بقلم: ميلان كونديرا[1]
عن التشيكية: ميشيل هنري هيم
عن الإنجليزية: محمد هاشم عبد السلام
(1)
عندما احتل الروس في عام 1968 بلدي الصغير، تم حظر جميع كتبي وفقدت فجأة كل الوسائل الشرعية لكسب العيش. حاول عدد من الناس مساعدتي، يومًا ما جاء إليَّ مخرج واقترح أن أكتب مسرحية مقتبسة، ويوضع عليها اسمه، عن رواية “الأبله” لديستويفسكي.
لذلك أعدت قراءة الأبله وأدركت أنني حتى لو كنت سأموت جوعًا، فلن أتمكن من القيام بهذا العمل. إن عالم ديستويفسكي المليء بالإيماءات والإشارات المفرطة والمبالغ فيها، والأعماق القاتمة والعاطفية العنيفة العدوانية بدد حماستي. وشعرت فجأة بوخزة حنين غامضة إلى “جاك القدري”.
“ألم تكن تفضل ديدرو عن ديستويفسكي؟”
كلا، أنه ليس مفضلاً. أنا من ناحية أخرى، لم يكن بمقدوري التخلص من رغبتي الغريبة؛ في البقاء بصحبة جاك وسيده بقدر الإمكان، وبدأت في تجسيدهما كشخصيات في مسرحية خاصة.
(2)
لماذا الكره المفاجئ لديستويفسكي؟
هل كان رد فعل عكسي معاد للروس من تشيكي جريح الكرامة من جراء احتلال بلده؟ لا، لأنني لم أتوقف أبدًا عن حب تشيكوف. هل كان شكًا في القيمة الجمالية الفنية للعمل؟ كلا، لأن كرهي أخذ بتلابيبي فجأة، فاجأني ويترك مجالاً أمامي للموضوعية.
ما أغضبني وأسقمني بخصوص ديستويفسكي كان مناخ رواياته، أجواؤها: عالم يتحول كل شيء فيه إلى أحاسيس وعواطف؛ بعبارة أخرى، عالم ترتقي فيه الأحاسيس إلى مرتبة القيم والحقائق.
في اليوم الثالث للاحتلال، كنت أقود السيارة من براج إلى بديجوفيس (البلدة التي وضع فيها كامو مسرحيته سوء التفاهم). على امتداد الطرقات، في الحقول، في الغابات، في كل مكان، كانت هناك معسكرات جنود المشاة الروس. عند حاجز نقطة تفتيش ما أوقفوا سيارتي، وبدأ ثلاثة جنود مسلحين تفتيشها. فجأة، انتهت المهمة، الضابط الذي أمر بإنهائها سألني بالروسية،”كيف حالك. ما هي مشاعرك؟” لم يكن سؤاله ينم عن خبث أو سخرية. على العكس وواصل قائلاً:”إن الأمر كله سوء تفاهم كبير، لكن سوف يتحسن الوضع من تلقاء نفسه. يجب أن تدرك أننا نحب التشيك. وأننا نحبك!”
أتلفت ألوف الدبابات الريف، وكان مستقبل البلد معرّضًا للمجهول لقرون قادمة، ورجال الحكومة التشيكية قد تم اعتقالهم وخطفهم، وها هو أحد ضابط جيش الاحتلال يعرب لك عن حبه. أرجو أن تفهم ما أقول: لم تكن لديه أية رغبة في إدانة الغزو، على الإطلاق. تحدثوا جميعًا حديثًا يشبه حديثه، لم يكن موقفهم مبنيًا على المتعة السادية للمغتصب، وإنما على نموذج مخالف تمامًا: الحب غير المتبادل. لماذا يرفض هؤلاء التشيك (الذين نحبهم جدًا على هذا النحو) العيش معنا بالطريقة التي نعيش بها؟ للأسف نحن مجبرون على أن نستخدم الدبابات لتعليمهم ما المقصود بالحب!
(3)
لا يستطيع الإنسان الحياة دون عواطف وأحاسيس، لكن في اللحظة التي يعتبرون هذه الإحساسات قيمًا عليا في حد ذاتها، ومعايير للحقيقة، ومبررات لأنواع السلوك، تصبح مخيفة ومرعبة. تقف أنبل المشاعر والعواطف القومية جاهزة لتبرير أعظم الأهوال، والإنسان، المفعم صدره بالحماس العاطفي والغنائية، يرتكب البشاعات باسم هذا الحب المقدس.
