سبيل المجاز، ما أقصد قوله هو أنه عندما يجتمع عدد معين من الأشخاص في مكان ما، ومنذ أن ترفع الستارة أو أن تضاء الشاشة حيث يظهر شخص يروي حكاية، فإنه حينئذ يجري في الواقع إيصال رسالة ما… هذا الشرط لا وجود له في التليفزيون. ولا يمكن أن يتوفر، وبالتالي فإن الجانب القدسي من العرض هو الذي يختفي. قبل كل شيء، لا محل لأن يزعج الجمهور نفسه، ويخرج من بيته ليأتي إليك. فأنت من تذهب إلى بيته: وهذا أصلاً، يضعك في وضع فيه دونية “. ” من الضروري قهر موقف سيطرة المشاهد. فمن يمتلك التليفزيون هو سيده. وهذا لا يحصل لا في المسرح ولا في السينما، حيث لا يشعر المشاهد بأنه سيد المسرح أو السينما”. ولكن لِمَ يشعر الجمهور بهذا؟ يقول فيلليني “لأن هذا الجمهور، هذا السيد. بما أنه هو الذي اشتراك، إذا لم تسله فوراً، فإنه سيتركك، أو يغير القناة، وقد يطفئ الجهاز ويتابع أكل معكرونته”.
يخص هذا المبدع العبقري الفصل الحادي عشر من الكتاب للحديث عن المدينة الخالدة روما، “الماما”، عن أهلها و شخصياتها التي لفتت نظره والتي يقوم من خلالها بتشريح مجتمع روما، وبالتالي الشخصية الإيطالية ولا يتوانى فيلليني عن الانتقاد اللاذع للمدينة وأهلها رغم اعترافه لهما بحبه الشديد، ثم ينتقل فيلليني بعد ذلك للحديث عن الفيلم ويختتم هذا الفصل بالإعراب عن دهشته الشديدة لإختلاف تجربته في هذا الفيلم عن سابقاتها، “… يتولاني شعور غريب بأني لم أقم حتى بملامسة الموضوع. ليس فقط المادة لم تُستنفد، بل حتى أنها لم تمس. لقد حضرت للفيلم بالحماس المعتاد، وتقصيت وسبرت المدينة، وقد دسست أنفي في الجهات الأكثر بعداً، لكن، في نهاية المطاف، فإن هذه الأمكنة، وهذه الإنسانية، وهذه القصور وهذه الديكورات العظيمة التي ظننت أني امتلكتها تكشفت عذراء تماماً، وسليمة. إن روما، باختصار، ظلت طاهرة، غريبة تماماً عن فيلمي عنها. أرغب في تصوير فيلم آخر، وبسرد قصص أخرى عن روما”.
في الفصل الثاني عشر يتحدث عن فيلمه “أماركورد” أو إني أتذكر حسب اللهجة المحلية لبلدته ريميني التي خلَّدها في هذا الفيلم، ويرجع في هذا الفصل سريعاً إلى ذكريات طفولته في ريميني، والدوافع التي جعلته يقدم على إخراج هذا الفيلم. ويتحدث فيلليني عن السياسة شارحاً مفهومه ووجهة نظرة فيها وفي الفاشية التي يحللها بمعنى إنساني غير سياسي، فاشية النفس الإنسانية، وينتهي بذكر الواقعة الطريفة التي جعلته يختار هذا الاسم لفيلمه بدلاً من عدة أسماء أخرى، إن الأمر لا يخلو من مصادفة، وبالتالي فهو لم يكن متعمداً أن يدل عنوان الفيلم على أنه يتذكّر.
الفصل الثالث عشر، قبل الأخير، هو الذي يستحق أن يُطلق عليه بحق “كيف أصنع فيلماً؟”، ففيه يتحدث فيلليني عن مراحل صناعته للفيلم، تلك الأطوار القاصرة على الفنيين. وفيه يفاجئنا بعدة عبارات وتصريحات تبين لنا بعمق من هو فيلليني الإنسان- المبدع، منها على سبيل المثال خوفه الشديد من رؤية أعماله بعد الانتهاء منها، ويذكر أنه لم يشاهد عدد منها رغم إلحاح البعض عليه، أيضاً رأيه في الموسيقا ولماذا يفضل عدم الاستماع إليها رغم حبه لها، وعن ورأيه في وصف أفلامه بأنها مجرد سيرة ذاتية، وينهي الفصل قائلاً، “لا أعرف تمييز فيلم عن آخر. بالنسبة لي، فقد صورت دائماً الفيلم ذاته. إذ يتعلق الأمر بصور فقط، وصور صورتها مستخدماً المواد ذاتها، وربما تحرضني، في كل مرة وجهات نظر مختلفة”.
في الفصل الرابع عشر والأخير من الكتاب يعرب عن انزعاجه من النقاد والأحكام التي يطلقونها دون تبصر، ويقول إنه بينه وبين أفلامه مطابقة كاملة شاملة، وإن أية عملية نقدية تعطيه دائماً شعوراً بالتطاول والتعدي والتطفل المربك والمرهق، وقبل أن يختم فيلليني هذا الفصل والكتاب بحلم جميل من أحلامه الجملية التي طالما أمتعنا بها في أفلامه، يعرج سريعاً على فيلمه “كازانوفا”. وفي النهاية يذكر فيلليني هذه العملية الحسابية عن طبيعة عمل الناقد، “لنفترض أن ناقداً معيناً شاهد فيلمين في اليوم، وهو معدل معقول تجيزه أيضاً المآثر المبالغ بها التي تتحقق في المهرجانات، والتي يضطرون خلالها لمشاهدة عشرة أفلام. إذن، فيلمان في اليوم، هذا يعني 730 فيلماً في العام. والفيلم عموماً يبلغ طوله حوالي 2700م والذي يبلغ بعد ضربه بـ 730 الرقم المدوخ التالي 1971000م من الأفلام. لنفترض أن نشاط ناقد ما يغطي حوالي الثلاثين عاماً. في النهاية فإن هذا سيكون قد شاهد 59130000 م من الأفلام! “وهي ظاهرة يصفها باستحالة التصور ولا تصلح سوى للتسجيل في الموسوعات القياسية، ستون مليون متر من الصور! ويتساءل فيما يشبه الصراخ” … إذا كان هذا الناقد السينمائي قادراً بعد على الحلم في الليل! كيف يستطيع لاوعيه أن يتصرف وسط هذه المنافسة الكاسحة التي لا تنضب ؟ كيف يتم هضم هذا الاجتياح اللامحدود من الصور …”.
صدر هذا الكتاب في سلسلة “الفن السابع”، الصادرة عن المؤسسة العامة للسينما، التابعة لوزارة الثقافة السورية، العدد (53 ).
ترجم الكتاب: نبيل أبو صعب. وراجعه: عبد الله عويشق.