محمد هاشم عبد السلام

 

السبت 17 يناير 2015

 

إن ما فعله العالم البريطاني الفذ “آلان تورينج” لم يسهم في إيقاف وفوز بلده والحلفاء بالحرب فحسب، بل لا تزال آثار ما ابتكره ماثلة أمام أعيننا لا تفارقنا حتى يومنا هذا، وستظل كذلك في المستقبل، لأنه ببساطة شديدة، أحد الآباء المؤسسين لما سيطلق عليه لاحقًا “الكمبيوتر”، الذي نستخدمه الآن. لكن، ما هي قصة ألان تورينج وما الذي فعله؟

الإجابة عن هذا السؤال تحديداً هي ما حاول تقديمه فيلم “لعبة المحاكاة”، المُرشح لثمانية جوائز أوسكار، هي: جائزة أحسن فيلم، وأحسن إخراج مورتين تيلدوم، وأحسن ممثل بنيديكت كومبرباتش، وأحسن ممثلة مساعدة كيرا نايتلي، وأحسن سيناريو مأخوذ عن نص منشور جراهام مور، وأحسن مونتاج وليم جولدبرج، وأحسن موسيقا تصويرية ألكسندر ديسبلات، وأحسن تصميم مناظر تاتيانا ماكدونالد وماريا دجوركوفيتش.

في فيلم “إنيجما” (2001) للمخرج مايكل أبتيد، لم يأت كاتب السيناريو تقريباً على ذكر اسم عالم الرياضيات العبقري، وكيف كشف شيفرة الألمان ورصد تحركاتهم وأسهم في كسب الحلفاء وبريطانيا الحرب وقلص من زمنها وضحاياها على نحو كبير، وإنما انشغل الفيلم كلية بالبحث عن جواسيس وخونة ضمن فريق فك الشيفرة. الأمر الذي تلاشاه بعض الشيء فيلم “لعبة المحاكاة”، الذي يعتبر بمثابة رد اعتبار، إلى حد ما، لذلك العالم “المُختلف والمُتفرِّد”، الذي حاول سيناريو الفيلم أن يلعب على ويضخم تلك النقطة، “الاختلاف والتفرد”، لخلق مستويات من التلقي أكثر عمقاً بالفيلم.

“في بعض الأحيان، الأشخاص الذين لا تتوقع منهم شيئاً، هم الذين يحققون أشياء تفوق تصورك”.

تلك العبارات وغيرها مما ورد بالفيلم على لسان أبطاله، وبخاصة بطل الفيلم الممثل العبقري “بنيدكيت كومبرباتش” في دور عالم الرياضيات آلان تورينج، هي ما حاول كاتب السيناريو البارع جراهام مور، أن يُصدّرها لنا على امتداد الفيلم، كي يرسخ في الأذهان أن شخصية آلان تورينج شديدة التفرد والتميز والمغايرة، ليس على المستوى العلمي والأكاديمي والرياضي والعبقري فحسب، بل أيضاً على مستويات عدة، اجتماعية وعاطفية وجنسية، جعلت الجميع يعجزون عن التعامل معه، وعن فك شيفرته على جميع المستويات، وأنه لم ينظر إليه إلا من خلال ذلك الإطار وفقط.

وهذا بالطبع مدخل جد قوي لصنع فيلم درامي مفعم بالإثارة، وفي نفس الوقت، يسمح بقدر من العمق والتأمل الفلسفي وتعدد مستويات التلقي، خصوصاً عن التطرق لمناقشة الفارق بين شيفرة الإنسان وشيفرة الآلة، بين الإنسان كإنسان والإنسان كآلة، بين الآلة والإنسان، وبين عقل الآلة وعقل الإنسان، وأيهما أفضل، وأيهما يحاكي الآخر ويتفوق عليه؟ وكيف أن لكل عقله وطريقة تفكيره وسمات تفوقه وفقًا للكيفية التي يفكر بها وينطلق منها لحل مشكلاته. وأن الأمر ليس مشكلة تفوق عقل الإنسان أو عقل الآلة ولا محاكاة أحدهما الآخر، إلى آخر ما ذكره آلان تورينج مع المحقق الشرطي قبيل نهاية الفيلم، بينما يحدثه عن مقاله “لعبة المحاكاة” التي حمل الفيلم اسمها.

