محمد هاشم عبد السلام
27/9/2016
فاز الفيلم المجري المتميز “ليست أفضل فترات حياتي” للمخرج “زابولكس هايدو” بجائزة أفضل فيلم في “المسابقة الدولية” للأفلام الروائية في “الدورة الحادية والخمسين لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي”، إلى جانب حصول المخرج على جائزة أفضل ممثل عن دوره في نفس الفيلم.
“ليست أفضل فترات حياتي”، هو الفيلم الروائي السابع في مسيرت زابولكس هايدو الإخراجية، إلى جانب عدة أعمال أخرى تسجيلية وتليفزيونية، وهو في الثالثة والأربعين من عمره، ويمارس إلى جانب الإخراج، الكتابة السينمائية والمسرحية، إضافة إلى التمثيل والإنتاج.
في الفيلم، وعلى امتداد ساعات قليلة، من منتصف الليل وحتى منتصف النهار، يتحول حدث يومي عادي طارئ إلى أمر كابوسي كاشف على نحو جليّ لما في سريرة جميع الشخصيات التي نشاهدها على الشاشة.
ففي أعقاب زيارة طارئة وغير متوقعة تقوم بها “إرنيلا” وزوجها “ألبرت” وابنتهما “لورا”، إلى منزل شقيقتها الصغرى “إستر” (أورسوليا توروك) وزوجها “فاركاس” (زابولكس هايدو) وطفلهما “برونو” (زيجموند هايدو)، تتعقد الأمور بصورة سريعة بين جميع الشخصيات. الأمر الذي يفضي في النهاية إلى مجموعة من الأزمات والمواجهات، التي يصعب رؤيتها بمعزل عن الاضطرابات النفسية والأحقاد والضغائن والغيرة بين البشر، من كافة المستويات ومختلف الأعمار وفي العديد من المجتمعات.
منذ المشاهد الافتتاحية بالفيلم، وعقب انتهاء عشاء لأصدقاء، نلاحظ أن هناك بعض بوادر للتوتر والتشاحن بين إستر وفاركاس، وأن ثمة ما يشوب علاقتهما، المستمرة منذ ثمانية عشر عامًا، وأنها ليست على ما يرام فيما يبدو، خاصة بعدما سألته إستر في لهجة استنكارية لا تخلو من السخرية، عن السبب الذي يجمعهما معًا تحت سقف واحد حتى تلك اللحظة.
وقد جاء هذا التساؤل في أعقاب تبادل للتقريع واللوم من جانب إستر لزوجها لكونه لا يرعى طفلهما على النحو اللائق ولا يعبأ بهما، وفي غمرة الدفاع عن نفسه يتهمها فاركاس بكونها متساهلة ولا تحسن تربية برنو، الذي يبدو لنا، وهو في الخامسة من عمره، شديد التوتر والعصبية والنشاط، إلى جانب أنه لا يكف عن الصراخ المستمر. وفي النهاية يتفقان ضمنيًا على أن وجود برونو في حياتهما لم يكن بالأمر السليم، وأن قدومه تسبب في العديد من المشاكل والمشاحنات بينهما، بدلا من أن يُسهم في إحداث العكس، خاصة مع اتهام فاركاس بتجاهلها التام له وتكريس نفسها كليًا لبرونو.
بعد تلك المشاهد التي يؤسس فيها المخرج للشخصيتين الرئيسيتين وللعلاقة بينهما، وبعدما نظن أن الفيلم سيقتصر عليهما، وعلى علاقتهما المتوترة، وعلى تناول موضوع أُسَري واجتماعي مطروق، تبدأ وتيرة الفيلم في التصاعد وتأخذ الأحداث في التعقد والتشابك على نحو جد قوي وجذاب، دون أن يتأثر الإيقاع على امتداد الفيلم وحتى الدقائق الأخيرة منه. وذلك منذ اللحظات التي تطرق فيها شقيقة إسترا الكبرى “إرنيلا” (إريكا تانكو) باب الشقة، ومعها زوجها “ألبرت” (دموكوس زابو) وابنتهما “لورا” (لويزا هايدو)، وقد عادوا لتوهم من هجرتهم إلى اسكتلندا، والتي استمرت لعام واحد فحسب. في البداية نعلم أن السيارة قد تعطلت بهم في طريق العودة. لكن لاحقًا، نكتشف المفاجأة، أن زيارتهم ليست عابرة بالمرة، فقد عادوا من هجرتهم يجرون خيبة الأمل والإحباط واليأس، وبالطبع الإفلاس والمستقبل المظلم، ناهيك عن عدم وجود منزل يجمعهم تحت سقفه.
