محمد هاشم عبد السلام
لا يوجد في تاريخ السينما منذ نشأتها مخرج انفعالي ومُعَبِّر مثل الرائد الكبير فيدريكو فيلليني، ذلك العملاق الإيطالي العظيم، الذي تمر اليوم، في العشرين من يناير، الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده.
إن مخرجًا عظيمًا بقدر فيلليني ليس بحاجة إلى تقديم، أو أية إشادة من أي نوع بعمله أو بموهبته، لكن ذلك لا يمنع من أن نمر سريعًا على سيرته ومسيرته الفنية منذ أن كان في بلدته الساحلية “ريميني”، التي أطلقت على مطارها مؤخرًا اسم مطار فيدريكو فيلليني، وحتى وفاته في مستشفى “بوليكلينيكو” في روما، مرورًا بفترة شبابه وتعرفه بزوجته الممثلة القديرة “جوليتا ماسينا”.
ولِد فيلليني، كما ذكرنا، في 20 يناير 1920، بمدينة ريميني، التي كانت بالنسبة له بمثابة كون خاص به وبأصدقاء طفولته وبالشخصيات الثرية التي جسدت أفلامه الكثير منها. كانت عائلته من طبقة بورجوازية متوسطة ولم يعان فيلليني أو عائلته في صغره وحتى إنهائه لتعليمه الثانوي من البؤس أو الحاجة إلى المال. سافر فيدريكو إلى روما بعد انتهاء دراسته الثانوية ليبدأ عمله، الذي استهله أولا بالصحافة، ثم رسم الكاريكاتير، وكتابة الأعمدة، والموضوعات الصحفية، إلى آخره، وما لبث أن أخذ يكتب النصوص والاسكتشات الإذاعية الفكاهية، والنصوص المعدة من أجل امتحانات الممثلين المتقدمين لاختبارات الإذاعة.
عن تلك الفترة، يحدثنا فيلليني في كتابه، “كيف أصنع فيلمًا”، فيقول: “كصبي اعتدت قضاء الساعات محاولا نسخ تلك الرسوم. كان لديَّ دائمًا ميل للخربشة أو الشخبطة على أي سطح أبيض – إنها العادة التي أحافظ عليها عندما أعد لفيلم، ولأنني لم يعد لديَّ ذكريات سينمائية للكلاسيكيات العظيمة، يظهر الفيلم لي أولا عبر الرسوم التخطيطية، الاسكتشات، التي أرسمها.
هذه الاسكتشات تمكنني من أن أفهم منظوريًا، وأتوصل إلى فضاءات مكان التصوير، والأزياء، وتحديد أي وجه للشخصية سوف أحتاجه – بالفعل، عندما أبدأ تحضير فيلم جديد تكون الخطوة الأولى هي الرسم. إنها أيضًا طريقة للقول لنفسي إنني أعمل، وأن الأمر كله على ما يرام وفي إطاره المرغوب. أثناء سنواتي الأولى في روما عملت أيضًا كرسام كاريكاتوري، من أجل لقمة العيش أو لكيلا أستدين: كنت أحيانًا أدخل إلى المطاعم وأسأل بجرأة إن كان أي شخص يريد أن أرسم له رسمًا كاريكاتوريًا”.
في تلك الأثناء تعرّف فيلليني على الممثلة الجميلة والفذة في أدائها وزوجته في المستقبل “جوليتا ماسينا”، التي كانت تقوم بالتمثيل في الإذاعة في تلك الفترة ومالبثا أن تعارفا، ثم، تزوجا في عام 1943، وقد ألهمت ماسينا فيلليني، وهو ما اعترف به أكثر من مرة، الكثير من أفلامه وكان تأثيرها عليه لا ينكر، وقد أشاد فيلليني بها وبموهبتها كممثلة، والمعروف أن ماسينا قد فارقت الحياة حزنًا على وفاة المايسترو بعده بخمسة أشهر.
كان فيلليني في هذه الفترة قد بدأ كتابة السيناريو وكان هذا سببًا في تعرفه على المخرج الإيطالي القدير، الذي وُصِفَ برائد الواقعية الإيطالية الجديدة، “روبيرتو روسيلليني”، وبدأ أول عمل معه في فيلم بعنوان “روما مدينة مفتوحة” عام (1945)، ثم بعد ذلك فيلم “مناظر طبيعية” (1946).