بالطبع يحسب لكاتب السيناريو البارع جراهام مور، تصديه لكتابة سيناريو كهذا، كان من الممكن جداً أن يغرق في الكثير من التفاصيل والأحاجي والمسائل الرياضية والمعادلات والرموز التي تربك المتفرج وتنفره من الفيلم، وتدخله في متاهات لا يكاد يخرج منها. والسبب بدهي، الفيلم تمحور بالأساس حول حياة أحد أهم علماء رياضيات القرن العشرين، وحول فك الشيفرات والرموز الحسابية المعقدة بصحبة فريقه المعاون. لكن البراعة كلها تمثلت في تناول كل هذا بمشرط جراح، وعلى نحو لم يتسبب قط في إزعاج المتفرج، لأنه قدم على نحو شديد التبسيط.

وفي نفس الوقت نجح كاتب السيناريو في الحفاظ على روح الإثارة، والمرح والسخرية في بعض الأحيان، منذ الدقيقة الأولى وعلى امتداد الفيلم، سواء عن طريق استثمار التحقيق في قضية تورينج كخط من خطوط الفيلم، إلى جانب الخط الأساسي المفعم أصلا بالإثارة والمتمثل في متابعتنا لحل لغز شيفرة “إنيجما”، وفي الوقت نفسه تتبعنا لمرحلة مهمة وهي مراحل نشأة تورينج في مدرسته وعلاقته بالزملاء والصداقة التي نشأت بينه وبين صديقه الحميم الذي شغف به قبل أن تصدمه وفاته “كريستوفر”.

ولإضفاء المزيد والمزيد من الإثارة، عمد كاتب السيناريو إلى إقحام قصة الجاسوس السوفيتي وزرعه وسط الفريق المعاون لتورينج وحتى التشكيك في تورينج نفسه على أنه هذا الجاسوس. إلى جانب، المبالغة الشديدة في نسج قصة الحب على هذا النحو الذي ظهرت به في الفيلم، من أجمل مشاهد الفيلم تلك التي جمعت بين تورينج وخطيبته جوان، وكذلك فيما يتعلق برد فعل خطيبته عندما أطلعها على مثليته، وعلاقاته بفريق العمل المعاون له، وكذلك رئيسه دينستون.

برغم هذا كله، فإن الفيلم محاكاة غير دقيقة لحياة تورينج، المنكفئ على نفسه والمنعزل عن الناس والمجتمع، والمُتسم سلوكه بقدر من الغشومية أو العدوانية اللفظية أو الفظاظة، بالإضافة إلى الجدية البالغة والثقة الزائدة بالنفس، التي تصل أحيانًا حد التبجح والتكبر. وإضافة لكل تلك السمات الجلية، نجد على وجه تورينج الكثير من التبلد أو انعدام القدرة على التعبير عن المشاعر، وقد تبدى هذا في أكثر من موقف طوال الفيلم، إلى جانب مسحة لا تخطئها العين من الحزن، والاثنين لا يفارقان وجهه دائماً منذ أيامه بالمدرسة. وتلك كلها خلقت شخصية تورينج الدرامية التي شاهدناها على الشاشة، بينما كانت الشخصية في الأصل على النقيض من هذا تمامًا، وتتسم بالكثير من الخبث والدهاء الشديدين.

في حين أن قصة الجاسوس السوفيتي المزعوم “جون كاينكروس” شديدة السخف على حد قول “أندرو هودجز” مؤلف كتاب “آلان تورينج: إنيجما”، سيرة تورينج التي استند إليها الفيلم، فهو لم يكن يعمل أصلاً مع تورينج ولم يلتقيا أبداً. ونفس الشيء ينطبق على اتهام تورينج بالجاسوسية أو الارتياب فيه، فلم يحدث هذا قط حتى وفاته. ونفس الأمر، وإن على نحو أقل، فيما يتعلق بطفولة تورينج ووفاة صديقه الحميم كريستوفر.