عندما تحل العاطفة أي الأحاسيس محل التفكير المنطقي، تصبح هي الأساس لغياب الفهم والتفاهم، للتعصب؛ تصبح، كما عبّر عنها كارل يونج، “البنية الفوقية للوحشية”.
والإعلاء من شأن الأحاسيس إلى مرتبة القيم العليا والمبادئ الأخلاقية مسألة يرجع تاريخها إلى مدى زمني بعيد جدًا، ربما إلى اللحظة التي انفصلت المسيحية فيها عن اليهودية. “أحبوا الرب وافعلوا كما تشاؤون”، كما قال القديس أوغسطين، ويكشف هذا القول المشهور: عن أن هذا الحب ينقل معيار الحقيقة من المظهر الخارجي إلى الباطني الروحي، إلى المجال التحكمي للذات أو للشخصية الإنسانية. شعور غامض بالحب، (“أحبوا الرب!” – الضرورة المسيحية) يحل هذا الحب محل الناموس الواضح (ضرورة اليهودية ليصبح هو ذلك المعيار الضبابي الغائم الغامض نوعًا ما للأخلاق.
تاريخ المجتمع المسيحي مدرسة مشاعر وعواطف عتيقة: علّمنا يسوع على الصليب أن نعتز بالمعانة ونحتفل بها، واكتشف الشعر الفروسي الحب، وجعلتنا العائلة البرجوازية نتوق إلى الحياة العائلية، وتمكنت الديماجوجية السياسية من جعل الرغبة والإرادة ميلاً عاطفيًا والميل العاطفي قوة. هذا التاريخ الطويل هو الذي صنع أو كيّف ثروة، وقوة، وجمال عواطفنا وإحساستنا.
لكن منذ عصر النهضة فصاعدًا، تمت موازنة هذا الإحساس الغربي المرهف والبدائي عن طريق روح متممة مكملة: تلك الروح القائمة على العقل والشك، واللعب ونسبية الأمور الإنسانية. عندئذ فقط صار الغرب بحق وقد امتلك زمام نفسه.
في خطابه الشهير في هارفرد، وضع سولجنستين يده على نقطة البداية للأزمة الحقيقية للغرب الدائر الآن بقوة في فلك عصر النهضة. إنها روسيا- روسيا كحضارة منفصلة- هذا هو الشرح والكشف حسب تشخيصه، لأن تاريخ روسيا يختلف عن تاريخ الغرب تحديدًا في افتقاره إلى عصر النهضة والروح التي نشأت وتولّدت عن عصر النهضة. ولهذا السبب تحافظ العقلية الروسية على توازن مختلف بين العقل أو العقلانية والشعور أو العاطفة؛ في هذا التوازن الآخر الروسي (أو عدم التوازن) نجد اللغز الشهير للشخصية أو الروح الروسية (عمقها وأيضًا وحشيتها).
عندما سقط كل هذا الوزن من الحماقة المنطقية على بلدي، شعرت بحاجة غريزية للتنفس وبعمق من روح غرب ما بعد عصر النهضة. وبدت لي تلك الروح غير الموجودة في أي مكان بصورة أكثر تركزًا من حيث الاستمتاع البالغ بالفكر، والدعابة، والفانتازيا بالصورة التي عليها في “جاك القدري”.
(4)
إذا تحتّم عليّ تعريف نفسي، سأقول إنني من أصحاب مذهب اللذة في عالم مُكبل بالسياسة إلى أبعد الحدود. هذا هو الوضع الذي صورته في “غراميات مرحة”، كتابي الأثير عندي؛ لأنه يعكس الفترة الأكثر سعادة في حياتي. مصادفة غريبة:أكملت آخر قصص الكتاب (بعد الاشتغال عليها طوال الستينات) قبل وصول القوات الروسية المحتلة، بثلاثة أيام فقط.