تدريجيًا تبدأ الأسرة القادمة في التقليل شيئًا فشيئًا من تحفظها ورسميتها، وتشرع في التعامل والتحرك داخل المنزل بأريحية تامة، تدفعك في بعض الأحيان للاعتقاد بأنهم هم أصحاب المنزل الأصليين وليسوا ضيوفًا، ثم يأخذ الزوجان في انتقاد أسلوب حياة ومعيشة إستر وفاركاس، والإعراب لهما صراحة عن حسدهما لهما لارتفاع مستواهما المادي والمعيشي مقارنة بهما، وحتى في مناسبة أخرى، تعترف إرنيلا لإستر أنها تتمنى لو أن زوجها فاركاس، كان هو زوجها وأن تعيش معه نفس الحياة التي تعيشها هي.
بعد ذلك، يطلب الزوجان اقتراض بعض المال من إستر وزوجها، وعندما يقابل طلبهما بالرفض يطلبان البقاء عندهما لبعض الوقت، حتى يتنسى لهما تدبير أمورهما. الأمر الذي يدفع إستر وفاركاس إلى التحدث بصراحة وقلب مفتوح مع الزوجين حول حياتهما التي دمّراها بسفرهما، وهجرهما لكل شيء، وذهابهما إلى المجهول، ثم عدم تحملهما وعودتهما بعد أقل من عام، والتحدث عن الحنين إلى المجر وصعوبة أن يعيش المجري بالخارج، وعدم استطاعة المجري التأقلم خارج وطنه إلى آخره، وذلك بعدما خططا للمكوث بالخارج لعشر سنوات على الأقل.
بالطبع يأخذ فاركاس على وجه الخصوص في تذكير الجميع بهذا، والسخرية من تلك الأقوال التي أطلقت على عواهنها دون تمحيص أو دراسة. وتشاركه زوجته بعض الشيء في تأنيب شقيقتها وزوجها. وفي غمرة ذلك تأخذ الحوارات في التداخل، ويصعب في بعض الأحيان متابعتها بدقة لارتفاع الأصوات وتداخلها، والانتقال المفاجئ من موضوع إلى آخر بسرعة بالغة، خاصة بعدما بدأ كل فرد على حدة يكيل الاتهامات المتنوعة للآخر. وقد زاد من صعوبة الأمر، والشعور بالتوتر الدرامي والانفعالات العصبية، ذلك الحيز الضيق الذي تتحرك فيه الشخصيات طوال الفيلم، وهو شقة فاركاس وإستر، والتي لا نبرحها طوال الفيلم، والتي لا شك أنها أججت من وتيرة التشاحن بين شخصيات الفيلم، حتى بين الطفلين.
لا شك في أن الفيلم يدور في إطار الدراما الاجتماعية الساخرة، وإن كانت السخرية هنا مريرة على نحو سوداوي، ويناقش قضية الزواج ومشاكله، لا سيما بين الشباب الذين يواجهون أزمة منتصف العمر، والذين ينتمون إلى الشريحة المتوسطة، والتي هي على قدر من التعليم والثقافة والاهتمام بالفنون والآداب داخل المجتمع المجري.
كل هذا بإمكاننا أن نلمسه منذ اللحظات الأولى بالفيلم، لكن مع انتهائه تجد نفسك أمام عدة أسئلة، من بينها، ما الذي يجعل ذلك الفيلم على هذا القدر من التميز؟ إنه بالنهاية لا يعدو كونه مجرد دراما اجتماعية أقرب منها للعمل المسرحي أو نوعية الأفلام التي يطلق عليها سينما الحجرة، والتي تعتمد في أغلبها على قوة الحوار ورشاقته، ودقة رسم الشخصيات وعمقها، والأداء التمثيلي بالطبع، وأن هذا ليس هو الفيلم الأول ولن يكون الأخير من تلك النوعية.