كذلك علاقته بخطيبته “جوان كلارك” التي انزعجت عندما صارحها بمثليته، على عكس ما جاء بالفيلم. أيضاً الجهاز المُخترع، كان يحمل اسماً آخر ولم يطلق عليه تورينج اسم صديقه الحميم كريستوفر. كما أن الرجل لم يكن جباناً ولا خائناً لأنه بالأساس لم يتستر على عميل سوفيتي اكتشفه.

نفس الأمر فيما يتعلق بمدخل الفيلم ومفتتح قصته، حيث قضية السرقة وإبلاغ الجيران، كل هذا لم يحدث على هذا النحو، ولم يشتبه أي محقق شرطي في أن تورينج يتجسس لصالح السوفيت داخل جامعة كمبريدج. بل تورينج هو من تقدم بنفسه للشرطة للإبلاغ السرقة مخفياً حقيقة ما حدث، وبعد التحقيقات اكتُشِفَت الحقيقة، واضطر تورينج للاعتراف كتابة، الأمر الذي أدانه كلية في النهاية وثبّت عليه تهمة المثلية. من ناحية أخرى، أدانت عائلة “أليستر دينستون” القائد والمشرف على ألن تورينج في “بلتشلي بارك” الصورة التي ظهر عليها من قسوة وعدم مصداقية وإبرازه كديكتاتور وحشي أعاق عمل تورينج، واعتبرت هذا إهانة للرجل وتاريخه.

ولكل هذا وأكثر، فإننا نعتبر السيناريو من ضمن أبطال الفيلم فعلا، حيث نجح في نسج قصة خيالية موازية بها الكثير من الصدق، تحاكي قصة آلان تورينج بالفعل، وتطغى مصداقتيها الفنية على ما حدث في الواقع. وذلك عن طريق تطعيم مفردات القصة الأصلية بعناصر تزيد من إثارتها وتضفي عليها الكثير من الحيوية وتخدم في الوقت نفسه قضية التفرد أو الاختلاف التي أراد السيناريو أن يبرزها، ويبين أنها سبب مشكلات تورينج.

وإن كنا نرى مع ذلك أن هناك مشكلة في لجوء السيناريو لتورينج كي يسرد ما حدث له على امتداد الفيلم أمام المحقق بعد القبض عليه، في حين أن ما حدث مفترض أنه طي الكتمان ولم يفرج عنه إلا بعد خمسين عاماً، ولم يجسر أحد على التحدث عنه! أيضاً زيارة جوان له بالمنزل بعد تقليه العلاج الكيميائي وقبيل وفاته، بالرغم من التعليمات المشددة بعدم التقاء أي من أفراد الفريق أحدهم بالآخر ولو مصادفة، لم تكن مقبولة منطقيًا، وإن كانت مبررة عاطفيًا بالطبع.

الأهم من كل هذا، لم يتطرق السيناريو لنقاط بالغة المحورية، من وجهة نظرنا، ولو تلميحاً، منها إدانة الحكومة البريطانية بشأن ما حدث لتورينج! فتلك الحكومات التي ضحت بحياة الآلاف وتركت جواسيس يسربون معلومات، بل واختلقت أشياء شديدة الوهمية، ومع كل تلك الأفعال اللا أخلاقية الشائنة والمدانة في أي زمان ومكان، لم تستطع قط أن تغفر لشخصية بحجم آلان تورينج، وأخضعته لتطبيق القانون، في حين خرقت هي كل القوانين والأعراف. وكيف أنه برغم كل ما قدمه لبلده وللعلم، جرى التعامل معه من وجهة النظر الضيقة هذه، والتي كانت السبب الرئيسي في المصير الذي لاقاه.

فقد أدانوه بما كان يطلق عليه قانون “عدم الاحتشام”، أي تجريم المثلية، وخيّروه بين قضاء عامين كاملين في السجن بعيدًا عن جهازه وبين الإخصاء العضوي عن طريق الحقن الكيميائي، الذي سيؤدي على حد زعمهم إلى معالجته من سلوكه المنحرف. وبالطبع، لم يكن أمامه سوى الرضوخ للخيار الثاني، ومن قبله تدمير اسمه وسمعته ومنصبه ومركزه كأستاذ جامعي في كامبريدج. أي، عومل باعتباره مجرد فرد من ضمن عشرة آلاف رجل تم الحكم عليها بتلك التهمة في بريطانيا، في الفترة بين 1885 وحتى 1967، قبل سقوط هذا القانون، ودون النظر لمنجزه العلمي والوطني بعين الاعتبار، وتلك النقطة لم يتطرق لها الفيلم.

