يقع “متحف جوجنهايم بيلباو” في شمال إسبانيا، وبالتحديد في قلب مدينة “بيلباو” في إقليم الباسك. وقد قام المهندس المعماري “فرانك أوين جيري” بتصميم هذا المتحف البديع، والذي يعتبر تحفة معمارية فريدة ومدهشة من حيث التصميم والتنفيذ. وقد تم تشييد المتحف على مساحة تبلغ اثنين وثلاثين ألفًا وخمسة أمتار مربعة، ويقع المتحف على إحدى ضفتي نهر “نيرفي”، وينخفض مستوى المتحف عن مستوى مدينة بيلباو بحوالي ستة عشر مترًا تقريبًا. وتطل نهاية المتحف على أحد أهم الطرق الرئيسية المؤدية إلى وسط المدينة وهو شارع “بيونيت دي لا سليف”.
التصميم المعماري للمتحف
يتكون المتحف من مجموعة غير عادية من الأشكال الهندسية المتصلة والمترابطة فيما بينها بحيث تؤلف تكوينًا معماريًا ثلاثي الأبعاد غاية في الجمال والروعة. والمتحف مصمم من مجموعة متباينة الأشكال الهندسية المنحية والمقوسة والمتعامدة مصنوعة من الحجر الجيري ومغطاة بصفائح من مادة التيتانيوم تشبه في كسوتها لجدران المتحف القشور التي تغطي ظهر السمكة. كما أن جدران المتحف مزودة بستائر من الزجاج الذي يعمل على توفير الشفافية والضوء مما يحتاج إليه المتحف في الداخل، وتعمل هذه الستائر أيضًا على حماية الأعمال الفنية من الحرارة والأشعة. وقد استعان المهندس المعماري “فرانك أو. جيري” في تصميمه لتحفته بأجهزة الكمبيوتر للتغلب على التعقيد الرياضي والهندسي من جراء التعرج والالتواء على نحو أفعواني للجدران والزجاج. إن سماكة ألواح التيتانيوم المستخدمة في تغطية معظم جدران مبنى المتحف تبلغ نصف المليمتر، وقد تم استخدام هذه المادة للعمل على إضفاء لمسة جمالية على شكل المبنى من الخارج، وكذلك لحمايته من جميع المؤثرات الخارجية التي قد يتعرض لها لما يقرب من مئة سنة بعد إنشائه.
ولد المهندس المعماري الكبير “فرانك أوين”، وهو واحد من أهم المهندسين المعماريين في عصرنا، في الثامن والعشرين من شهر فبراير عام 1929 في أونتاريو في كندا، وله العديد من الأعمال الهندسية الرائعة في أمريكا وجمهورية التشيك واسكتلندا واليابان وألمانيا، ويعيش “فرانك أوين جيري” الآن في كاليفورنيا في أمريكا.
إن زوار متحف جوجنهايم بيلباو الذين يفدون إلى المتحف من شارع “كال إيباراجور”، وهو أحد الشوارع الرئيسية في المدينة ويشطر مدينة بيلباو بشكل قطري، يجدون أنفسهم مباشرة أمام المدخل الرئيسي للمتحف، حيث كانت الفكرة الرئيسية تقتضي أن يصل الزائرون مباشرة عبر هذا الشارع الهام والحيوي إلى أبواب المتحف الرئيسية دونما عناء يذكر. وبعد الوصول إلى الباب الرئيسي للمتحف تقود مجموعة من السلالم الواسعة الزائرين إلى صالة المتحف، وعلى الرغم من أن هبوط هذه المجموعة من الدرجات فكرة ليست معتمدة بشكل متكرر في تصميم المباني، إلا أنه قد تم اللجوء إليها عند تصميم المتحف للتغلب على الاختلاف في الارتفاع بين مستوى النهر المقام المتحف على إحدى ضفتيه ومستوى وسط المدينة. وهذا الانخفاض في مستوى الأرض التي تم اختيارها ليقام عليها المتحف أتاح للمصمم المعماري أن يصل بارتفاع مبنى المتحف إلى 50 مترًا دون أن يتناقض هذا الارتفاع مع المباني المجاورة له. يحتل متحف بيلباو بسطحه الخارجي شديد اللمعان والمكسو بصفائح التيتانيوم التي تعكس درجات متباينة من الإضاءة الساقطة على سطحها على مدار اليوم، يحتل مكانًا بارزًا كأحد أهم المباني الجديدة والمبتكرة في تاريخ العمارة الحديثة في القرن العشرين من حيث التصميم الانسيابي البديع سواء في الداخل أو الخارج.
