القاهرة – محمد هاشم عبد السلام
13/11/2014
افتتح مهرجان القاهرة السينمائي دورته السادسة والثلاثين يوم الأحد الماضي، بعد انتظار دام قرابة العامين، بعدما تأجيل دورة العام الماضي لأسباب عديدة، بمجموعة دسمة من الفعاليات المتنوعة المقامة على هامش أقسام المهرجان الرسمية، التي تضم أربعة وستين فيلمًا طويلا من ثلاثين دولة، منها ثمانية وعشرين فيلمًا أوروبيًا، وستة من أمريكا اللاتينية وخمسة من أمريكا وكندا. أما المسابقة الدولية فتضم لأول مرة بالمهرجان وفي نفس المسابقة ثلاثة أفلام تسجيلية وفيلمي تحريك وأحد عشر فيلمًا روائيًا طويلا ثلاثة منها تمثل ثلاث بلدان عربية هي مصر والإمارات وفلسطين. وقد نجح المهرجان في الحصول لأقسامه على أربعة أفلام عرض عالمي أول، وخمسة أفلام عروض دولية أولى خارج بلد الإنتاج، وثمانية وأربعين فيلمًا تعرض للمرة الأولى في العالم العربي وأفريقيا.
معارض
كانت أولى فعاليات هذه الدورة افتتاح مجموعة من المعارض المتنوعة، أحدها خاص بالمطبوعات السينمائية، افتتحه شيخ النقاد المصريين أحمد الحضري، ويضم مجموعة من الكتب السينمائية المؤلفة والمترجمة الصادرة بمصر وبعض الدول العربية، إلى جانب مجموعة من الصور القديمة والحديثة وكذلك الأفيشات الخاصة ببعض أفلام السينما المصرية والعالمية، وكلها تباع لضيوف المهرجان والمترددين عليه. بعد ذلك افتتح الناقد هاشم النحاس معرضًا للصور، بمناسبة مئوية ميلاد المخرج المصري هنري بركات، يسعترض مجموعة متميزة من الصور للمخرج في مراحله العمرية وكذلك الكثير من أفيشات أعماله وما كتب عنه وعن أفلامه في الصحف العربية والعالمية، وقد عرض أثناء الافتتاح فيلمًا قصيرًا تناول مشواره عن نحو موجز، وإلى جانب هذا صدر كتيبًا يحتوي على كل ما جاء بالمعرض، الذي أشرفت على تنفيذه الناقدة صفاء الليثي، وقد نال المعرض استحسان الجمهور. وكان ختام افتتاحات ذلك اليوم بمعرض فني لمختارات الفنانة التشكيلية الإماراتية نجاة مكي، وقد أعد هذا المعرض في ضوء اختيار فيلم المسابقة الرسمية الممثل لدولة الإمارات “أحمر أزرق أصفر” إخراج نجوم الغانم، والذي تناولت فيه حياة وأعمال الفنانة نجاة مكي، وقد افتتح المعرض رئيس المهرجان بصحبة الفنانة نجاة مكي.
مؤتمرا المكرمين
وقد اختتمت فعاليات اليوم الأول بعقد مؤتمرين صحفيين متتاليين لضيفي المهرجان المكرمين بمنحهما الهرم الذهبي التذكاري، جائرة نجيب محفوظ عن مجمل الأعمال، الأول للمخرج الألماني المخضرم فولكر شولندورف تحدث فيه إلى الجمهور وأجاب على أسئلته عن فيلمه الأخير، “دبلوماسية” المعروض بالمهرجان، وكذلك مسيرته الفنية وعمله بأمريكا ثم عودته لألمانيا، بالإضافة إلى رؤيته المعاصرة للسينما بصفة عامة والأفلام والمخرجين والإنتاج بصفة خاصة وكيف أن التمويل، بخلاف المتعارف عليه، ليس بمشكلة كبيرة مقارنة بالتوزيع وأيضًا التطور التكنولوجي الذي يخشى ذات يوم أن يقضي على دور العرض، وقد اعترف الرجل بكل صراحة ووضوح أنه يجهل تمامًا السينما المصرية والعربية رغم اضطلاعه على بعض أعمال نجيب محفوظ، لكنه يعرف جيدًا قدر مصر وحضارتها، وأن تلك هي ثالث زيارة له لمصر بعدما صور بها في الستنيات أحد أهم أفلامه الوثائقية “المتوسط” والثانية التي كانت مع الصديق والأديب الألماني النوبيلي جونتر جراس لعرض فيلمهما “الطبل الصفيح”. المؤتمر الثاني، وكان للسيناريست والسينمائي المغربي نور الدين الصايل، تحدث فيه عن تجربته العملية في مجال السينما بداية بكتابته للسيناريو وممارسته النقد السينمائي ثم عمله بالتليفزيون المغربي وأخيرًا تجربته الممتدة في المركز السينمائي المغربي وإنتاج الأفلام وكذلك تأسيسه وترأسه لنوادي السينما. وقد أعرب الصايل عن امتنانه العميق وشكره الحار لهذا التكريم الذي يجيء من القاهرة تحديدًا تتويجًا لمساره المهني الطويل.