وقد أخرج فيلليني أول أعماله عام (1950)، وبعد كتابته لسيناريوهين أو أكثر (1951– 1952)، كلاهما من إخراج “بيترو جيرمي”، قدّم ثاني أعماله، وأولها كمخرج مستقل وكان بعنوان “الشيخ الأبيض” (1952). وفي عام (1953)، كان موعده مع الشهرة وذيوع وانتشار اسمه بعدما أخرج تحفته الأولى “العجول السمينة”، لينطلق فيلليني بعد ذلك محلقًا في سما الفن والإبداع بإيطاليا وأوروبا والعالم أجمع، ويحصد إلى جانب الجوائز والمديح والإطراء العديد من الألقاء مثل الأستاذ، والحالم، والمايسترو، وهو أكثر الألقاب التصاقًا به، وأيضًا النقد العنيف والاستهجان واللعنات من جانب النقاد والجمهور.
يعترف الكثير من النقاد العالميين ليس فقط بصعوبة التحدث عن أفلام فيلليني أو على الأقل تقديم فكرة عامة عمّا تدور عنه أحداث كل فيلم منها، بل أيضًا صعوبة تلقيها. وهي صعوبة ليست ناجمة من طبيعة الأفلام ذاتها أو توجهها لنخبة معينة من الجمهور، وإنما مردها للمايسترو نفسه، الذي أراد ونجح من خلالها في تقديم نوعية جديدة من الأفلام ليست للحبكة أو الحكاية وتتابع السرد والمشاهد دورًا كبيرًا فيه، بقدر ما للرؤية البصرية من دور أكبر.
هذا بالإضافة إلى تلاشي الخط الفاصل بين الحقيقة “الواقع” والخيال “الوهم” في أفلامه. إنها، إن شئنا الدقة، محاولة لحكي أحلامه. وهل هناك صعوبة أكثر من هذا؟ فالمرء يعجز عن هذا فيما يخص أحلامه ذاتها ولو لمرة، فما بالنا بهذا العملاق الذي لم يكف عن الحلم لما يزيد عن أربعين عامًا من العمل الإخراجي. وما يزيد الأمر صعوبة قوله: “أفلامي ليست للفهم. إنها من أجل الرؤية”.
هذا من جهة، من جهة أخرى إذا سألناه عن أفلامه، ما الذي كان يعنيه هذا الفيلم أو ذاك نجده يقول: “لمدة أربعين سنة كنت أحاول تفسير شيء ما لا أستطيع تفسيره. أسمع فقط أسئلة ليس بإمكاني الإجابة عنها”. أي أن عملية البحث في أفلام فيلليني عن إجابات معينة حتى لما طرحه هو وليس لأسئلتنا نحن، أمر بلا شك تحفه المخاطر، وأيضا بمثابة استخفاف بأفلامه، والوقوع في أسر التلقي السيئ، أو على الأصح سوء الرؤية البصرية.
فقد أتت أفلام فيلليني بمستوى شديد الجدة والخصوصية فيما يتعلق بالسينما الذاتية بصفة خاصة والسينما الإيطالية بصفة عامة، خصوصًا تلك النقلة بين سينما ما قبل الحرب وما بعدها، بل إنه واحد من أكثر المخرجين في عصره تعلقًا بسيرته الذاتية، وكثيرًا ما تضمنت أفلامه مشاهد عديدة مستوحاة منها، وتلك هي التهمة التي كثيرًا ما اتهمه النقاد بها وأخذوها عليه وعلى أفلامه، “الذاتية الشديدة التي تصل حد الإغراق”. وهذا هو ما نفاه المايسترو مرارًا وعارضه كمنهاج لتناول أفلامه. لكنه عاد في إحدى المقابلات الصحفية واعترف صارخًا ذات مرة في وجه أحد الصحفيين: “أنا مرتبط دائمًا بسيرتي الذاتية، حتى لو كنت أحكي قصة عن حياة الأسماك”.