المتحف من الداخل
بعد اجتياز زوار متحف جوجنهايم بيلباو للصالة الرئيسية للمتحفينتقلون مباشرة إلى ردهة المتحف، وهي بمثابة القلب الحقيقي للمتحف وإحدى السمات الأكثر تميزًا في تصميم “جيري”، حيث تعلوها كوة معدنية على شكل زهرة مصنوعة من المعدن، وتسمح هذه الكوة بتدفق الأشعة الضوئية التي تبعث في الردهة نوعًا من الدفء والجاذبية. من الردهة، يتاح لزوار المتحف الوصول بسهولة إلى تراس المتحف المكسوة بغطاء شفاف يستند على عمود حجري وحيد، ويخدم هذا الغطاء أغراض الوقاية بالإضافة إلى إضفاء لمسة جمالية في نفس الوقت. وينقسم المتحف، المقام على ثلاثة مستويات، من الداخل إلى: قاعات العرض، والبهو، والمطعم، والمكتبة، والمحلات المخصصة لبيع الكتب والكتالوجات ونسخ الأعمال الفنية الخاصة بالمتحف ومعروضاته، ومجموعة من المكاتب الإدارية.
قاعات العرض
تم تصميم قاعات العرض على ثلاثة مستويات حول البهو المركزي، وهذه المستويات متصلة ببعضها البعض عن طريق نظام من الممرات الملتوية المدلاة من سقف المتحف، وهي مزودة بمصاعد زجاجية وأبراج صغيرة مزودة بسلالم ذات غرض جمالي وتتيح للزائرين التطلع إلى خارج المتحف عبرها.
أماكن العرض المتحفي
تم تخصيص أحد عشر ألف متر مربع من المساحة الداخلية للمتحف لقاعات العرض التي يبلغ عددها تسع عشرة قاعة. وهذه القاعات التسعة عشرة مقسمة كالتالي: عشرة منها يغلب عليها تقريبًا الطابع الكلاسيكي في العرض المتحفي، وهذه القاعات العشرة يمكن تمييزها من الخارج عن طريق الزخارف الحجرية المميزة لها. أما القاعات التسعة الأخرى، فذات تصميم غير مستو ولا يتميز بالاستقامة كالقاعات الأخرى الكلاسيكية التصميم، وهذه القاعات التسعة يمكن تمييزها من الخارج عن طريق مادة التيتانيوم المستخدمة في كسوتها. وتوفر هذه المعارض الاستثنائية التصميم، حيث التلاعب بالمنظور والمساحات، مساحات داخلية كبيرة لعرض الكثير من الأعمال دون أن يشعر زائر المتحف بتكدس الأعمال المعروضة. في قاعة عرض كبيرة من هذه القاعات الاستثنائية التصميم، يبلغ طولها مائة وثلاثين مترًا وعرضها ثلاثين مترًا ولا توجد بها أية أعمدة، تم وضع الكثير من الأعمال الفنية التي تتميز بكبر أحجامها، وقد روعي في تصميم أرضيتها أن تكون مُعدة على نحو خاص كي تتحمل الأوزان الفعلية للأعمال الفنية المعروضة وكذلك حركة زوار القاعة وأعدادهم.