عندما ظهرت الطبعة الفرنسية في 1970، اعتبرها النقاد في مصاف الكتب التقليدية لعصر التنوير. كنت مدفوعًا بالمقارنة، وكنت متلهفًا نوعًا ما بطريقة طفولية لتأكيد حقيقة أنني أحب القرن الثامن عشر تمامًا كحبي لديدرو. ولكي أكون أكثر صراحة، أنا أحب رواياته. ولكي أكون دقيقًا، أحب ” جاك القدري “.
مثل هذه القدرة على الفهم والتعاطف مع الأعمال الكاملة لديدرو قد تكون إفراطًا شخصيًا في الحب من جانبي، لكنني أطنه إفراطًا غير اعتباطي. يمكن لنا الاستغناء عن ديدرو الكاتب المسرحي، ويمكننا، عند الضرورة، فهم تاريخ الفلسفة دون قراءة مقالات هذا الموسوعي العظيم؛ لكن – وهنا أنا أصر- سيكون تاريخ الرواية ناقصًا وغير مفهوم بدون “جاك القدري”. قد أذهب بعيدًا جدًا وأقول إن هذا العمل مفيد لمن يتفحصه بدقة، ليس فقط كجزء من آثار ديدرو الأدبية، لكن بالأحرى في سياق الرواية العالمية أيضًا؛ تصبح عظمته الحقيقية ظاهرة جلية فقط إلى جوار”دون كيخوته” أو “توم جونز” أو “عوليس”، أو “فريدي ديورك” (الأخير عمل للكاتب البولندي فيتولد جمبروفيتش؛ أحد أهم الروائيين في قرننا العشرين؛ وأعتقد أنه، للأسف، غير معروف بشكل جيد في أمريكا).
لكن مقارنة بمجالات ديدرو الأخرى؛ أليست “جاك القدري” مجرد تسلية وحسب؟ حيث لم يكن قد تأثر وبقوة بنموذجه العظيم، “تريسترام شاندي”، للورانس ستيرن؟
(5)
أسمع كثيرًا أن الرواية قد استنفدت كل إمكانياتها. بيد لديّ انطباعًا مغايرًا: فعبر تاريخها الممتد لأربعمائة سنة، فقدت الرواية الكثير من إمكانياتها؛ حيث تركت الكثير من الإمكانيات والفرص التي لم تستكشف، مسارات كثيرة منسية، أصواتًا غير مسموعة.
“تريسترام شاندي” واحدة من تلك الفرص العظيمة المفقودة. هذه الرواية استنفدت النموذج النفسي كمثال عظيم من قبل صامويل ريتشاردسون، الذي اكتشف إمكاناتها السيكولوجية في شكل رسائل. وقد أولت، من ناحية ثانية، اهتمامًا ضئيلاً فيما يخص المحتوى الرؤيوي في مشروع ستيرن.
“تريسترام شاندي” رواية ألعاب. ستيرن يقبع على مسافة من أيام تصوره لبطله وميلاد هذا البطل فقط لكي يتركه ويتجاهله بعد ذلك، ودون خجل تقريبًا، وعلى الدوام باستثناء اللحظة التي جاء فيها إلى العالم؛ يمزح مع قارئه ويضل طريقه في استطرادات مستمرة، يبدأ حدثًا ولا ينهيه أبدًا؛ يحشر الإهداء والمقدمة في منتصف الكتاب، وهكذا دواليك، عبر الرواية كلها.
باختصار: لم يبن ستيرن قصته وفقًا لمبدأ وحدة الحدث التي، كأمر مسلّم به، تم اعتبارها بالذات من صميم فكرة الرواية الخالصة إلى حد بعيد جدًا. بالنسبة له، كانت الرواية هي تلك اللعبة الكبيرة والعظيمة المرتكزة على الشخصيات المخترعة، كانت تعني الحرية غير المُحدِّدة أو المقيدة للإبداع المنهجي.
دفاعًا عن ستيرن كتبت ناقدة أمريكية: “بالرغم من أن تريسترام شاندي كوميديا، فهي عمل جاد، وجاد طوال الوقت”. بحق السماء ما الذي تعنيه كوميديا جادة وكوميديا غير جادة؟ بالرغم من أن هذه الجملة التي استشهدت بها أنا خالية من المعنى، في حد ذاتها، إلا أنها مثال رائع على الذعر الذي يمسك يعتري النقد الأدبي كلما تحتم عليه التصدي لشيء ما يلوح له على أنه غير جاد.