العروض السينمائية
في اليوم التالي للافتتاح، بدأت عروض الأقسام المتنوعة للمهرجان منذ العاشرة صباحًا: المسابقة الدولية (عرضان يوميًا الأول في تمام الثانية عشر والثاني في تمام السادسة)، ومهرجان المهرجانات والعروض الخاصة وآفاق السينما العربية وأفلام عن السينما ومسابقة الغد الدولية وأسبوع النقاد وكلاسيكيات الأفلام الطويلة وأسبوع السينما اليونانية وأربعمئة وخمسين عامًا على مولد شكسبير، بالإضافة لعرض فيلم الافتتاح الرسمي “القطع” للمخرج الألماني التركي فاتح أكين، والذي تأجل عرضه في نفس يوم الافتتاح نظرًا لانشغال دار الأوبرا المصرية، مقر انعقاد جميع فعاليات المهرجان، بختام مهرجان فني وموسيقي آخر.
أفلام المسابقة الرسمية
أول فيلم عرض بالمسابقة الرسمية كان تسجيليًا بعنوان “عبر عدسات سوداء: الفوتوغرافيون السود ونشأة شعب”، للمخرج الأفرو أمريكي توماس آلان هاريس. وهو من الأفلام التسجيلية الرائعة التي اتخذت الصورة الفوتوغرافية والمصورين الفوتوغرافيين الزنوج تحديدًا، منذ بداية التصوير الفوتوغرافي ومراحله المختلفة، محورًا لها لرصد عبر مجموعة متميزة ومنتقاة من الألبومات العائلية، وبخاصة عائلة المخرج، لإلقاء الضوء على ذلك التاريخ المسكوت عنه والحافل بالتشوهات والاضطهاد والعبودية لأناس كانوا على هامش ذاك المجتمع قبل أن يصيروا اليوم في القلب منه. كل ذلك عبر سرد بصري مشوق ورائع ترك نفسه ليسير متتبعًا الإيقاع الخاص الذي فرضته الصور الفوتوغرافية ذاتها.
أما فيلم المسابقة الآخر الذي عرض مساء، فكان بعنوان “عيون الحرامية”، وهو الفيلم الروائي الثاني للمخرج الفلسطينية نجوى نجار، وبطولة النجم المصري خالد أبو النجا والمغنية الجزائرية الشهيرة سعاد ماسي. وقد شهد الفيلم إقبالا كبيرًا وترحيبًا حميمًا فاق توقعات مخرجة العرض وأبطاله ثم حظي بعد الختام بما هو أكثر من ذلك. في حين أن الفيلم جاء على نحو غاية في التواضع وللأسف لم يكن صالحًا بالمرة، من وجهة نظرنا، للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان عريق كالقاهرة، فثمة مشاكل بالسيناريو والكثير من الكلاشيهات البالية التي ينضح بها حوار الفيلم ومشاهده ومواقفه، وحركة كاميرا مهتزة لأكثر من نصف الفيلم دونما سبب سوى عدم سيطرة المخرجة على أدواتها والتي كان من بينها أيضًا أداء خالد أبو النجا، رغم تجاوزه كثيرًا لعثراته السابقة وقطعه شوطًا في مسار تقدمه الأدائي مستقبلا إن ثابر، وعدم نجاحه في إقناعنا بالشخصية ولا إجادته اللهجة التي كانت تفلت منه أحيانًا، أما المغنية المحبوبة موسيقيًا سعاد ماسي فقد جاء أول وقوف لها أمام الكاميرا مخيبًا للآمال من كافة النواحي ولن نزيد. والأرجح أن اختيار الفيلم مرده بالأساس لاسم دولة فلسطين وخالد أبو النجا وسعاد ماسي والثقة في استقبال الجمهور العادي له، وقد كان.
