محمد هاشم عبد السلام

 

براج – 05/03/2015

 

على إحدى ضفتي نهر الفلتافا، وأسفل أحد أشهر جسور أوروبا والتشيك التاريخية، جسر تشارلز بالعاصمة براج، يقع أحد أهم المتاحف السينمائية في دولة التشيك وفي أوروبا بصفة عامة، وهو متحف “كاريل زيمان” رائد الخدع والمؤثرات البصرية. وقد افتتح المتحف، الذي يحتوي الكثير من أعمال زيمان ونماذجه السينمائية، في مطلع عام 2012.

والمتحف مُكَرّس بالكامل للكثير من أعمال أحد أهم الروائد الأوائل في تاريخ السينما الذين ابتكروا وأبدعوا وتخصصوا في فنون الخدع والحيل السينمائية، وأيضًا التحريك وغيرها من الابتكارات السينمائية، التي جعلت الكثير من النقاد ومؤرخين السينما، يطلقون عليه لقب “ميليس التشيك”، في مقارنة بينه وبين الرائد العظيم في تاريخ السينما، الذي سبقه بسنوات قليلة، الفرنسي “جورج ميليس”.

 

كاريل زيمان

مارس كاريل زيمان، الذي ولد في الثالث من نوفمبر عام 1910 وتوفي في الخامس من إبريل عام 1989، الإخراج السينمائي وتصميم المناظر والديكورات والخدع والحيل والمؤثرات البصرية والخاصة، وكذلك الرسوم المتحركة وفنون تحريك العرائس، حيث تضمنت الكثير من أفلامه العديد من اللقطات لعرائس أو دمى متحركة. ويعتبر زيمان أول من استخدم في أفلامه داخل السياق السردي الطبيعي الرسوم المتحركة إلى جانب الدمى أو العرائس المتحركة، واستطاع أن يجمع ويمزج بينها على نحو شديد التناغم والجاذبية وذلك على نحو لم يكن مسبوقًا من قبل في تاريخ السينما.

درس زيمان فنون الدعاية والإعلان لبعض الوقت في فرنسا وعمل أيضًا بالمجال نفسه هناك لفترة قصيرة ببعض الصحف والمجلات، طاف بعدها بمصر ويوجوسلافيا واليونان والمغرب، ثم عاد في النهاية ليستقر في “تشيكوسلوفاكيا” آنذاك. وبعد العمل في قسم التصميم والدعاية بشركات “باتا” التشيكية المعروفة، قادته الأقدار للعمل في استوديوهات “زلن” الشهيرة في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، لتظهر بعدها أولى أعماله الإبداعية القصيرة، ثم تتوالى بعد ذلك وحتى نهاية السبعينات أعماله الروائية الطويلة وتذيع شهرته عالميًا.

وفي مسيرة كاريل زيمان السينمائية ما يزيد عن عشرة أفلام روائية طويلة، استلهم فيها الكثير من الأعمال الأدبية أو التراثية، مثل أعمال جول فيرن أو ألف ليلة وليلة، مثل فيلمه “مغامرات السندباد البحار”، أو حتى من التراث الأدبي الفارسي مثل “كنوز جزيرة الطيور”. أما رصيد زيمان من الأفلام القصيرة فيزيد عن العشرين فيلمًا. ومعظم هذه الأفلام بالأساس عبارة عن مجموعة أجزاء تشكل في النهاية فيلمًا طويلا، وقد اعتمد فيها زيمان أكثر على النصوص الأدبية وإن كان لألف ليلة وليلة النصيب الأكبر منها.

في مطلع الثمانيات توقف زيمان عن صناعة الأفلام، وذلك بعدما أصيبت عيناه بمرض خطير كاد يفقده بصره كلية، لكنه قاوم وواصل العمل وتغلب على المرض، إلا إن المتاعب القلبية التي أصابته لاحقًا هي التي أقعدته في النهاية واضطرته تقريبًا لاعتزال العمل، والانشغال أكثر بالإشراف على الكثير من المشاريع والتدريس للشباب من السينمائيين.

هذا وقد حظي زيمان، الذي أثر في العديد من المخرجين السينمائيين مثل ستيفن سبيلبيرج وتيري جيليام وويس أندرسون وجورج لوكاس وغيرهم، بالكثير من الجوائز والتكريمات السينمائية داخل وخارج بلده، وكان آخرها حصوله على “نوط الجمهورية” أكبر نوط تمنحه دولة التشيك وذلك تكريمًا له ولدوره الرائد في مجال السينما والفنون البصرية بصفة عامة.