لأصرِّح بشكل قاطع: ليست هناك رواية جديرة بأن يطلق عليها رواية تأخذ العالم بجدية. علاوة على ذلك، ما الذي يعنيه “أخذ العالم بجدية؟” إنها بالتأكيد تعني: تصديق ما يريدنا العالم أن نصدقه. من “دون كيخوته” إلى “عوليس”، قامت الرواية بتحدي ما يريدنا العالم أن نعتقده.
لكن قد يرد أحدنا: يمكن أن ترفض الرواية تصديق ما يريدنا العالم أن نصدقه، مع احتفاظ الرواية بالصدق مع نفسها، مع حقيقتها الخاصة؛ إنها ليست في حاجة لأخذ العالم بجدية لتكون هي نفسها جادة.
ثم عليّ أن أسأل: لكن ما الذي يعنيه “أن تكون جادة؟” يكون المرء جادًا إذا آمن بما يمكنه إقناع الآخرين به.
وهذا بالضبط هو ما تفعله “تريسترام شاندي”. إنها غير جادة طوال الوقت؛ إنها لا تجعلنا نعتقد أو نثق في أي شيء: لا في حقيقة شخصياتها، ولا في حقيقة وصدق مؤلفها، ولا في صدق الرواية كنوع أدبي. كل شيء مدعاة للتساؤل، كل شيء عرضة للشك؛ كل شيء هو ترفيه (ترفيه غير مخجل) – ذلك ف كل شيء اتفق عليه كشكل للرواية.
اكتشف ستيرن الاحتمالات الهائلة للمرح المتأصل الملازم للرواية، فإذا به يفتح مسارًا جديدًا لتطورها. لكن أحدًا لم يهتم لا “بمساره، ولا رحلته، ولا دعوته”. لم يسر أحد على دربه. باستثناء ديدرو.
كان وحده من تجاوب مع هذا النداء الجديد. وبالتالي يكون من العبث عدم تصديق أو التشكيك في أصالة إبداعه. لم يطعن أحد في أصالة أعمال روسو، أو لاكلوس، أو جوته على أساس أنهم يدينون بالكثير (هم وتطور الرواية بصفة عامة) إلى العجوز الساذج ريتشارد سون. إذا كان التشابه بين ستيرن وديدرو مدهشًا جدًا، فهذا راجع فقط لأن مشروعهما المشترك ظل مجهولاً في تاريخ الرواية.
(6)
الاختلافات بين “تريسترام شاندي” و”جاك القدري” لا تقل أهمية عن التشابهات.
أولاً هناك اختلاف في طبيعة المعالجة: ستيرن بطيء، طريقته هي من النوع ذي الإيقاع البطيء، منظوره كالميكروسكوب (يمكنه إيقاف الزمن وعزل لحظة بعينها في الحياة تستغرقه تمامًا، مثلما فعل جويس فيما بعد).
ديدرو سريع؛ طريقته هي من النوع المتسارع؛ منظوره كالتليسكوب. (لا أعرف صفحات افتتاحية لرواية أكثر إدهاشًا من الصفحات الأولى لجاك القدري: التداول السريع للأحداث، إحساس الإيقاع، السرعة الفائقة للجمل الأولى الافتتاحية).
ثم اختلاف في البناء: “تريسترام شاندي” هي الحديث الفردي – المونولوج – للراوي الواحد، وهو تريسترام نفسه. ويتابع ستيرن بدقة أقل نزوة حبل أفكاره الغريب.
بينما استخدم ديدرو خمس رواة، يقاطعون بعضهم البعض لسرد قصص الرواية: المؤلف نفسه (في حوار مع قارئه)، السيد (في حوار مع جاك)، جاك (في حوار مع سيده)، مديرة الفندق (في حوار مع نزلائها) والمركيز دي أرسيس. والأداة المهيمنة والمسيطرة في كل هذه القصص الفردية هي الحوار (وذلك في براعة لا حدود لها). لكن نظرًا لأن الرواة يسردون حواراتهم في شكل ديالوج يتكرر غالبًا (حوارات داخل الحوارات الأخرى)، فإن الرواية برمتها ليست سوى محادثة طويلة مزعجة.
