محمد هاشم عبد السلام
السبت 20 ديسمبر 2014
لا تزال السينما الإيرانية تذهلنا بالمستوى الفني والسينمائي الذي تقدمه لنا على امتداد أجيال من المخرجين، لاسيما من الشباب. وبالرغم من تأثر فيلم “ميلبورن” للمخرج المتميز “نيما جافيد” إلى حد ما بفيلم “انفصال” للمخرج الإيراني أصغر فرهادي الذي فاز عنه بجائز الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2012، إلا إن هذا لا ينفي إطلاقًا عن “ميلبورن” (Mellbourne) إنه فيلم شديد القوة والتماسك.
وربما ما أسهم في استدعاء هذا التشابه بين الفيلمين، أن دوري البطولة بهما من أداء الممثل الإيراني المتألق “بيمان موعدي”، في دور الزوج الذي هو بصدد تغيير مصيره العلمي والحياتي إلى غير رجعة، من خلال إقدامه على الانتقال إلى خارج البلاد، لكنه في “انفصال” يرفض فكرة السفر وينفصل عن زوجته ووالدة طفله في النهاية. لكن مشكلة بطلنا “مُراد” في فيلم “ميلبورن” مغايرة بعض الشيء، فهو وزوجته اتخذا بالفعل قرار السفر لاستكمال الدراسة بميلبورن في استراليا، وقد أعدا العدة ولم يتبق لهما سوى سويعات قبيل الذهاب إلى المطار، لكننا نظل حتى آخر لحظة بالفيلم، الذي يبلغ زمنه ساعة والنصف الساعة تقريباً، لا ندري هل سيفلح الزوج، “مُراد” و”سارة”، حقًا في الذهاب معاً إلى المطار وتحقيق حلمهما بالسفر أو الهجرة النهائية أو حتى الهرب أم سيخفق؟ ولو كنت كمتفرج مكانهما وتصادف أن كان تصرفك ورد فعلك على هذا النحو فهل كنت ستسلك نفس السلوك الذي انتهجه هذا الزوج من أجل الفرار والخروج من تلك الورطة؟
ولإحكام الخناق علينا وجعلنا نتوحد فعلا وأزمة بطلي الفيلم، يحصرنا المخرج وكاتب السيناريو “نيما جافيد” على امتداد الفيلم داخل شقة الزوج دون أن نبرحها قط ولا نرى الخارج إلا عبر النوافذ أو الشرفة، باستثناء لحظة في بداية ونهاية الفيلم لفتاة تقوم بإجراء التعداد الإحصائي للسكان، ونعرف من خلالها أنهما بصدد السفر للدراسة لثلاث أو أربع سنوات، بل وحتى مع ختام الفيلم، عندما استقلا السيارة الأجرة، ظلت اللقطة الطويلة المقربة لوجهيهما ساكنة لفترة زمنية ممتدة نسبياً داخل السيارة الضيقة، ولم تنته اللقطة إلا مع انهمار الدموع من عيني الزوج “مراد”، في لقطة تنبأ بالمصير الحصاري المُحزن والكئيب الذي قد يشملهما، وربما بتبعات تلك الأزمة الطارئة والشديدة العمق على مستقبلهما الأسري معًا، حتى وهما على أعتاب الفرار والتحرر الأبدي إلى خارج إيران صوب ميلبورن.
وبطبيعة الحال، بالإمكان تأويل أو تفسير الفيلم وسلوك بطليه وبخاصة “مُراد” على أنه عدم تحمل للمسئولية، أو القدرة على المواجهة والمجابهة وتقدير خطورة الموقف أو الوضع، لا سيما وأن ثمة رضيعة قد توفيت قبل لحظات بشقتيهما. من المؤكد، أن الأمر قد يُفسّر للوهلة الأولى على هذا النحو الذي يمثل إدانة وتجريم دون أي رحمة أو غفران، لكن هذا الرأي يغفل حقيقة أننا كبشر، ومهما كانت قدراتنا الذهنية خارقة ومهما بلغت درجة ثقافتنا ووعينا ومقدرتنا غير العادية على سرعة التصرف وردود الفعل إزاء المواقف الحرجة، قد تأتي علينا لحظة ضعف أو نمر باضطراب آني يشوش علينا تفكيرنا أو يجعلنا نخطئ التقدير ومن ثم التصرف، وما قد يترتب على هذا التصرف وما يلحقه من تبعات. وفي نفس الوقت، قد تخطئ حساباتنا تماماً، التي على ضوئها اتخذنا قراراتنا، وهو ما يسمى بسوء التقدير للموقف. وهذا ما حدث بالفعل من جانب “مراد” بالأساس الذي كان أول من اكتشف وفاة الرضيعة ابنة الجيران التي تركتها المُريبة عندهم.
