برلين – محمد هاشم عبد السلام

تنوعت الأفلام العربية المشاركة في الدورة الماسية من “مهرجان برلين السينمائي الدولي” (البرليناله)، بين الروائي الطويل والقصير والوثائقي، بواقع 8 أفلام؛ منها 4 أفلام روائية طويلة، وروائي قصير واحد، و3 أفلام وثائقية، من سوريا ومصر والسودان والعراق وفلسطين وتونس. وذلك في النسخة الـ75 التي امتدت فعالياتها ما بين 13 إلى 23 فبراير/ شباط 2025، وكان المهرجان هو أول المهرجانات السينمائية الأوروبية الكبرى انعقادًا هذا العام.

“يونان”.. العربي الوحيد في المُسابقة

لم ينافس في “المسابقة الرئيسية” من المهرجان سوى الفيلم السوري “يونان”، وقد أخرجه الموهوب أمير فخر الدين، الذي وُلد عام 1991 في العاصمة الأوكرانية كييف. فيلم “يونان” فيلم تأملي حول الهجرة والمنفى والانتماء، وهو ثاني روائي طويل لمخرجه، ويأتي ضمن ثلاثية بعنوان “الوطن”، كان أولها قد أنجز تحت عنوان “الغريب” (2021)، وسوف تختتم بفيلم ثالث يحمل عنوان “الحنين”.

في فيلم “الغريب” قدم المخرج شخصية غريبة عمن حولها، تعاني أزمة أحبطتها، وتركتها حطاما، وجعلتها غير مرغوبة لدى أسرتها ومحيطها الضيق ومجتمعها. ثمة رغبة حارقة في مبارحة المكان، والهجرة بعيدا عن مرتفعات الجولان المحتل إلى باريس أو برلين. نجد أنفسنا في “يونان” إزاء شخصية كاتب أو أديب يحمل اسم منير، يعيش في المنفى بمدينة هامبورج الألمانية، وقد أدى دوره باحترافية وإقناع الممثل اللبناني جورج خباز.

ينقل المخرج في فيلم “الغريب” شعورا بالعجز والخواء لدى رجل لا يزال يكابد مأساة وطن، ومع ذلك، لا يستطيع فعل شيء له ولا لنفسه وأسرته. وتلك استعارة شعرية كئيبة للغربة، التي يشعر بها أي إنسان في المستويات كلها، عندما يعيش في الأسر.

ونجد أن شخصية منير التي يقدمها في فيلمه الجديد لا تختلف كثيرا عن تلك الشخصية في فيلم “الغريب”، بل هي امتداد لها. يعاني منير من أزمة ضيق في التنفس، لأسباب ليست مرضية بل نفسية بالأساس، مما يدفع طبيبه لنصحه بالابتعاد عن محيطه بعض الوقت، والانعزال عن حياة المدينة، التماسا لقدر من الهدوء والسكينة.

يشرع منير في رحلته تلك، بعد مكالمة موجزة مع أخته ووالدته المصابة بالخرف، فيتوجه للانعزال بإحدى الجزر الألمانية النائية، التماسا للوحدة والعزلة والتأمل، لكن شعور الغربة والحنين يسيطران عليه، وحين يعجز عن إنهاء حياته، يجد العزاء في وجود الشخصية الحكيمة الهادئة “فاليسكا” (الممثلة هانا شيغولا) التي أعادت له إرادته المتلاشية في الحياة، بطريقة غير مباشرة.

لقطة لفريق عمل فيلم “يونان”.

مع توالي مشاهد “الغريب” و”يونان”، يصعب على المشاهد المتمرس تجنب ذلك الانطباع المتكرر، بكونهما يحملان بصمات بصرية من أفلام عدة في تاريخ السينما، في موضوعهما وطريقة معالجتهما.