هناك أيضًا اختلاف في الروح: كتاب بارسونز ستيرن هو تسوية أو مصالحة بين روح من التفكير الحر العقلية وروح الوجدان العاطفية، ذاكرة متشوقة لعربدة ومرح رابليه الصاخب في غرف الانتظار في ملحق الاحتشام الفيكتوري.
رواية ديدرو انفجار من الحرية الوقحة بدون رقابة ذاتية، من الشبق دون أعذار عاطفية.
أخيرًا هناك اختلاف في درجة الوهم الواقعي: يُعطّل ستيرن التسلسل الزمني، لكن الأحداث مرتكزة ومثبتة بإحكام في الزمان والمكان. شخصياته غريبة شاذة، لكنها مزودة بكل ما هو ضروري لجعلنا نعتقد بوجودها الفعلي.
يبدع ديدرو فضاء لم يتوفر من قبل في تاريخ الرواية: خشبة مسرح بدون مشهد. من أين تأتي الشخصيات؟ لا نعرف. ما هي أسماؤهم؟ ليس هذا من شأننا. كم يبلغ عمرها؟ لا دخل لنا بهذا، كلا، لم يفعل ديدرو شيئًا لجعلنا نعتقد أن شخصياته موجودة في الواقع في لحظة بعينها. في تاريخ الرواية كله، تمثل جاك القدري الرفض الأكثر ثورية وراديكالية للإيهام بالواقع والجماليات السيكولوجية للرواية.
(7)
طريقة الفهم والاستيعاب والتمثل هي انعكاس صادق مخلص للميول المتعمقة الكامنة لزماننا. إنها تجعلني أعتقد أنه في يوم ما ستعاد كتابة كل ثقافة الماضي بالكامل وأن ثقافة الماضي هذه ستنسى مع إعادة الكتابة. إن أعظم الروايات التي أعدت للشاشة والمسرح ليست سوى نوع من تلخيص ما سبقت كتابته.
ليس هدفي الدفاع عن البكارة المقدسة للأعمال الفنية. حتى شكسبير أعاد صياغة أعمال مبدعين آخرين. إلاّ أنه رغم ذلك لم يقم، بعمليات إعداد، وإنما فقط استخدم العمل كموضوع (تيمة) نسج عليه تنويعاته وتغييراته الخاصة، حيث كان وقتها مؤلفًا فذًا فريدًا وذائع الصيت. استعار ديدرو من ستيرن القصة الكاملة الخاصة بإصابة جاك في ركبته، وما أعقبها من وضع أياه في كرسي متحرك يتمتع بعناية ورعاية امرأة جميلة. لكن في هذا العمل المشار إليه لم يقم لا بتقليد ولا معالجة قصة ستيرن، بل كتب تنويعه الخاص على موضوع (تيمة) ستيرن.
وفي مقابل ذلك، نجد إعادة (معالجة) وتقديم “آنا كارنينا” التي يراها المرء على خشبة المسرح أو الشاشة في عدة معالجات لها، إن هذه، ما هي إلا اختزالات. ما يفعله المعالج في معظم الأحيان هو البقاء متواريًا بمهارة خلف الرواية، إنه بذلك يخون الكثير فيها. فباختزاله لها، يحرمها ليس فحسب من جاذبيتها وسحرها بل أيضًا من معناها.
توليستوي، كي لا نذهب بعيدًا، أثار قضية السلوك أو الفعل الإنساني في أسلوب جديد جذريًا وكليًا في تاريخ الرواية، ألا وهو اكتشاف الخطورة القاتلة والمدمرة للتشوهات المنطقية في اتخاذ القرار. لماذا تنتحر آنا؟ ذهب توليستوي بعيدًا قدر الإمكان في استخدام مونولوج داخلي جويسي (نسبة إلى جيمس جويس) تقريبًا لتوضيح شبكة الدوافع غير المنطقية أو اللاعقلانية التي تدفع بطلته إلى الانتحار. كل إعداد لهذه الرواية سوف، ولطبيعة خالصة نابعة من مبدأ التلخيص نفسه، يحاول جعل أسباب سلوك آنا واضحة ومنطقية، أن يبرر إذن ويعقلن هذا السلوك، ولهذا يصبح الإعداد الجديد هو النقيض، لا أكثر ولا أقل، لأصالة الرواية.
