محمد هاشم عبد السلام
2/6/2016
“ماريوبولس” هو الفيلم التسجيلي الثاني في رصيد المخرج الليتواني الشاب مانتاس كفيدرافيشيوس، والذي أنجزه بعد خمس سنوات من فيلمه الأول الذي حمل عنوان “البرزخ” 2011. في فيلميه رصد مانتاس السياسة على نحو مغاير. فقد كان فيلمه الأول يتناول عملية البحث المضنية التي تقوم بها إحدى الأسر من أجل العثور على أحد أفرادها الذين فقدوا في الشيشان. أما فيلمه الجديد ماريوبولس فيصور إحدى مناطق الصراع بأوكرانيا، ويرصد الحياة اليومية للبشر الذين يعيشون هناك بتلك المدينة.
فيلم ماريوبولس هو بورتريه لمدينة يمكن وصفها صراحة بأنها مدينة تحت الحصار، وبالرغم من كل الذي نراه على الشاشة، والذي يوحي بالعيش في حالة حرب مُستعرة، وفي مرمى النيران وتحت القصف، لكننا في المقابل لا نرى أي أثر لهذه الحرب أو المعارك أو الاشتباكات الدائرة على أطراف المدينة، ولا نلمح أي فرد من الفريقين المتحاربين أو المتصارعين فيها.
تقع مدينة ماريوبولس أو ماريوبول، كما يُطلق عليها اليوم، في شرق أوكرانيا، حيث يتدفق نهر “كالميوس” ليصب في النهاية في بحر “آزوف” في منقطة القرم، بالمدينة أحد الموانئ الكبرى بأوكرانيا، ويسكنها قرابة النصف مليون شخص، نصفهم من الروس والآخر من الأوكران، وقلة قليلة جذورهم يونانية، إذ كانت المدينة يونانية في الأصل، إنها دون شك مدينة متعددة الجنسيات والأعراق ومتنوعة الهويات والثقافات وحتى اللغات وربما اللهجات.
وماريوبولس الآن تحت سيطرة الدولة الأوكرانية، وتقع بالشرق على مسافة عشرين كلم فقط من مدينة “شيروكين” المنزوعة السلاح، والتي تشكل الحدود المتاخمة لجمهورية دونيتسك الشعبية، وهي أراضي محتلة في منطقة “الدونباس” من جانب الانفصاليين الموالين لروسيا. تلك المدينة المتنازع عليها، ومحل الصراع، والتي ربما لم يسمع العالم بها من قبل ولا بما يحدث فيها، هي محور فيلم المخرج مانتاس، الذي عُرِضَ بقسم البانوراما بمهرجان برلين الماضي.
هوجمت مدينة ماريوبولس عدة مرات منذ عام 2014، وكانت تحت سيطرة القوات الموالية لروسيا لمدة شهرين في مايو ويونيو من نفس العام. بعد ذلك، تمكنت القوات المسلحة الأوكرانية من استعادتها بمساعدة مجموعات مسلحة من عمال مصنع الحديد والصلب بالمدينة. وقد تعرضت المدينة منذ ذلك الحين للعديد من الهجمات المتتالية، وطالتها الصواريخ القادمة من الأراضي الانفصالية. وقد وصفت الصحافة العالمية الوضع في المدينة خلال العامين الماضيين بما يشبه الحرب الأهلية، وكيف أن المجتمع هناك في حالة حرب دائمة. في الفيلم نرى المدينة بعين المخرج على نحو مغاير بالمرة.
المدينة، التي يعتمد نشاطها الأساسي على صناعة الحديد الصلب ويوجد بها أحد المصانع العملاقة، تبدو من ناحية غارقة في حالة تامة من الهدوء والسكون، فالحياة اليومية بها عادية رتيبة. من ناحية أخرى، ونظرًا لأن المدينة تقع على النهر والبحر أيضًا، فقد كان من الحتمي إلقاء الضوء على حركة الصيد والصيادين البسطاء الذين يسعون يوميًا على أرزاقهم، على أمل يومي متجدد في أن يعودوا إلى البر محملين بالكثير من الخير الوفير. نرى أحد الآباء يلهو مع أطفاله، وفتاة تذهب مع والدها لتعلم الصيد، ومصنع الحديد والصلب يواصل العمل بكفاءة، وحيوانات مختلفة تعيش داخل أقفاصها بسلام وآمان في حديقة حيوانات المدينة، لكن في النهاية ما الذي يمكن وراء أو تحت كل هذا؟
في جانب آخر يرصد لنا المخرج إحدى الفرق المسرحية التي تجري تدريباتها وتمارينها، حيث يقومون بالغناء والرقص، وذلك على إحدى القطع الموسيقية، من أجل عرضها في يوم الاحتفال بـ “يوم النصر” في التاسع من مايو، الذي يوافق ذكرى سقوط النظام النازي عام 1945. بينما نرى من جانب آخر ابنة الإسكافي الشابة الطموحة تحاول التدرب من أجل أن تصبح في المستقبل مراسلة أخبار، فنراها مرارًا وتكرارًا تتحرك هنا وهناك وتصاحبها الكاميرا المحمولة التي ترصد حركتها أو تكون الكاميرا ثابتة وهي تتحدث إليها على نحو مباشر كأنها تنقل تقريرًا إخباريًا أو تكون وراء الكاميرا بينما تقوم بتصوير والدها في خضم عمله اليومي كإسكافي، إذ تجول بنا على أرفف قوالب الأحذية المتعددة المقاسات والأحجام، والأحذية المختلفة الأنواع والموضات، وكأننا داخل استوديو أحد الفنانين. في حين نجد والدها يتحدث إلى الزبائن، وأغلبهم من النساء، المترددين على محله في مختلف المواضيع اليومية والحياتية، وحتى الدينية أيضًا.
