محمد هاشم عبد السلام
الخميس 18 ديسمبر 2014
في كتابه الأخير الصادر حديثًا، مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي، تحت عنوان “جارسيا ماركيز والسينما: عاش ليكتب وتمنى أن يعيش ليصنع الأفلام” يبحر بنا الناقد والصحفي والمترجم: عصام زكريا في عالم الأديب النوبيلي الكولومبي الكبير جابريل جارسيا ماركيز، ليطلعنا على وجه آخر مغاير لذلك الذي عرفناه عليه كروائي وقاص وصحفي، إنه وجه ماركيز السينمائي، الذي قال ذات يوم عن السينما إنها: “أعظم اختراع عرفه عصرنا”.
وقد جاءت فصول الكتاب الأربعة في نحو مائة وعشر صفحات، وهي على النحو التالي: “عاش ليكتب وتمنى أن يعيش ليصنع الأفلام”، و”تأثير الفن السينمائي على أدب جارسيا ماركيز”، و”الطرق كثيرة لكتابة سيناريو… ولكن كلها لا تنفع”، و”عن الحب والسلطة وشياطين أخرى”، وتلاها ثلاثة ملاحق تحت عنوان: “نحن لسنا الله”، أعقبتها الفيلموجرافيا والمراجع. وتتخلل فصول الكتاب مجموعة رائعة من الصور الخاصة لماركيز في مراحل عمرية متباينة وكذلك لقطات من الأفلام وملصقاتها.
يتطرق الناقد في الفصل الأول من الكتاب، الذي يحمل نفس العنوان الفرعي، “عاش ليكتب وتمنى أن يعيش ليصنع الأفلام”، إلى الرغبة التي كثيرًا ما داعبت ماركيز، أحد أكثر أدباء العالم تماسًا مع عالم السينما ومجالاته المختلفة، في يصبح مخرجًا سينمائيًا يصنع أفلامه بنفسه وفقًا للصور التي تترى في مخيلته وتتبدى أمام عينيه. لكننا نتعرف من خلال ذلك الفصل على سبب تطليق ماركيز لهذا الحلم طلاقًا بائنًا والاكتفاء بالأدب، بالرغم من انخراطه على مدى حياته بممارسة النقد وكتابة السيناريو وتدريس السينما وحتى القيام ببعض الأدوار الهامشية في عدد من الأفلام. كما يتناول هذا الفص بدايات تعرف ماركيز على عالم السينما عندما كان صغيرًا، وذكرياته مع أوائل الأفلام التي حببته في السينما، وتركت فيه أبلغ أثر طوال حياته، ثم سفره إلى إيطاليا كمراسل صحفي وانتهازه تلك الفرصة لدراسة السينما هناك، وسبب ابتعاده عن الدراسة ونفوره منها بعد عام واحد فحسب.
تتمحور افتتاحية الفصل الثاني، “تأثير الفن السينمائي على أدب جارثيا ماركيز”، حول أهم الأفلام والأبطال والمخرجين الذين أثروا في ماركيز في بداياته عندما كان يشاهد الأفلام الأمريكية والأوروبية التي كانت تعرض بكولومبيا، وينتقل منها ليحدثنا عن تأثير الصورة البصرية عند ماركيز وكيف يستلهم منها كتاباته، ثم ينقل لنا عن لسان ماركيز كيف أنه فطن لطبيعة الوسيطين السينمائي والأدبي وحدودهما وأوجه الاختلاف والتلاقي بينهما، وخروجه من تلك الحيرة التي أربكته كثيرًا ليخلص لاحقًا للأدب وحده بإمكانياته الخيالية الهائلة على حد قوله، ويكف حتى عن كتابة السيناريوهات. وتحت عنوان فرعي، “العوامل السينمائية في أدب ماركيز”، أورد الكاتب أهم وأبرز ما قاله النقاد عن بعض العوامل السينمائية البادية في أدب ماركيز، سواء في أعماله المبكرة أو اللاحقة. واختتم الفصل بعنوان فرعي تساؤلي، “لماذا خيبت أعمال جارسيا ماركيز السينمائية توقعات القراء؟”، ويحاول الكاتب تحت هذا العنوان تفسير لماذا لم تحظ الأعمال السينمائية التي تحمل اسم ماركيز باهتمام نقدي وجماهيري يليق به وبأعماله الأدبية، ربما باستثناء ثلاثة أعمال فقط؟ وتأتي الإجابة عن هذا السؤال الكبير من خلال آراء بعض النقاد الذين فندوا الأمر بكلمات جد قليلة لكنها غاية في العمق والقوة.