وبشكل عكسي: إذا نجا معنى الرواية من عملية إعادة الصياغة، فهو دليل مباشر بعد ذلك على وسطية الرواية وعدم تميزها. في الأدب كله ثمة روايتان غير قابلتين للاختزال أبدًا، نعم، تستحيل إعادة صياغتهما: “تريسترام شاندي وجاك القدري”؛ إذ كيف يمكن للمرء تبسيط مثل هذا الاضطراب وتلك الفوضى المتألقة ولا يتخلى عن أي شيء؟ ما الذي سيتركه؟ صحيح، بوسع المرء اقتطاع قصة “مدام دو لابوميراي” وتحويلها إلى مسرحية أو فيلم؛ بالطبع، وقد تم هذا. لكن كل ذلك ينتج عنه حكاية عادية مبتذلة تمامًا ومفتقرة إلى الجاذبية. لأن جمال الحكاية لا ينفصل عن الطريقة التي سردها بها ديدرو: 1) امرأة من الشعب تروي سلسلة من الأحداث التي تحدث في محيط أو سط اجتماعي يقع خارج نطاق معرفتها. 2) كل إمكانيات التعريف والبعد الميلودرامي للشخصيات مُعطلة ومتعثرة بفعل حقيقة ثابتة هي أن الحكاية دائمة التكرار، وتتعرض لمقاطعات شتى متضاربة عن طريق الحكايات والتعليقات الأخرى. 3) الانتقاد المستمر، والتحليل، والمناقشة بصفة ثابتة. 4) لكن، كل معلق من المعلقين يستنبط بطريقته ويخرج بنتيجة مختلفة منها، نظرًا لأن حكاية مدام دو لابوميراي هي حكاية لا أخلاقية.
لماذا التطرق والإيغال في كل هذا؟ لأنني أرغب في الاحتجاج والتشكي مع سيد جاك قائلاً، “الموت لكل من تجاسر على إعادة صياغة ما تمت كتابته! … إخصِهم واقطع آذانهم!”
(8)
وبالطبع، عليّ أن أقول إن “جاك وسيده” ليست إعدادًا؛ إنها مسرحيتي الخاصة بي، إنها “تغييري وتنويعي الخاص على ديدرو”، أو، نظرًا لأنها كانت موضع الإعجاب، “مبايعتي وتقديري لديدرو” على طريقتي.
هذا “التنويع الاحتفائي” يمثل مواجهة متعددة الوجوه: لقاء لكاتبين لكنها أيضًا لقاء بين قرنين ومواجهة بين الرواية والمسرح أيضًا. كان شكل العمل المسرحي دائمًا كتلة أكثر صرامة ومعيارية من ذلك الشكل الذي للرواية. لم يكن لدى المسرح أبدًا ما قدمه لورانس ستيرن. وبمحاولة منح الكوميديا الخاصة بي الحرية الشكلية التي اكتشفها الروائي ديدرو والتي لم يعرفها الكاتب المسرحي ديدرو، كتبت ليس فقط تقديرًا لديدرو واحتفاء به “لكن أيضًا” تقديرًا وتكريمًا للرواية”.
هذا هو الهيكل البنائي لها: على الأساس الهش لرحلة جاك وسيده ترتكز ثلاث قصص حب: للسيد، ولجاك ولمدام دي لابوميراي. بينما القصتان الأوليان مرتبطتان على نحو غير محكم بنتيجة الرحلة (لكن الثانية غير محكمة جدًا)، تأتي القصة الثالثة، التي تستغرق الفصل الثاني بأكمله، من وجهة النظر التقنية ببساطة ووضوح (غير مندمجة في الحدث الرئيسي)؛ إنها خرق بيّن وواضح لـ”قوانين” البناء الدرامي. لكن كان هذا حيث وضعت رهاني: متنازلاً عن صرامة وحدة الحدث، حاولت خلق شمولية كاملة مترابطة ومتماسكة بوسائل أكثر دقة: عن طريق تقنية تعدد الأصوات “البولي فوني” (حيث القصص الثلاثة تمتزج معًا بدلاً من السرد التتابعي)، وعن طريق تقنية (تكنيك) التنويع (كل قصة من القصص الثلاثة هي في الواقع تنويع على الأخريات). لذا فإن هذه المسرحية، التي هي تنويع على ديدرو، هي في الوقت نفسه، “احتفاء بتقنية التنويع”، التي كانت، بعد سبع سنوات بالضبط، هي نفسها المستخدمة في روايتي “الضحك والنسيان”.