في تصورنا، الإجابة على مثل هذا الطرح تكمن دون شك في التناول السينمائي الذي استخدمه المخرج زابولكس هايدو في تنفيذ فيلمه، فمعه لم نشعر بالمرة أننا إزاء فيلم مسرحي أو مسرحية مؤفلمة، فتمرّسه منذ بداياته في مجالي المسرح والسينما، جعله يعرف جيدًا ما هو الخط الفاصل بين السينما والمسرح، وجنبه عدم الخلط بينهما، ومكنه من السير فوق ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما. نلاحظ هذا، على سبيل المثال، في تمكنه وبراعته في توظيف الكاميرا وحركتها، ونجاحه البالغ في تحريكها كيفما يشاء، على امتداد الفيلم، داخل مساحة الشقة الضيقة، وكذلك فيما يتعلق باللقطات المقربة على أوجه الممثلين.
كثيرًا، لا سيما أثناء فترات التشاحن واحتداد الحوار بين الشخصيات، يتعمد هايدو استخدام اللقطات المقربة وحشر الشخصيات جميعًا، أحيانًا داخل نفس الكادر أو الإطار أو تعمد إظهار مساحات ضيقة للغاية من الشقة أو توظيف الحجرات لتحقيق نفس الغرض. في حين عندما يحدث العكس، نجده يتجول بنا في حرية تامة في أرجاء الشقة، ويدع الإضاءة تنير الكادر، ويترك حرية الحركة والتصرف لشخصياته التي ترصدها الكاميرا في لقطات متوسطة أو بعيدة. وفي آونة أخرى نشعر بتلصصية الكاميرا على الجميع أو حتى إهمالها لهم والاهتمام بقطع من الأثاث أو الديكور أو باب يصفق أو تفصيلات بسيطة من هذا النوع. وبالتالي، فقد أوجد هايدو العديد من الحلول الفنية التي جنبته تمامًا أن يخرج فيلمه على نحو مسرحي الإخراج أو حتى قريبًا من العمل التليفزيوني.
إن كون الفيلم قد بني بالأساس على قصة بسيطة لا يقلل من قوة الفيلم ولا الأحداث، ولا من الحوارات المشوقة في المتابعة، ولا يجعلنا نغفل الأداء التمثيلي البالغ القوة من جميع الشخصيات دون استثناء، حتى الطفل برونو. ولا شك أن مرد هذا أيضًا هو إلى المصداقية الكبيرة المصنوع بها هذا الفيلم البسيط، بداية من القصة وانتهاء بالأداء. فقصة “ليست أفضل فترات حياتي”، على سبيل المثال، مستمدة من حياة المخرج وزوجته، والشقة لهما، والبطلة هي زوجته، والابن والابنة ابناهما في الحقيقة، وطاقم التمثيل هذا، وطاقم الفيلم أيضًا، دائمًا ما يستعين به المخرج في تنفيذ أفلامه، وهم أصدقاء بالأساس.
ولذا نرى أن الفيلم يعتبر بالفعل من النماذج التي يُحتذى بها، وهو بمثابة درس في التقشف في كل شيء، والاعتماد على أبسط الأشياء التي تحقق أعظم استفادة ممكنة، ففيلم مبهر ومشوق كهذا لم تتكلف ميزانيته أي شيء تقريبًا، ولم يعمل فيه طاقم عمل كبير. ومع ذلك لا يبدو أي أثر ملحوظ لهذا على أي مستوى من مستويات الفيلم، وكأنه قد صنع بميزانية ضخمة، الأمر الذي يضعنا في النهاية أمام ذلك التساؤل الأبدي المتعلق بالسينما العربية، سواء المستقلة أو غير المستقلة ومستواها التنافسي دوليًا، والذي دائمًا ما يرجعه الكثير لضعف الميزانية، والإنتاج، والرقابة إلى آخره، وأفلام مثل “ليست أفضل فترات حياتي”، وغيرها الكثير، تدحض قطعًا كل هذه الأقاويل والمزاعم.