كل هذا الذي نراه وما هو أكثر منه يدور في خضم التفجيرات التي نسمعها أصواتها هنا وهناك، تنفجر على أطراف المدينة، والتي أحيانًا ما ترتج البنايات بسببها وتتهشم النوافذ، ومع ذلك فالحياة تسير بالمدينة على نحو يتسم بالطبيعية الشديدة، فأجراس الكنائس تدق في موعدها المعتاد، والترام يسير في أنحاء المدينة، والسكان يركبونه بانتظام، فقط يحتمون بالمبناني والسواتر عندما ندلع أصوات التفجيرات بين الحين والآخر. يبدو إنهم على قدر من اللامبالاة أو عدم الاكتراث أو الهدوء المثير للاستفزاز، بالرغم من أن المتمردين الداعمون لروسيا فقط على مسافة كليومترات قليلة، وبالإمكان سماع ليس فقط أصوات القذائف، بل حتى طلقات الرصاص، رغم أن المسافة ليست قريبة بالدرجة الكافية. هل هذا نوع من المقاومة أم الاستسلام القدري؟
هل جميع هؤلاء المدنيين الأبرياء متماهين مع حكوماتهم أم البعض مناوئ والآخر معارض أم ماذا؟ وما هي مواقفهم السياسية والأيديولوجية على وجه التحديد؟ هل ثمة اهتمام من جانبهم بالسياسات الخارجية للدول الكبرى كروسيا من جانب أو الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا من جانب آخر؟ لا يجيبنا الفيلم. لكن البادي أمامنا أنهم بالفعل غير مهتمين سوى بالعيش ومواصلة الحياة وفقط، في حين أنهم يواجهون آثار عمليات التعدي بسبب الصراع الدائر من ناحية بين المتمردين الموالين لروسيا، ومن ناحية أخرى القوات الحكومية الأوكرانية الموجودة بالمدينة. لكن المؤكد لنا مع نهاية الفيلم أن سكان تلك مدينة ماريوبولس، بالكاد على بينة بالصراع من حولهم، وبالتأكيد ليسوا على استعداد للمشاركة فيه، رغم أن المعركة لم تنته بعد ولم تحسم بشكل نهائي لطرف ضد آخر.
ينبغي القول إنه، دون شك، هناك الكثير من الإفراط في استخدام اللقطات المصورة على نحو أثقل على إيقاع الفيلم وأطاله دون معنى، فوصل زمن الفيلم في النهاية إلى ما يزيد عن الساعة ونصف الساعة. وكأن التصوير كان لأجل التصوير وفقط، أكثر منه لنقل حالة أو رؤية أو جهة نظر. وقد وقع المخرج في شرك الاقتراب الشديد من الواقع اليومي عن طريق الإكثار والإطالة من لقطات الحياة اليومية، ومعظمها غلب على جودته طابع الأفلام المصورة بكاميرا الفيديو المنزلي، فسقط صريع بطء الإيقاع وروح الهواة التي سيطرت على بعض فترات الفيلم.
كذلك نجم عن الاندفاع المحموم لتصوير كل ما يمكن تصويره العديد من العيوب بطبيعة الحال، ومن بينها مشكلات في الصوت، وفي أحيانًا كثيرة الإضاءة في الكادرات، كما كان لها أثرها البالغ دون شك على جودة الصورة، وجمالية التكوينات البصرية، والبنية التركيبية للفيلم. وبالرغم من خلو الفيلم من موسيقا تصويرية، لكن توظيف المخرج على نحو جيد للموسيقا الشعبية الخاصة بالمدينة، وبأصحاب الجذور اليونانية، في مناطق متفرقة من الفيلم، أكسبه الكثير من الحيوية وقضى على الكثير من لحظات الصمت المتعمدة بالفيلم.
لكن ما يحسب لمانتاس في النهاية أننا عشنا مع سكان تلك المدينة المجهولة تلك الأجواء المرعبة للحرب والدمار والخطر المحدق التي يعيشون في ظلها على نحو يومي، فقط عبر سماعنا لدوي المدافع وقذف القنابل والصواريخ وغيرها، دون أن نرى أي أثر للحرب على الشاشة. كذلك محاولته الخروج بالمدينة وطابع الحياة اليومية فيها على نحو فني، والارتقاء بإيقاعها على نحو شعري قدر الإمكان، كذلك إضفاء الكثير من اللمحات السينمائية الجمالية على عملية التصوير، وإبرازها على أكثر مما عداها، لكنه لم يوفق في كثير من الأحيان.