وفي ثاني أيام عروض المسابقة الرسمية، عرض الفيلم التسجيلي الفرنسي “لقد جئنا كأصدقاء” للمخرج هيوبرت سوبر. قد تدفعك فكرة الفيلم الرئيسية للرجوع بالذاكرة واستدعاء تلك المغامرات المجنونة الجميلة التي قام فيرنر هيرتزوج وأسفرت دون شك عن روائع تسجيلية له لا تنسى. وانطلاقًا من فكرة مجنونة أيضًا ينطلق المخرج بطائرة صنعها يدويًا على مدار عامين بفرنسا، ليهبط بها إلى الأراضي السودانية قبيل التقسيم، ويجوب بها أقاليم الشمال والجنوب ليلتقي ويحاور أهلها البسطاء وزعماء القبائل والسياسيين والقادة العسكريين وغيرهم، مولدًا لديك انطباعًا بأن ما حدث كان انتصارًا لأهل الجنوب الذين تحرروا من العرب المستعمرين لهم والناهبين لثرواتهم، في حين أن الأوضاع على الأرض قبل وبعد الانفصال لم تتغير بل انقلبت للعكس وجاء بدل المستعمر الواحد أكثر من مستعمر: الدولة بفسادها من ناحية والشركات المنقبة والباحثة عن البترول والمعادن وغيرها والتي باتت تسرقها بالفعل بكافة الحيل الممكنة مقابل أثمان بخسة ولعقود طويلة. والفيلم جيد دون شك، رغم طوله (110ق) ورغبته في الإلمام بكل شيء، ويستحق المشاركة خاصة في ظل المناخ المهدد لأكثر من دولة من دول المنطقة بنفس المصير، كمان أنه يستحق كتابة تفصيلية لاحقة.
وبعد ترقب طوال اليوم والاحتشاد أمام الأبواب والاصطفاف طويلا والتدافع من أجل الدخول لمشاهدة الفيلم المصري المشارك في المسابقة الرسمية، عرض فيلم “باب الخروج” وهو الفيلم الروائي الأول للمخرج كريم حنفي، بطولة النجمة سلوى خطاب وأحمد مجدي وآمال عبد الوهاب وشمس لبيب. بداية يحسب للمخرج جرأته في الإقدام على صنع فيلم للجمهور في مصر والعالم العربي لا يتجاوز زمنه الساعة إلا بدقائق قليلة، وليس ثمة جملة حوارية فيه للأبطال، فقط صوت التعليق الخارجي للبطل ناطقًا بعبارات بسيطة لمرتين أو ثلاثة، كذلك ليست هناك حبكة بالمعنى المتعارف عليه، والقصة والعلاقة بين الشخصيات تروى كلها عبر الصورة وأحجام وزوايا اللقطات والإضاءة والتفاعل الذهني للجمهور لاستقبال تلك الشحنة العاطفية التي أراد المخرج إيصالها للجمهور، وهي تيمات الحزن والموت والفراق والوحدة والألم، الأمر الذي تطلب جهدًا مضاعفًا من جانب الممثلين لنقله على النحو المراد. وقد وفق كريم إلى حد كبير في اختيار أماكن التصوير والتعامل معها بنظرة مغايرة وغير مسبوقة وكذلك الأمر بالنسبة للإضاءة الرائعة ودورها في كل مشهد. أما المفردات المكونة لكل لقطة ومشهد وتسلسل على حدة، فقد افتقدت إلى الجدة والابتكار إلى حد كبير، وسقطت في فخ الحنين والولع بالماضي وكل ما ينتمي إليه كحال مصر والمصريين والعرب عامة، وكأن الحزن والفراق والموت وغيرها لا بد أن ترتبط دومًا بالماضي والماضي بالضرورة يستلزم الاستماع للأغنيات القديمة عبر المذايع القديم وصنع القهوة على “السبرتاية” والملابس والأحذية المخزنة بالسحارة والصور القديمة وقصر الشعر وغيرها. وبالرغم من الكلام الكثير عن أن الفيلم تجريبي وصعب ومختلف وووإلخ إلا إن المتخصصين وأصحاب الذاكرة القوية منهم سيستدعون على الفور الكثير المماثل لمشاهد الفيلم من ذاكرتهم السينمائية.