والمثير في الأمر أن شخصية بحجم فيدريكو فيلليني في تاريخ السينما العالمية والإيطالية ومكانته آنذاك، وعدد أفلامه التي بلغت أربعة وعشرين فيلمًا تقريبًا، نجد أن عملها في صناعة السينما لم يكن سهلا بالمرة، ومر بالكثير من الصعوبات والعقبات على نحو متفاقم على امتداد تاريخه، سواء من حيث الحصول على المساندة المالية من قبل المنتجين أو من جهة الموزعين. ومن ناحية أخرى، تقلص النقد المتناول لأفلامه وأدعاء البعض أن كثيرًا من أعماله تافهة ولا أهمية لها، وأنها تؤكد ما عُرف عنه وهو أنه مخرج سيري، أي منغمس في سيرته الذاتية. وذلك برغم كل تلك الجوائز العالمية التي نالها ولم يسبقه لها أحد من قبل، فعلي سبيل المثال، ترشح اثنتي عشرة مرة لجوائز الأوسكار، فاز منها بأربعة جوائز أوسكار لأحسن فيلم أجنبي، وأوسكار خامس تكريمي لإسهامه الفذ في تاريخ صناعة السينما في عام 1993، هذا غير جوائز الجولدن جلوب والبافتا، وجوائز عدة في كان وبرلين وفينسيا وغيرها من المهرجانات العالمية.
لكن جزءًا من هذا مرده بالطبع لمهاجمة فيلليني لكل ما هو تافه وسحطي وفاسد، وكثيرًا ما شنّ المايسترو حملة شعواء ضد التليفزيون ومحطات الشبكات، كما رفع العديد من القضايا ضدها، بسبب كثرة قطع الإعلانات لأفلامه. وخاصة الشبكة التي يملكها إمبراطور الإعلام الإيطالي “لويجي بيرلسكوني”، الذي اشترى معظم أفلام فيللني واحتكرها إلى الأبد، ولم يستطع المايسترو أن يفعل شيئًا إزاء هذا السطو على إبداعه وخسر القضايا التي رفعها، ولم يستطع بالطبع أن يوقف هذا التدخل السافر والسخيف للإعلانات.
يقول المايسترو عن هذا في إحدى المقابلات: “إن ممارسة القطع الإعلاني في سياق عرض جاد هي جريمة فكرية، لأن معناها تنمية عملية تقطيع مسار التفكير وتعويد الناس على عدم الاصغاء إلى أي شيء أو مشاهدة أي شيء. وهي وسيلة، تبدو ناجحة جدًا، للحيلولة بين المتفرج والتفكير الجدي والعميق والمفيد فيما يشاهده. وليس فقط مجرد منعه من متابعة الحكاية التي يشاهدها أمامه”.
من ناحية أخرى، لا يستطيع أحد أن ينكر أن أفلام المايسترو، في أغلبها، على وجه الدقة، تهيمن عليها بجلاء عملية تصوير الحلم الخيالي بطريقة واضحة، بلا حدود فاصلة محددة بين الحقيقة والخيال. هذه البصمة التصويرية والإخراجية المنفذة وفقًا لمنطق الأحلام، أي منطق التدفق السريع، المضطرب، اللامعقول، الذي يحكم تدفق الأحلام ولا منطقيتها، هي قوام سينما فيلليني. وقد كانت بالقطع في زمنها شديدة الصعوبة على النقاد والمتخصيين وبالطبع الجمهور العادي.
لكن وبالرغم من كل ذلك، فليس ثمة شك في أن أفلام هذا المايسترو الساحر قد صنعت علامة مميزة، واستشرفت ذرى غير مسبوقة في تاريخ الفيلم وصناعة السينما. وسواء كانت هذه الأفلام قد أثني عليها أو تم تجاهلها، فإن كل واحد منها يعتبر محاولة لإعادة اكتشاف جوهر الفن السابع، هذا الفن الغامض والساحر دائمًا.
وفي النهاية ليست تلك سوى محاولة للاقتراب من عالم هذا المخرج الفذ، الذي رحل عن دنيانا في الحادي والثلاثين من أكتوبر عام 1993، وهو في الثالثة والسبعين من عمره، بسبب أزمة قلبية. وقد صدرت عنه بالعديد من لغات العالم، ولا تزال تصدر، مئات الكتب التي تتناول سيرته ومسيرته الفنية وأفلامه، وسيناريوهات أفلامه ورسوماته واسكتشاته، وقد ترجم منها الكثير إلى العربية.