تحضر بقوة آثار مخرجين؛ منهم اليوناني “ثيو أنجلوبولس”، والروسي “أندريه تاركوفسكي”، والمجري “بيلا تار” وغيرهم، فنراهم بصريا ودراميا في الفيلمين، لا سيما هيئة “ألكسندر” بطل الفيلم الشهير “الأبدية ويوم” (Eternity and a Day) للمخرج “ثيو أنجلوبولوس”، فنرى تشابهه مع بطلنا في لحيته ومعطفه وكلبه، وفي مشكلته الوجودية والصحية، ومفارقته للحياة.

مع هذا، وبعيدا عن كون خاتمة الفيلمين مزعجة جدا، وغير موفقة بتاتا من حيث المباشرة، وخشية المخرج من أن تكون رسالته ورؤيته لم تصلا بالشكل الواضح والمرغوب، استطاع المخرج أمير فخر الدين في جديده “يونان” أن يجد صوته ورؤيته البصرية المميزة للغاية واللافتة للانتباه بقوة، مقارنه بفيلمه “الغريب” الأول في الثلاثية. سيما وقد ضفر هذه الرؤية مع خيوط حبكة تثري عالم شخصية منير بحكاية تتماس مع الأسطورة أو الأمثولة، التي تنطوي على إسقاطات وجودية ودينية أيضا (ربما من هنا جاء عنوان الفيلم الذي يحيل للنبي يونان أو يونس)، تخدم الحبكة الرئيسية وبقوة، بلا مباشرة ولا فجاجة. وعبر انتقال مونتاجي وزمني وبصري سلس، ربط بمهارة بين الواقع المعاصر والزمن غير المحدد للحكاية أو الأسطورة.

بعد فيلم روائي ثان طويل، يثبت أمير فخر الدين باقتدار أنه من المخرجين العرب القلائل الذين لهم صوت ذاتي متفرد، ينشغل بقضايا إنسانية حقيقية، بلا افتعال ولا ادعاء، وأنه صاحب رؤية بصرية وتأملية، وحسن فني مرهف، وكلها مفردات ومقومات سينما فنية رفيعة، تخاطب العقل والوجدان، يندر وجودها في السينما العربية المعاصرة.

“المُستعمرة”.. مُحاولة لتقديم الجديد في قصة مُتكررة

دُشن في دورة هذا العام قسم جديد تحت عنوان “وجهات نظر”، وهو مخصص لتنافس الأعمال الروائية الأولى للمخرجين الشباب، وقد عُرض في هذا القسم فيلم “المستعمرة”، أول روائي طويل للمصري محمد رشاد. نال الفيلم تمويلا من “صندوق برلين السينمائي العالمي” عام 2022، وغيرها من المؤسسات الألمانية، ومن “مؤسسة الدوحة”، وصندوق “البحر الأحمر”، وصندوق “سيني الجونة”، وقد صُور في مواقع محصورة تقريبا بمنطقة المستعمرة العمالية، الواقعة على أطراف مدينة الإسكندرية، وتلك محاولة للوفاء قدر الاستطاعة لأحداث القصة المستوحاة من واقع تلك المنطقة.

اختار المخرج ممثلين غير معروفين، وأشرك عمالا حقيقيين في أدوار ثانوية، وفي سبيل إثراء العمل فنيا نقل الأجواء الصناعية البائسة بأحد المصانع القديمة، المنتجة لمسبوكات شتى بآلات عتيقة للغاية، لا يظنها المرء قادرة على العمل، ناهيك عن إنتاج أي شيء.

لقطة من فيلم “المستعمرة”.

تدور الأحداث حول الأخوين حسام (الممثل أدهم شكري) وأخيه الصبي مارو (الممثل زياد إسلام)، وهما يعيشان في مجتمع مهمش بالإسكندرية، وقد عُرض عليهما العمل في مصنع محلي، بعد وفاة والدهما في حادث بنفس المصنع، وذلك نوع من التعويض، بدلا من رفع دعوى قضائية والمطالبة بحقوقهم. وبينما يتوليان عملهما الجديد، تتكشف الخيوط تدريجيا، فنرى أن حسام خضع للأمر نظرا لسجله الإجرامي وعدم إنهاء تعليمه، فصارت فرصة مناسبة لبداية حياة جديدة ونظيفة، بعيدا عن حياته السابقة الموصومة بكل الموبقات.

