محمد هاشم عبد السلام
4/8/2015
في أول أفلامه التسجيلية، يلقي المخرج الأمريكي الشاب بيرت ماركوس الضوء على واحدة من أكثر الرياضات التي تحظى بشعبية جارفة في جميع أنحاء العالم رغم عنفها مقارنة ببقية الرياضات، وذلك في فيلمه الذي يحمل عنوان “الأبطال” Champs .
والفيلم الذي يمتد زمن عرضه لساعة ونصف الساعة تقريبًا، يتناول حياة ثلاثة من أهم نجوم لعبة الملاكمة على امتداد تاريخها، وهم مايك تايسون، وإيفاندر هوليفيلد، وبرنارد هوبكنز. ينقسم فيلم الأبطال في بنيته إلى ثلاثة أقسام، يستعرض كل قسم منها حياة كل بطل من الأبطال الثلاثة منذ صباههم وحتى دخولهم إلى عالم تلك اللعبة. ثم ينتقل بنا القسم الثاني لرصد بعض البطولات العالمية التي حققها كل لاعب منهم ولحظات الفرح البالغة مع تحقيق تلك الألقاب، وكذلك لحظات الانكسار والحزن مع خسارة تلك الألقاب، ثم يختتم الجزء الثالث من الفيلم باستعراض بعض المشاكل التي تواجه الممارسين لتلك اللعبة وكذلك المخاطر التي قد يتعرضون لها، وذلك مقارنة بغيرها من اللعبات ككرة القدم أو البيسبول، ومدى توفر عوامل الأمان والسلامة بها.
في البداية، يرصد فيلم الأبطال على نحو متوازي طفولة وشباب هؤلاء النجوم الثلاثة الذين كانوا أبطالا وملوكًا متوجين على عرش الوزن الثقيل والمتوسط في اللعبة، كل منهم في فترة مختلفة من حياته. وذلك عبر مجموعة من الحوارات المطوّلة مع اللاعبين الثلاثة، ومن خلال أحاديث العديد من المدربين والصحفيين وكتاب السيرة والأكاديميين ووكلاء اللاعبين، وأيضًا الممثل دينزيل واشنطن والمخرج والمنتج سبايك لي والممثل مارك ولبيرج وغيرهم. كما تطرق كل ضيف من هؤلاء الضيوف في حديثه إلى انطباعاته أو علاقاته مع النجوم الثلاثة قبل أو أثناء أو حتى بعد توقفهم عن ممارسة الملاكمة.
وقد استعان المخرج في هذا الجزء من الفيلم بالعديد من المقاطع الأرشيفية والصور الفوتوغرافية، وأحيانًا إعادة تمثيل بعد الفترات التي ترجع إلى طفولة كل منهم، إضافة إلى تقنية المونتاج المتوازي بين كل من الأبطال الثلاثة أثناء سردهم لنشأتهم وحتى وصولهم لسن المراهقة. ويتضح من خلال هذا الجزء كيف أنهم قد جاءوا من خلفيات جد متواضعة اجتماعيًا واقتصاديًا وتعليميًا.
فوالدي هوليفيلد لم يكونا متعلمين، وقد فشل هوليفيلد في التعليم، يعيشان وأولادهما في فقر مدقع بأكثر المناطق عشوائية وسط مكبّات النفايات. وأنهم أحيانًا ما كانوا يلجأون لنبش القمامة بحثًا عن طعام يقيم أودهم. أما تايسون فقد كان يعاني من مشاكل جمة مع والدته وشقيقته، من بينها الإدمان الكحولي والجنس والعنف، إضافة لانفصال الأب عن الأسرة. الأمر الذي دفعه للخروج إلى الشوارع والاحتكاك بالكثير من العصابات واضطراره للانضواء تحت إمرتهم وممارسة البطلجة في الشوارع، وإجباره على ممارسة السرقة، مقابل حصوله على بعض الملابس، وذلك قبل أن يتجّه صدفة لممارسة تلك اللعبة. أما هوبكنز فقد اتُّهم مبكرًا، وهو في السابعة عشر من عمره، بالعديد من التهم الجنائية، الأمر الذي أدّى لدخوله السجن خمس سنوات، وهناك كان عليه الدفاع عن نفسه بكل السبل، وقد كان هذا سببًا في توجهه لممارسة تلك الرياضة التي عشقها وتفوق فيها على مستوى جميع سجون أمريكا قبل خروجه من السجن ودخول عالم الاحتراف.
كل تلك الخلفية التي أسس لها المخرج هيأت المشاهد لاحقًا لإدارك تلك النقلة النوعية أو الطفرة إن جاز التعبير التي أفقدت هؤلاء الأبطال اتزانهم. فقد انتقلوا فجأة من الفقر أو من “اللاشيء أو ما هو دون اللاشيء” كما ورد بالفيلم، إلى القمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وتحصلوا بين ليلة وضحاها على مجد وشهرة وثروات بمئات الملايين لم يدركوا كيف يستفيدون منها على الوجه الصحيح والأمثل. وبالتالي كان من الطبيعي أن يؤثر هذا على حياتهم ونفسياتهم ويدفعهم إلى سلوك مسالك منحرفة، فمنهم من لجأ للمخدرات، ومنهم من أدمن الشراب، ومنهم بالطبع من دخل السجن، كمايك تايسون، ومنهم من بدّد عشرات الملايين من ثروته وتعرض للإفلاس أو الديون كهوليفيلد وتايسون.