وبناء على ما سبق، والتحليل المبني على ما طرحه المخرج في فيلمه، فإننا وإلى حد كبير لسنا بصدد التعامل مع “ميلبورن” كغيره من الأفلام الإيرانية التي يغلب عليها تناول ما هو اجتماعي أو حتى نفسي، وإنما كفيلم يدور في زمن حقيقي تقريبًا أراد المخرج من خلاله أن يطرح علينا مشكلة أخلاقية قبل كل شيء، قد يواجهها أفراد ينتمون لأي فئة عُمرية أو مجتمعية بأي زمان أو مكان. أما الاستفاضة في مناقشة مدى منطقية وواقعية تفاصيل الحادث، وكيف سمحا وهما على وشك الرحيل بوجود رضيعة بالمنزل أو كيف تترك مربية رضيعة ترعاها بمنزل جيران غرباء على وشك الرحيل في أية لحظة، أو محدودية مكان التصوير ومن ثم الشخصيات وكيفية التناول الإخراجي لكل هذا سينمائيًا وفنيًا، فسوف يُفسد بالقطع على المتفرج متعة الاستغراق في مشاهدة هذا الفيلم البديع والغوص في تفاصيله ومشاركة البطلين محنتهما وكيفية الخروج منها.
ينهمك الزوج “أمير” وزوجته الحبيبة الجميلة “سارة” (نِجار جواهريان) على نحو محموم في تجهيز حقائبهما، وبسعادة بالغة يردان على الاتصالات الهاتفية ويودعان الأهل والأحباب ويتواصلان عبر الاسكايب مع قريب لهما باستراليا يحدثهما عن فرص العمل المتاحة وسبل العيش التي تنتظرهما بمجرد وصولهما، ومن ثم إفراغ الشقة لكل ما بها انتظارًا للمشتري، الذي سأتي لحمل ما تبقى بها من أثاث. كل تلك التفاصيل الدقيقة وما هو أكثر يجعلنا ندرك أن الزوج قد قررا الهجرة بالفعل، بل ويستحثان شقيقة أمير على اللحاق بهما، والتي تُصر على التقاط صورة فوتوغرافية تجمعهم معًا قبل أن تتركهما وتنصرف. وفي خضم كل تلك الجلبة، يطلب الزوج بين الحين أحدهما من الآخر أو من المتواجدين بالشقة ضرورة خفض الصوت حتى لا تستيقظ الرضيعة النائمة بحجرتهما.
كانت جليسة الأطفال الشابة قد تركت الرضيعة “تينا” مع “سارة” كي تذهب سريعًا لقضاء بعض الحاجات، وقتذاك، كانت الرضيعة نائمة، وظلت كذلك وظننا نحن أيضًا الشيء نفسه، بل ولم نلتفت إلى أنها ستكون المربط الذي يتمحور حوله الفيلم برمته منذ تلك اللحظة التي يدخل فيها مُراد للحجرة لإحضار بعض الأغراض ويضطر لفتح النافذة لنفض الغبار، الأمر الذي يؤدي لهبوب تيار هواء شديد يدفع باب الحجرة للانغلاق ويكسر لوحًا زجاجيًا به. عندئذ، يلتفت مراد للرضيعة “تينا” التي لم تستيقظ، فيحاول هزها برفق ليوقظها لكنها لا تستيقظ، فيمسك بالهاتف طالبًا سيارة الإسعاف، وتنتبه سارة للأمر، ولفرط غرابة الموقف وذعرها تتهمه بقتل الطفلة، ثم يفكران في المريبة وأنها ربما تكون هي السبب وأنها على علم بمقتل الطفلة، ومن هنا يجيء ترددهما عن السماح للمسعفين بالصعود، ولاحقًا عن إبلاغ الشرطة بالأمر، لكن يتضح لهما لاحقًا أن المربية لا دخل لها.