والمدهش في الأمر، أن الحكومة البريطانية كانت قد منحته، وهذا لم يذكره الفيلم، “وسام الإمبراطورية البريطانية” نظير خدماته في عام 1945. والمثير أيضاً، عدم تصدي الفيلم لنقطة بالغة الأخلاقية في شخصية تورينج، وهي عدم استغلاله قط لعبقريته وما لديه من معلومات في مساومة الحكومة البريطانية من أجل الإفراج عنه وإسقاط التهمة المُدان بها، بل وظل محافظاً على سرية المعلومات والمهمة التي قام بها، بل ولم يفكر قط في الهرب ومغادرة بريطانيا.

أما المذهل حقًا، فهو تجنب الفيلم بالمرة التطرق لطبيعة وفاة تورينج التي يخيّم الغموض عليها حتى يومنا هذا، إذ عثرت عليه خادمته ميتاً في سريره في الصباح وبجواره نص تفاحة مقضومة. وقد خصلت التحليلات التي أجريت على الجثة إلى أن سبب الوفاة هو السيانيد، رغم أن التفاحة لم يتم تحليلها أو فحصها. وفي حين تحدثت والدته عن إهمال ابنها فيما يتعلق بالمواد الكيميائية الخطرة التي كان يستخدمها لأبحاثه بالمنزل، فإنه من المرجح أن تورينج لم يكن هو من أنهى حياته بنفسه، لكن هذا الطرح لم يتطرق إليه الفيلم وتبنى وجهة النظر القائلة بإنه قد انتحر.

هناك العديد من الأشخاص الذين هم على قناعة بأن تورينج قد قتل، لخشية الحكومة من إقدامه على التحدث وفضح ما كان لديه من معلومات. وهذا ما يقوله كاتب السيناريو نفسه في حديث صحفي. في حين يُرجح مارتن تيلدوم مخرج الفيلم، من وجهة نظره، أن فكرة الانتحار قد راودته وأنه أقدم عليها بالفعل. برغم أنه مارس حياته على نحو عادي جدًا حتى وفاته في يونيو 1954. وبما أن الأمر على هذا النحو فلِمَ لم ينطلق الفيلم السيري لمناقشة ذلك اللغز الذي يقف المخرج وكاتب السيناريو ومنتج الفيلم على النقيض فيما يتعلق به!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، مع تجنب الفيلم الخوض في تفاصيل شيفرة إنيجما، وتبنيه سرد قصة حياة آلان تورينج وجهوده الفذة في إنقاذ أوروبا والملايين، لماذا لم يخلص الفيلم، لن نقول للنص المنشور، وإنما لحياة تورينج ذاتها، واتخذ الكثير من النقاط المحورية في شخصية تورينج وحياته وغموض وفاته ومحاكمته كي تكون مدخلا لفيلم إثارة أيضًا وتشويق وربما تحري من أجل رد الاعتبار بالفعل لهذا العالم الفذ، أم أن العفو الملكي عن اسمه الذي قامت به مؤخرًا الملكة إليزابيث بعد أكثر من نصف قرن على وفاته كان كافيًا؟

وبالرغم من ملاحظاتنا عمّا أغلفه الفيلم في تناوله لسيرة تورينج، فقد نجح المخرج النرويجي مورتين تيلدم، في أول أفلامه الناطقة بالإنجليزية، على امتداد ساعتين تقريباً في نسج فيلم شديد الجودة والبراعة أسهم فيه المونتاج على نحو لافت، المونتير المبدع وليم جولدبرج، في الانتقال بمنتهى السلاسة بين الأزمة الثلاثة، مرحلة نشأة تورينج في الماضي 1928، ومرحلة فك الشيفرة في المنطقة السرية “بلتشلي بارك” في الفترة من 1939 وحتى 1945، ثم المرحلة اللاحقة بعض الشيء حيث ألقي القبض على تورينج في مانشيستر عام 1952، والتحقيق معه ثم إدانته، والذي تسبب فيه اشتباه الجيران في وقوع حادث سرقة بمنزل تورينج.