هناك نوع من الهارمونية أو التناغم بين الأشكال المعمارية التي تم تصميم المتحف عليها ومحتويات كل قاعة من قاعات العرض، وإلى جانب هذا فقد رُوعيَ في التصميم توفير نوع من السهولة الشديدة في القيام بجولة كاملة في أرجاء المتحف وقاعاته بما في ذلك منطقة البهو، التي هي في القلب من المتحف، وذلك عن طريق الممرات التي تربط أرجاء المتحف ببعضها البعض، دون أن يشق على الزائر التنقل بين أرجائه أو أن يضيّع الكثير من الوقت والجهد، كما أن هذه الممرات توفر للزائر أنواعًا مختلفة ومتنوعة من الرؤى أو المناظير المتجددة والمتغيرة لأماكن العرض. وقد لاحظ الكثيرون من زوار المتحف أنه على الرغم من الصعوبة والتعقيد الشديدين اللذين عليهما التصميم المعماري للمتحف وشكله الخارجي، إلاّ أن ثمة عالمًا واضحًا وسهلاً وشديد التنظيم والدقة داخل المتحف بحيث يتيح للزائر الوصول إلى أي مكان في المتحف من النقطة المتواجد فيها.
مولد الفكرة
إن اختيار مدينة بيلباو لكي تكون أحد أهم المراكز الثقافية لمؤسسة جوجنهايم في أوروبا كان ثمرة للجهود التي بذلها المسؤولون الباسكيون كمساهمة عملية في إنعاش البنية الاقتصادية المبتلاة بالركود في إقليم الباسك. وكان متحف جوجنهايم بيلباو واحدًا من المشروعات الكبيرة التي وضعت في الحسبان عند إعادة تطوير مدينة وتنمية هذه المدينة.
وكان متحف بيلباو نتاجًا للمشاورات البناءة بين مؤسسة “سولومون أر. جوجنهايم” والسلطات الباسكية. وقد انتهت المشاورات بين الطرفين إلى أن تقوم السلطات الباسكية بتأمين الدعم السياسي والثقافي للمشروع، وكذلك تمويل المتحف وتشغيله، في حين تقوم مؤسسة “سولومون أر. جوجنهايم” بالمساهمة في إمداد المتحف بمجموعاتها الخاصة من الفن المعاصر، وأيضًا بالعمل على إقامة وتنظيم العروض الخاصة في المتحف والإشراف عليها، ووضع خبراتها في كل ما يتعلق بهذا الشأن تحت تصرف القائمين على المتحف.
الخطوات الأولى
إن الخطة الطموحة التي أسهمت في خروج متحف بيلباو إلى النور بانت أولى ملامحها في فبراير عام 1991، عندما اتصل المسؤولين في السلطة الباسكية بمؤسسة “سولومون أر. جوجنهايم” وتقدموا باقتراح لوضع مدينة بيلباو بصفة خاصة وإقليم الباسك بصفة عامة في إطار الفعاليات الثقافية للمؤسسة، ورحبت المؤسسة من جانبها بذلك الاقتراح. وفي شهر ديسمبر من عام 1991، وبعد أشهر من المفاوضات بين الطرفين، تم لكل من “جوسيبا أريجي” وزير الثقافة في إقليم الباسك، و”جياني دي ميتشيليس” عضو مجلس الأمناء في مؤسسة “سولومون أر. جوجنهايم”، توقيع اتفاقية الخدمات والبرامج الخاصة بالمدينة والتي كان من ضمن بنودها الإشراف على متحف جوجنهايم بيلباو.
بعد تحديد الموقع المثالي للمتحف الجديد والنموذج الإنشائي وتكليف المهندس المعماري، قدمت الحكومة الباسكية المشروع في يوليو عام 1992 إلى مجموعة جوجنهايم التي كانت مهمتها الإشراف على تخطيط المتحف وعملية بنائه. بعد ذلك بوقت قصير، قامت المجموعة بتعيين “خوان إيجناسيو فيدرات” كمدير عام للمتحف. وقد قام المهندس المعماري “فرانك أوين جيري” بتقديم نموذجه للمتحف في فبراير عام 1993، وتم وضع حجر الأساس في 23 أكتوبر من نفس السنة. وفي أكتوبر 1994 بدأ العمل فيما سيعرف فيما بعد بمتحف جوجنهايم بيلباو وقبل انقضاء تلك السنة كانت الاتفاقية قد أبرمت بين مؤسسة سولومون آر. جوجنهايم والمسؤولين الباسكيين، وتم الاتفاق فيها على شروط التعاون والإشراف التي سيقوم بها كلا الطرفين. وفي النهاية، في نوفمبر 1996، قدمت مؤسسة جوجنهايم خطتها الاستراتيجية لإدارة المتحف لمدة أربع سنوات في الفترة من 1997 إلى 2000. وفي الثالث من أكتوبر 1997، وبعد الانتهاء من تشييد المبنى وتزويده بكافة المستلزمات، تم افتتاح المتحف، وبعد ذلك بأسبوعين تقريبًا فتح المتحف أبوابه رسميًا للجمهور في التاسع عشر من شهر أكتوبر بحضور ملك إسبانيا. وبعد أقل من عام على تاريخ الافتتاح الرسمي للجمهور، كان متحف جوجنهايم بيلباو قد استقبل ما يزيد عن مليون وثلاثمائة ألف زائر. وقد بلغت تكلفة إنشاء المتحف في ذلك الوقت حوالي مائة مليون دولار أمريكي.