كذلك تطرق المخرج لمناقشة إلى أي مدى أسهم عالم تلك اللعبة نفسه، لا سيما في أوساط اللاعبين المحترفين، في ممارسة الكثير من الضغوط الشخصية والنفسية والعصبية والمادية على هؤلاء الثلاثة وحياتهم. مع عدم إغفال دور الجهل وانعدام الخبرة وصغر السن في الانحدار السريع الذي وصل إليه هؤلاء الثلاثة مع نهاية مسارهم الرياضي، وكيف أنهم لم يفكروا، كما يقول هوليفيلد فيما سيصنعونه بأنفسهم وحياتهم مستقبلا بعد اعتزالهم اللعب وهم لا يفقهون ولا يجيدون ممارسة أي شيء في الحياة. وكيف أنهم كافحوا بعد ذلك لاستعادة توازنهم والعودة مرة أخرى لممارسة حياة طبيعية عادية هادئة.
وكما ركز المخرج على الكثير من لحظات الفوز والانتصار والفرح العارم، أبرز أيضًا بعض لحظات الضعف والانكسار التي مر بها هؤلاء. إذ تعرض شقيق هوبكنز للقتل على أيدي إحدى العصابات بينما كان في السجن وكيف أنه خرج لدفن شقيقه في ظل حراسة مشددة. أيضًا تعرض تايسون لوفاة ابنته عام 2009 وهي في الرابعة من عمرها أو فقدان هوليفيلد لجزء من أذنه اليمنى التي تعرضت لقطع جزئي بسبب قضم تايسون لها في إحدى المباريات الشرسة بينهما عام 1997.
في الجزء الأخير من الفيلم يتوجه المخرج على نحو ملحوظ بالكثير من الإدانة لكواليس تلك اللعبة والعالم السفلي الذي يتحكم فيها وانتفاء أي قوانين، حتى وإن كانت رياضية، تحكم مسار تلك اللعبة وتعمل على ضبطها بمنتهى النزاهة والشفافية، ناهيك عن وجود اتحادات رسمية تتسم بالحياد وانعدام الفساد تحافظ على حقوق اللاعبين وتحميهم. كما تطرق على نحو طبي سريع إلى المشاكل الصحية والجسدية التي تسببها تلك الرياضة ومدى خطورتها على الجسم، وبصفة خاصة المخ البشري والجمجمة، والوجه بصفة عامة. وناقش الكثير من إجراءات السلامة والرعاية الطبية ومدى توفرها من عدمه.
بالطبع، اختيار المخرج بيرت ماركوس لهؤلاء الأبطال الثلاثة ليس بمحض المصادفة. فمن خلال الفيلم يبدو مدى المساحات والخلفيات المشتركة التي تجمع بينهم، والتي تصل في بعض الأحيان لدرجة التطابق في الأحوال والظروف مع اختلاف التواريخ فحسب. كذلك يجمع بينهما، وهذا واضح كل الوضوح من خلال سرد كل منهم لمسيرته، مدى الأسى والحزن في كلماتهم ونبرات صوتهم وعلى وجوههم. فتشعر بأن تايسون بالكاد يمسك نفسه كي لا يبكي، في حين يبدو على هوليفيلد التأثر البالغ والحسرة على ذلك الماضي الذي ولّى، بينما يبدو الندم جليًا على وجه وحديث هوبكنز أثناء سرده لتجربته.
أما رسالة الفيلم أو الرؤية التي أراد لها المخرج بيرت ماركوس أن تصل عبر هذا الفيلم وأبطاله فتنصب بالأساس على طبيعة تلك الرياضة وتوجيه الإدانة للعديد من القائمين عليها، وكيف أنها تعتبر في كثير من الأحيان بوابة كبرى لهروب الكثير من أبناء الطبقات الدنيا من ظروف بالغة الصعوبة إلى مصائر مظلمة أو غير مستقرة في أغلب الأحوال. وكيف أنها، وإن أسهمت في تحسين الأحوال المعيشية للقلة، فإنها ليست كذلك بالنسبة للسواد الأعظم، ولا هي بالحل الناجح للهروب من مستنقع البطالة والمخدرات وعالم العصابات والجريمة والفقر.
وبعد العديد من الإدانات التي وجهّها المخرج لأطراف عدة في تلك الرياضة، يبرز بعض الآراء التي توجه إدانة دامغة لطبيعة تلك اللعبة برمتها، حيث أنها في النهاية تلعب على مشاعر الكثير من البشر الذين يتوقون لرؤية العنف والتعبير عما يعتمل بداخلهم. وكيف أن بذرة العنف موجودة داخل البشر جميعًا في مختلف المجتمعات وأن لعبة كهذه تهدف لإشباعها. كما شبّهها البعض الآخر بمصارعة الديوك ومصارعة الكلاب وغيرها من المصارعات المماثلة، في حين رأى البعض أن البشر الذين يدمرون بعضهم البعض في مثل هذه الألعاب على دراية بما يفعلونه، على عكس الحيوانات التي ليس لها خيار في هذا الأمر.
جدير بالذكر أن مايك تايسون، كان بطل العالم في الوزن الثقيل لأكثر من تسع سنوات، ويشترك الآن في العديد من الأفلام، والمسلسلات التليفزيونية، على وجه التحديد، سواء بشخصيته الحقيقية أو بأسماء أخرى. وإيفاندر هوليفيلد، كان بطل العالم في الوزن الثقيل لأربع سنوات، يعمل أيضًا بالتمثيل بين الحين والآخر. كذلك أيضًا يمتهن برنارد هوبكنز التمثيل بصورة غير احترافية، وقد ظلّ بطل العالم في الوزن المتوسط على مدى عشر سنوات.