 

المتحف

بعد الدخول من الباب المفضي إلى القاعات الرئيسية للمتحف تطالعنا صورة مُكبرة للمخرج كايرل زيمان وقد كتب تحتها تاريخ ميلاده ووفاته وقائمة بالأفلام التي أخرجها على امتداد مسيرته المهنية. وإلى جوارها بعض أهم المقاطع المقتبسة من أحاديث أدلى بها المخرج على امتداد سنوات عمره، ومنها على سبيل المثال، “لماذا أصنع الأفلام؟ كنت أبحث عن أرض مجهولة، أرض لم تطأها قدم مخرج من قبل، كوكب لم يغزوه أحد قط، عالم موجود في القصص الخرافية فقط”.

ومع انتقالنا من قاعة لأخرى نرى على جدران المتحف العديد من الصور المُكبرة لكايرل زيمان مع مجسماته الفنية أو الدمى التي صنعها أو أثناء عمله في مواقع التصوير وخلف الكاميرا. ثم نطالع في الكثير من الشاشات الموزعة على جدران الحجرات العديد من اللقطات المأخوذة من أفلامه الروائية الطويلة أو القصيرة ومن حولها مجموعة من الصور التي تشرح كواليسها وخلفياتها ومراحل تنفيذها النهاية، قبل الصورة النهائية التي نطالعها عليها في الشاشات.

وفي قاعتين من أهم قاعات متحف كايرل زيمان، قاعتي “الأدوات والاكسسوارات”، يستطيع الزائر أن يتعامل على نحو تفاعلي مع بعض الآلات التي ابتكرها زيمان واستخدمها في أفلامها ومتاح للجمهور استخدامها والتفاعل معها سواء بالنظر عبرها، كالتليسكوب وغيره من أدوات الكبير أو التصغير وغيرها من الخدع، أو بتدويرها يدويًا من أجل تحريكها واكتشاف ما ستسفر عنه حركتها، أو ارتداء الأقنعة وغيرها من الملابس والخدع المتروكة للاستخدام.

كذلك يستطيع الزائر تجربة الآلة الطائرة التي ابتكرها من أجل فيلمه “العالم الرائع لجول فيرن”، والتي هي على شكل طائرة بدائية ذات جناحين يخفقان وتحلق، أو تجربة آلات أخرى من ابتكار زيمان تجعلك تبدو وكأنك تسير فوق سطح القمر وغيره من الكواكب، وكانت تلك مستخدمة في فيلمه “رحلة حول القمر”. وكذلك تلك الآلة التي استخدمت في فيلمه “المنطاد المسروق”، وهي تشبه المنطاد المتعارف عليه الآن. وهناك الكثير من الأدوات والاكسسوارات الأخرى التي استعان بها زيمان في أفلام أخرى مثل “رحلة إلى بداية الزمن” أو “مغامرات سندباد البحار”.

في قاعات أخرى نشاهد العديد من الاكسسورات الأخرى وبخاصة الملابس التي ظهرت بها شخصيات أفلام كارل زيمان على امتداد مسيرته، وهي من تصميمه وابتكاره، هذا إلى جانب بعض الدمى أو العرائس الكبيرة التي كان قد استخدمها في تنفيذ بعض المشاهد بأفلامه. هذا إلى جانب بعض الرسومات والاسكتشات التحضيرية والوثائق التي أبدعها أو دونها زيمان على امتداد مسيرته وحياته. إلى جانب بعض اللقطات الأرشيفية المسجلة معه والتي يتحدث فيها عن مهنته منذ أن بدأ وحتى توقفه عن العمل، وكيف استطاع، على سبيل المثال، ابتكار دمى ضخمة لديناصورات وأيضًا التحكم فيها وتحريكها عن بعد بحيث تبدو حقيقة فعلا، وذلك قبل عقود من تفكير أو إخراج سبيلبيرج لسلسلة أفلامه الشهيرة “حديقة الديناصورات”.

ومع العديد من الآلات المدهشة التي تزخر بها قاعات متحف كاريل زيمان، والتي لا تزال تثير الإبهار لجدتها وابتكارها، قد يتساءل المرء عن مدى اهتمام زيمان بالتكنولوجيا والآلات والابتكارات وتدخلها في حياة البشر وكيف كانت بارزة في العديد من أفلامه، لكن زيمان ورغم كل ما ابتكره من آلات نراها بمتحفه وأفلامه تحدث عن هذا فقال: “أبدع الإنسان عالمًا ضخمًا من الابتكارات التكنولوجية، التي ستكون نتائجها توليد الرهبة وبث الخوف. لحسن الحظ، الأحداث في العالم وفي حياتنا لا يتم تحديدها أو التحكم فيها عبر التكنولوجيا وحدها”.

ومع اختتام الزائر لجولته بمتحف متحف كاريل زيمان للمؤثرات الخاصة وقبل خروجه مباشرة من الباب يطالع تلك العبارة لزيمان، “أريد أن أهدي كل الأفلام التي أخرجتها إلى جميع الفتيات والفتيان”.