لكن مع الوقت تبدأ المعوقات تظهر، ويحاول حسام وأخوه التغلب عليها، وتسيير أمور حياتهما البائسة، وتكون الأقدار بالمرصاد، وتأبى الحياة الابتسام لهما، ولوالدتهما المريضة، القلقة بخصوص حياة ولديها ومستقبلهما.

الموضوع ليس جديدًا تمامًا، حتى ضمن سياق السينما العربية والمصرية، لكن المخرج حاول ببعض التفاصيل والفنيات والتناول الواقعي والاستناد لأحداث حقيقية، أن يقدم الجديد برؤية خاصة جدا. لكن هذه الرؤية -مع صدق التجربة وجديتها ومحاولة الابتعاد عن التسطيح والتجارية- قد تملكته وفرضت نفسها، وجعلته يغفل عن أن تقديمها يتطلب الالتفات لكثير من التفاصيل الصغيرة والدقيقة، التي تسهم بلا شك في الوصول للرؤية الفنية المرادة.

كان من الضروري مثلا الاشتغال أكثر على خيوط السيناريو، وكثير من الجمل الحوارية والمفردات، والسرد الواقعي للأحداث وتفاصيلها، وضبط الإيقاع إجمالا، ليتلاءم الواقع المراد إقناعنا به. وأهم من ذلك ضرورة استيعاب أن الأداء الاحترافي المتقن والمقنع من بدهيات السينما، حتى وإن استُعين بممثلين غير محترفين.

“يلا باركور”.. فيلم من غزة قبل الحرب

يعد قسم “البانوراما” أقدم أقسام المهرجان بعد “المسابقة الرئيسية”، وينعقد منذ 55 عاما، وهو الأكبر من حيث عدد الأفلام، وقد شارك فيه 39 فيلما هذا العام من شتى الأنواع، وتمنح جوائزه بناء على تصويت حر من الجمهور على الأفلام المعروضة. عرض وثائقي “يلا باركور” للفلسطينية عَريب زعيتر في قسم “البانوراما”، وقد مُنح “الجائزة الثانية” لأفضل فيلم وثائقي معروض في هذا القسم. في “يلا باركور” ترصد المخرجة مجتمع شباب الباركور، الممارسين لهذه الرياضة الجريئة والخطيرة جدا في غزة.

وهو يذكرنا بقوة -نظرا لتقاطع الخيوط وتشابهها- بالفيلم الفلسطيني “نادي غزة لركوب الأمواج” (2016)، وتدور أحداثه حول حركة سرية لمجموعة متنامية، تمارس رياضة ركوب الأمواج في ميناء لم يعد تستخدمه السفن على شاطئ غزة، والمشاكل والصعوبات المفروضة على هذه الرياضة، ومنع الاحتلال دخول هذه الألواح إلى غزة، ومعاناة بطل الفيلم في استخراج تأشيرة أمريكية والخروج من غزة.

يتكرر الأمر في رياضة أخرى تتسم بالخطورة والمغامرة بالنفس، فنرى ذلك مع بطل فيلم “يلا باركور” الشاب أحمد مطر، وهو ممارس لهذه الرياضة، يصور فيديوهات لنفسه وأصحابه من الممارسين للباركور، منذ أن كان عمره 12 سنة في عام 2011. كما نشاهد معاناته في استخراج التأشيرة الأوروبية 5 سنوات، حتى استطاع بهذه الرياضة نيل دعوة وتأشيرة، ثم الإقامة والجنسية السويدية، بعد 7 سنوات من المعاناة. من هنا، وعلى حد قول بطل الفيلم، تصير هذه الرياضة جواز سفره للخروج من سجن غزة، وذلك قبل أن تندلع الأحداث وتدمر المدينة، بعد آخر زيارة له عام 2023.