ومع دخول عامل آخر جديد في الأمر يتمثل في والد الرضيعة الشديد العصبية والمنفصل حديثًا عن زوجته والذي جاء دون وجه حق لأخذ الرضيعة، يتبين للمراد وسارة طبيعة العلاقة، ويخشيان أكثر من بطش الزوج وتعقد الأمر أكثر والاتهام الذي سوف يطالهما من قبل الزوج المنفصلين ومن جانب الشرطة، لكن الأمر سرعان ما يُحل مع إلقاء القبض على الطليق الذي أبلغت عنه زوجته.
وبعدما تهدأ الأمور نسبياً، يتذكر مراد الصورة التي التقطت لهما مع شقيقته، وتبين من خلالها أن الرضيعة كانت في وضعية مغايرة لتلك التي وجدها عليها، الأمر الذي يعني أنها بالفعل لم تكن ميتة عندما تسلمتها زوجته سارة وأنها توفيت بشقتيهما وأنهما ضالعان في تلك الوفاة، لا سيما بعدما يبحث مراد على الإنترنت عن الأسباب التي قد تؤدي لوفاة رضيعة، فيعرف أن الإفراط الشديد في التدخين من بين أهم الأسباب، إلى جانب الوضعية الخاطئة لنوم الرضيع، مما يعني أن الأسباب التي أدت لوقوع الوفاة يتحملها أمير وسارة معًا وبنفس القدر، وأنهما من دون شك السبب الأساسي في وفاة الرضيعة. وقد أفلح الممثلان في أن ينقلا لنا مراحل التوتر والذعر وغيرها التي مرا بها طيلة تلك الأحداث. وحيرتهما للخروج من تلك الورطة التي ألمت بهما في مثل هذا التوقيت العصيب؟ وتلك من أكثر نقاط الفيلم قوة، إنك لا تعرف، حتى كمتفرج تعايش هذا الموقف على الشاشة، كيف ستتصرف معه لو حدث في الحياة العادية؟
في بعض الأحيان قد لا يكون القرار الصائب صحيح أخلاقياً، وفي أحيان أخرى التصرف الأخلاقي السليم قد يستوجب عدم التصرف على نحو صحيح. إذن، هل تواجه المشكلة وتتحمل المسئولية وتحاول حلها على النحو الصحيح وتَحَمُّل تبعاتها أياً كانت، أم تتركها وتمضي لتعيش حياتك دون أن تلوي على أي شيء؟ ربما اسقطت بعض النقاد قضية الفيلم على إيران والمجتمع الإيراني، في حين نرى أن الرسالة الواضحة التي يوجهها الفيلم ويطرحها علينا جمعيًا ويضعنا إزاءها دون لبس هي، هل نتنصّل من مسئولياتنا أم لا؟ أيًا كانت تلك المسئوليات التي نتهرب منها، صغيرة كانت أم كبيرة، على المستوى الفردي الشخصي أو الكوني الإنساني؟
وتلك برأينا هي مهمة أي فيلم، بعيدًا عن الاستمتاع الفني والجمالي والبصري المحض الذي تمنحك أياه بعض الأفلام، أن يجعلك تفكر وتتأمل، ثم تتساءل ولو لدقائق قليلة، ليس تحديدًا فيما تطرحه عليك حبكة السيناريو، وإنما بالمعنى العريض لكلمة تساؤل، وربما أيضًا ينسحب تساؤلك هذا على حياتك الخاصة أو الواقع بصفة عامة.
ولد المخرج “نيما جافيدى” عام 1980. درس الهندسة الميكانيكية وبدأ في صناعة الأفلام منذ عام 1999، وقد صنع ستة أفلام روائية قصيرة وفيلمين تسجيليين. و”ميلبورن” هو فيلمه الروائي الطويل الأول، وقد عُرض لأول مرة في افتتاح “أسبوع النقاد” بمهرجان “فينسيا” 2014. وحاز الفيلم على الجائزة الكبرى “الهرم الذهبي” بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي لنفس العام.