أما الفصل الثالث، “الطرق كثيرة لكتابة سيناريو… لكنها كلها لا تنفع”، وقبل أن يدخل بنا المؤلف في صميم عنوان الفصل يعيدنا مرة أخرى، على نحو شديد التفصيل في هذه المرة، إلى بدايات علاقة ماركيز بالسينما ثم مشواره الذي استمر لسنوات طويلة في كتابة النقد السينمائي الجاد الرصين ودوره الرائد في هذا المجال الذي كان جديدًا في كولومبيا آنذاك. ثم ينطلق بعد ذلك تحت عنوان فرعي، “جارسيا ماركيز أستاذ السينما”، لاستخلاص أهم ما قاله وكتبه ونصح به ماركيز كتاب السيناريو، وذلك من خلال الأجزاء الثلاثة لكتاب “كيف تحكي حكاية؟” والتي كانت خلاصة ورشة ماركيز للسيناريو. ثم يُختتم الفصل بعنوان فرعي شديد الأهمية أورد تحته المؤلف أهم ما ذكره ماركيز عن الفارق بين الروائي وكاتب السيناريو، ولماذا يرى أن المهنتين مختلفتان جذريًا فيما بينهما.
أما الفصل الرابع، أحد أهم وأطول فصول الكتاب، “عن الحب والسلطة وشياطين أخرى: نماذج من أفلام جارسيا ماركيز”، فيحلق فيه الكاتب والناقد عصام زكريا، منتقلا بنا بين ثلاثة عشر فيلمًا من أهم الأفلام المأخوذة على نحو مباشر عن نص من نصوص ماركيز الأدبية مثل “سرد أحداث موت معلن”، و”ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”، و”ساعة نحس”، و”الحب في زمن الكوليرا”، وانتهاء بفيلم “ذاكرة غانياتي الحزينات”. وقد أحسن الناقد صنعًا بأن أورد مع كل فيلم ملخص للأحداث الخاصة به، ثم انتقل إلى العمل الأدبي ينقل لنا محتواه، ثم عقد مقارنة نقدية أدبية سينمائية بين الاثنين مبينًا أوجه التشابه أو الاختلاف. ثم نقاط الضعف والقوة في الفيلم ولماذا، وذلك من الناحية السينمائية، وأيضًا مقارنة بالنص الأدبي. كما أعطانا مع كل فيلم تقييمه الخاص كناقد متمرس لأكثر المخرجين نجاحًا في الاقتراب من عالم ماركيز الأدبي وأكثرهم ابتعادًا عنه.
وتحت عنوان “ملاحق”، نقرأ بأول ملحق حوارًا مترجمًا كان ماركيز قد أجراه مع المخرج السينمائي الكبير “أكيرا كوروساوا”، وكان ذلك بمناسبة إخراجه لأحدث أفلامه آنذاك وكان بعنوان “رابسودي في أغسطس”، ومن أهم الأسئلة المطروحة بالحوار ذلك الذي تناوله الكتاب عبر فصوله فيما يتعلق بماركيز نفسه، والذي سأله فيه كوروساوا عن أول ما يخطر في ذهنه في البداية، الفكرة أم الصورة؟ الملحق الثاني، “الصحافة والسينما: عملان ثانويان”، عبارة عن فصل مترجم من كتاب “عزلة جابريل جارسيا ماركيز”، يتحدث فيه عن الصحافة بوصفها عملا ثانويًا يمارسه المرء للتعيش، وكيف ينبغي عليه أن يأتي الوقت ويتركها اقتداء بنصيحة هيمنجواي، ونفس الأمر بالنسبة لكتابة السيناريو، كما يجيب عن سؤال متعلق ببصمة الصحافة والسينما على إنتاجه الأدبي. أما آخر الملاحق فجاء بعنوان “خلطة سينمائية ناجحة: جائزة نوبل ومجلة “بلاي بوي”!” وهو عبارة عن مقال مترجم كتبه المنتج الهوليوود المعروف “هارفي واينتسين” بعد أيام من وفاة ماركيز يستعرض فيه ذكرياته مع ماركيز، وأغلبها شديد الطرافة وكانت خير ختام بالفعل لهذا الكتاب الممتع الذي تفاجأ أنه انتهى بسرعة بين يديك، كما يدهشك حقًا ذلك المجهود الضخم الذي بذله الكاتب والناقد عصام زكريا في تتبع كل ما قاله وكتبه ماركيز وكل ما قيل عنه أو ترجم له في أكثر من مصدر وترجمة والمضاهاة فيما بينها وأحيانًا ممارسة التصحيح والترجمة وسد الثغرات، كي يخرج لنا في النهاية بخلاصة كل ما هو سينمائي بحت على قدر من الأهمية قاله الأديب والسينمائي الرائع جابريل جارسيا ماركيز، الذي له أكثر من خمسين فيلمًا يحمل اسمه كمؤلف للقصة الأصلية أو ككاتب سيناريو، ناهيك عن الأفلام التي تحمل اسمه كمشرف على السيناريو أو الأفلام الوثائقية التي صنعت عنه أو التي ظهر مُتحدثًا فيها.