تبني عريب زعيتر فيلمها استنادا إلى كم هائل من الفيديوهات الشخصية، التي صورها أحمد مطر على مدى سنوات، في شتى أماكن غزة، بداية من الأطلال والخرائب في المطار والأسوار والمرتفعات والبنايات، وحتى أسوار المقابر، وغيرها من الأماكن المرتفعة التي تتيح لهم القفز من فوقها، أو الوقوف على حوافها رأسا على عقب.

لقطة من فيلم “يلا باركور”.

تدل لقطات كثيرة على خطورة بالغة، لدرجة التهور والتضحية بالنفس، مما يؤدي إلى الإصابة بمنتهى البساطة، وهو ما يحدث للشاب محمد الزقوت، فقد سقط من الطابق الرابع بعدما أخفق في الوصول للطابق الخامس من إحدى البنايات، وقد أدى ذلك لكسور وإصابات فادحة بجسده، وتدهور حالته والاضطرار لنقله لاحقا لإسرائيل للعلاج. لكن من ناحية أخرى، ينم هذا عن طاقة رهيبة لدى هؤلاء الشباب، وجسارة لا تعرف الحدود، وحب مجنون لرياضة خطرة يحبونها، وليست مجرد ممارسة مجانية بدافع الملل أو الطيش أو الاستعراض.

من ناحية أخرى، تبني عريب زعيتر فيلمها على اللقاءات والمكالمات الهاتفية، عبر شتى وسائل التواصل مع أحمد، وكثيرا ما تظهر أثناء هذه اللقاءات، وفي أنحاء شقتها في أمريكا، حيث تعيش وتعمل على تنفيذ الفيلم والتواصل مع أحمد عبر الإنترنت. لا تكتفي المخرجة بهذا الأمر، بل تُدخل في الفيلم خيطا سرديا يخصها شخصيا ويخص عائلتها، وتحديدا والدتها التي نشاهد كثيرا من صورها الفوتوغرافية، ونعرف علاقتها بغزة وعمّان وكثيرا من الذكريات. وأحيانا تتكرر مناجاة المخرجة المباشرة لوالدتها.

ومع الجهد المونتاجي والتنفيذي والتوجيهي المبذول على مدى سنوات، فإن خلط المخرجة للذاتي الخاص والتأملي، وذكرياتها وعائلتها، يبدو مقحما جدا على السياق العام للفيلم، وأبطاله الحقيقيين، فأصبحنا نعرف المخرجة وخلفياتها أكثر من أبطال الفيلم وعوالمهم وأحلامهم وطموحاتهم ومصائرهم.

“الخرطوم”.. خمس قصص من السودان

عرض الفيلم الوثائقي “الخرطوم” في قسم “البانوراما”، وهو من إخراج خمسة مخرجين؛ هم: أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي، وتيمية أحمد، وفيليب كوكس. يتناول الفيلم قصصا لم ترو من قبل، عن 5 شخصيات من الخرطوم، تكشف لنا بتجسيد وسرد مشاهد القتل والتدمير والنزوح عن أهوال الحرب. ويتجاوز الفيلم التوثيق المعتاد ليكون شهادة حية، وعلامة تدين وتلفت الانتباه إلى إحدى أفدح الأزمات الإنسانية في عالمنا المعاصر.

الملصق الرسمي لفيلم “الخرطوم”.

نتعرف في الفيلم على الصبيين “لوكين” و”ويلسون” (11-12 سنة)، وهما يمضيان يومهما في جمع الزجاجات، حالمين بتحقيق أمنيتهما الكبرى في الحياة؛ شراء قميصين جميلين. أما خادمة الله (27 سنة)، فهي شابة من جبال النوبة لديها طفلة تعولها، وتعمل في بيع الشاي في سوق الخرطوم. في المقابل، لدينا مجدي (45 سنة)، وهو موظف حكومي لم يتوقف عن أداء عمله، حتى عندما اندلعت الحرب في أبريل/ نيسان 2023. وآخرهم الشاب جواد، وكان يشارك في المظاهرات، وينقل الجرحى والمصابين بدراجته الهوائية، وقد فر إلى مصر، ونزح الباقون إلى نيروبي في كينيا.