الغرض من المتحف
إن الغرض من تأسيس متحف جوجنهايم بيلباو هو تكريسه لعرض الأعمال الفنية التي تم إبداعها بواسطة فنانين أمريكيين وأوروبيين خلال القرن العشرين. كما يعتبر المتحف بمثابة مركز دولي لعرض الفن الحديث والمعاصر، وكذلك عرض الأعمال الفنية المختلفة التي تعمل مجموعة جوجنهايم على تزويده بها.
الأعمال والمقتنيات:
تتضمن المجموعة الأساسية الدائمة العرض في المتحف تشكيلة متميزة وفريدة من الأعمال الفنية التي تم إبداعها من جانب أبرز الفنانين المعاصرين خلال الأربعين سنة الأخيرة من القرن العشرين، وقد عملت مؤسسة جوجنهايم على تدعيم المتحف بمجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعمال الفنية والنحتية المختلفة، وهذه الأعمال تنتمي إلى مدارس فنية عدة كالواقعية، والتصويرية والتعبيرية والتجريدية، ومنها أعمال تنتمي إلى الفن البدائي، وأخرى تنتمي إلى ما يعرف بفن “البوفيرا”.
يعرض في المتحف الآن:
“المعمار النحتي والنحت المعماري”: هذا هو عنوان المعرض المقام في متحف جوجنهايم بيلباو في الفترة من نوفمبر 2005 وحتى فبراير 2006. والغرض من هذا المعرض هو محاولة إبراز العلاقة بين فن المعمار وفن النحت، والتأكيد على جوانب التأثير والتأثر بينهما، وإلقاء نظرة على تاريخ تطور كل منهما والقواسم المشتركة فيما بينهما. يقول الكتالوج المصاحب لهذا المعرض عن الغرض من إقامته: “إن التأثير المتبادل بين المعمار والنحت أصبح ظاهرة ملفتة للانتباه، وتعتبر إحدى أهم الظواهر الفنية الأكثر إثارة وجدارة بالالتفات إليها ودراستها في القرن العشرين”. وقد اختار القائمون على تنظيم هذا المعرض عرض مائة وثمانين عملاً فنيًا تظهر فكرة المعرض وتؤكد عليها، هذا إلى جانب عرض الكثير من النماذج والصور الفوتوغرافية التي تجسد الأعمال النحتية للفنانين والنماذج الإنشائية التي قام بتشيدها المهندسين المعماريين. “التحدث بالأيدي”: يعرض المتحففي الفترة من 29 نوفمبر 2005 وعلى مدار عام 2006، وتشكيلة من الصور الفوتوغرافية للعديد من المصورين العالميين تحت عنوان “التحدث بالأيدي”، ومجموعة الصور المعروضة في هذا المعرض هي من المقتنيات الخاصة بالثري المعروف وعضو متحف جوجنهايم نيويورك وصاحب كبرى المؤسسات المتخصصة في التصوير الفوتوغرافي، “هنري إم. بوهل”، وتعرض في هذا المعرض حوالي مائة وسبعون صورة فوتوغرافية تتخذ من موضوع أو تيمة الأيدي فكرة رئيسية لها، ومن بين الفنانين الفوتوغرافيين المعروضة أعمالهم: جيانيني أنطوني، وديان أربس، ورتشارد أفيدون، وهنري بريسون وروبرت كابا، وأندرياس جروسكي، وغيرهم.