(9)
بالنسبة لكاتب تشيكي في سنوات السبعينات، كان غريبًا عليه تصور أن “جاك القدري” (أيضًا كتبت في سنوات السبعينات من القرن التاسع عشر)، لم تنشر أبدًا أثناء حياة مؤلفها وأنها قد تم تداولها بين جمهور خاص ومحدود فقط كمخطوطة. وأن ما حدث في أيام ديدرو وقد كان حدثًا استثنائيًا، صار في براج بعد مائتي عام، قدر كل كتاب التشيك المهمين، الذين، تم منعهم من النشر، وأمكن الاطلاع على أعمالهم فقط في نسخ مخطوطة. بدأ الأمر مع الغزو الروسي، وقد استمر حتى الوقت الحاضر، وما تبدو عليه الأشياء أن ذلك قد وجد هنا ليبقى.
كتبت “جاك وسيده” لمتعتي الخاصة وربما تحت إلحاح فكرة غامضة مفادها أنها في يوم ما قد يتم تمثيلها على مسرح تشيكي تحت اسم مستعار. وعلى ذكر التوقيع فقد قمت بترصيع النص (وكان ذلك لعبة أخرى، وتنويع آخر!) بتذكارات عديدة من أعمالي السابقة: جاك وسيده يذكران بالصديقين في “التفاحة الذهبية للرغبة الأبدية” (غراميات مرحة)؛ هناك إشارة إلى “الحياة هي في مكان آخر” وأخرى إلى “فالس الوداع”. نعم، كلها كانت تذكارات؛ المسرحية بالكامل كانت وداعًا لحياتي ككاتب، “وداع في شكل ترفيه”. “فالس الوداع”، الرواية التي أنهيتها تقريبًا في نفس الوقت، كانت ستصبح روايتي الأخيرة. إلاّ أنني عشت تلك الفترة حتى نهايتها بدون المذاق المر للهزيمة، وداعي الخاص الصميمي اندمج بشكل كلي مع وداع آخر، وداع على درجة أكثر عظمة، وداع آخر تجاوزني: في مواجهة ظلام الليل الروسي السرمدي، تجرعت وقاسيت في براج النهاية العنيفة للثقافة الغربية، كالتي تم التعبير عنها في فجر العصر الحديث، التي كانت قائمة على أساس حرية الفرد والتفكير الفردي، وعلى أساس تعددية الفكر، وعلى التسامح. في بلد غربي صغير شهدت وقاسيت تجربة نهاية الغرب. كان هذا هو الوداع الكبير.
(10)
بصحبة فلاح أمي يعمل كخادم خرج دون كيخوته ذات يوم للقيام بمعركة مع أعدائه. بعد مائة وخمسون عامًا، قام “توبي شاندي” بتحويل حديقته إلى نموذج عظيم لميدان قتال؛ وهناك كرّسَ وقته لاستعادة ذكريات شبابه في الجيش، وكان يقوم على خدمته بأمانة خادمه العريف،”كوربورال تريم”. كان تريم مصابًا بعرج في مشيته، يشبه إلى حد كبير عرج جاك، الذي سيقوم بعد عشر سنوات بتسليه سيده في رحلتهما. كان تريم ثرثارًا وعنيدًا مثل الجندي “شيفيك”، الذي، بعد مائة وخمسين عامًا، في الجيش النمساوي المجري، سيكون مسليًا ومفزعًا جدًا لسيده، الملازم “لووكاك”. وبعد ثلاثين عامًا من ذلك، في انتظار جودو، كان فلاديمير واستراجون بمفردهما فوق خشبة مسرح العالم الخالية. فالرحلة انتهت.
شق الخادم والسيد طريقهما ومسارهما على امتداد تاريخ الغرب الحديث. في براج، مدينة الوداع الكبير، سمعت ضحكهما الخافت. وبحب وغم، تعلقت بذلك الضحك مثلما يتعلق المرء بأشياء سريعة الزوال، أشياء فانية، أشياء أضحت مدانة.