يوثق الفيلم المؤثر والصادق الحياة النابضة التي لهذه الشخصيات، ولأن أحداث العنف اندلعت أثناء عملية التصوير، فقد تغير مجرى الأمور الإنتاجية تماما، واضطر فريق الإخراج لتغيير وجهة الفيلم وأسلوبه وتنفيذه. ومع أن فريق الفيلم استعان ببعض مقاطع المظاهرات والاشتباكات، وضمّنها في سياق الفيلم، فقد لجأ إلى الاستعاضة عن التصوير الحقيقي بتمثيل الأحداث أمام الكاميرا داخل أحد الأستوديوهات، وذلك لملء الفراغات التي أحدثتها الحرب والنزوح واستحالة التصوير. كما اضطر لاستخدام الغرافيك وغيرها من تقنيات الحاسوب والتلوين، لتنفيذ بعض اللقطات والخلفيات الخاصة بالمشاهد والأحداث.

“آخر يوم”.. قصة عابرة للحدود العربية

شارك وثائقي “آخر يوم” في قسم “امتداد المنتدى”، وهو من سيناريو المصري محمود إبراهيم وإخراجه وإنتاجه وتصويره. ببساطة، وخلال 5 دقائق فحسب، استطاع المخرج تقديم رؤيته، بلا افتعال ولا حذلقة.

تدور أحداث الفيلم في عام 2023، ويصور انتقال الأخوين زياد ومودي من منزل عائلتهما المقرر هدمه، واليوم آخر يوم لهما فيه، فيقومان بفك الأثاث ونقله. في الوقت نفسه، نسمع بعمليات هدم أخرى جرت أو ستجرى لبنايات عدة، وأن تعويضات سوف تصرف لعائلات يقدر عددها بالآلاف، وهنا تبرز أهمية شريط الصوت المفسر للفيلم، وقد أفلح المخرج في توظيفه بذكاء شديد.

لقطة من فيلم “آخر يوم”.

وانطلاقا من الإحالة إلى الواقع الداخلي المصري، وأيضا الشخصي أو الذاتي، يحيل المخرج إلى ما هو عربي وفلسطيني بالتحديد، فنسمع ونرى -في ذات السياق- محاولات إخلاء منازل وهدمها في حي الشيخ جراح الشهير، في البلدة القديمة بالقدس الشرقية.

“البساتين”.. قصة مأساوية لحي دمشقي

ضمن برامج العروض في قسم “امتداد المنتدى”، عُرض فيلم “البساتين” للمخرج الفرنسي “أنطوان شابون”، وخلال 23 دقيقة، تناول المخرج قصة حي “بساتين الرازي” في العاصمة دمشق، عبر شباب سوريين لا نرى وجوههم على امتداد الفيلم، بل نسمع أصواتهم فقط.

لقطة من فيلم “البساتين”.

يبين الفيلم مدى الدمار الذي أصاب المنطقة، وكانت غنية بأنواع البساتين، وذلك بعد اندلاع الثورة وتجريف قوات النظام للمنطقة، لمنع اختباء الثوار بين كرماتها وبساتينها. والآن، ثمة خطة تهدف لاتخاذ المنطقة حيا راقيا مليئا بناطحات السحاب والأسواق والمطاعم، وأحدث المحلات العصرية والشركات العالمية.

وبالجمع بين رصد هدم الماضي وتدميره وطمسه على أرض الواقع، وبين مقتضيات واقع يفرض إعادة بناء وإحلال، وبين محاولة محو الذاكرة والتعتيم على كل ما مضى، يحاول الفيلم التذكير بتضحيات من ماتوا، وأن رائحة الدماء الذكية سوف تظل ساكنة للمكان، مهما ارتفعت البنايات أو انقضى الوقت.

“سيرة أهل الضي”.. رحلة حنجرة نوبية إلى القاهرة

في قسم “جيل 14 بلس”، شارك الروائي الطويل “ضي.. سيرة أهل الضي” للمصري كريم الشناوى، وهو عن قصة المراهق النوبي “ألبينو” (14 عاما)، وهو ذو حنجرة ذهبية، يطمح لتحقيق أمنيته وحلمه بالغناء في العاصمة.

يتلقى “ألبينو” دعوة مفاجئة من برنامج “ذا فويس” للمشاركة فيه أمام نجوم الغناء الكبار، فتقرر أمه وأخته ومعلمة الموسيقى في مدرسته السفر إلى القاهرة لإجراء الاختبارات، لكن الرحلة التي كان يفترض أن تكون سهلة ومفرحة تنقلب إلى مأساة كاملة، بعدما تصادفهم عثرات غير منتظرة، يفلحون في التغلب عليها في النهاية، لكنهم لا يصلون في موعد البرنامج.

الملصق الرسمي لفيلم “ضي.. سيرة أهل الضي”.

ينتمي الفيلم لنوعية أفلام الطريق، وهي قليلة في السينما العربية والمصرية، ويجمع بين الدراما الواقعية والاجتماعي ولمسة كوميدية. ومع أن الأداء جيد، تصاحبه طرافة كثير من حوارات الفيلم ومقاربتها للواقع، فإن المبالغة والزج بأحداث ومواقف غير واقعية أو مفتعلة أو مقحمة أفسد كثيرا من الفيلم، فقد كان يمكن أن يخرج بصورة أفضل كثيرا، بناء على مقوماته الكثيرة الجيدة.

لا يمكن وصف الفيلم بأنه تجاري، ومع ذلك فهو مناسب لجميع الأذواق والأعمار ومستويات التلقي، ولا يبعث على الملل.

“تحتها تجري الأنهار”.. قصة بائسة من جنوب العراق

شارك في قسم “جيل 14 بلس”، فيلم روائي قصير، ذكي جدا ومؤثر وصادق، بعنوان “تحتها تجري الأنهار”، وهو للمخرج العراقي علي يحيى وبطولة إبراهيم حليم. وقد حصل على “تنويه خاص” من لجنة تحكيم القسم.

ملصق فيلم “تحتها تجري الأنهار”.

فعلى مدى 16 دقيقة تقريبًا، تأخذنا حبكة الفيلم إلى عالم ومجتمع بائسين، يلوح فقدان المنزل في الأفق مثل ظل مؤلم على بطل القصة، ويظهر لنا خوف الخسارة والشعور بالركود بلا كلمات. تدور الأحداث الصامتة، والمعتمدة على الصورة والمونتاج، حول الشاب إبراهيم حليم الذي يعيش مع جاموسته في الأهوار جنوبي العراق، وتتوالى الأحداث المُنذرة بما هو مشؤوم.

“رؤوس مُحترقة”.. حكاية مُفجعة

عرض في قسم “جيل 14 بلس” فيلم “رؤوس محترقة”، وهو من إخراج التونسية البلجيكية ماية عجمية زلامة، وحصل على “تنويه خاص” من لجنة التحكيم.

الفيلم محبوك فنيا ومؤثر عاطفيا، وهو العمل أول روائي طويل لمخرجته، ويقدم لمحة نادرة عن عالم من التضامن والحب، من خلال عيون صبية صغيرة متعلقة بأخيها الذي تحبه، لكنها تفاجأ بموت أخيها الأكبر الحبيب يونس.

ملصق فيلم “رؤوس محترقة”.

بكثير من الصدق، تنسج المخرجة تفاصيل حبكة ذات حدث واحد، تتمحور حوله كل التفاصيل، أحداث يغلب عليها الحزن البالغ، دون الوقوع في الميلودراما أو اللعب على المشاعر وابتزازها، للتدليل على كيف يمكن أن تكون الخسارة مفاجئة ومؤلمة ومزلزلة لكيان المرء.

عمل جاد وجريء بعض الشيء، يذكرنا بقوة الوحدة في الأوقات الصعبة.