ترجمة وتقديم: محمد هاشم عبد السلام

 

الثلاثاء 13 يناير 2015

 

لم تخل قائمة من قوائم النقاد أو الدوريات والمواقع السينمائية المتخصصة، التي رصدت أهم أفلام عام 2014، من ذكر فيلم “نوم الشتاء” للمخرج التركي المتميز “نوري بيلجي جيلان”، 56 عامًا، الذي يعتبر من أهم المخرجين المعاصرين في تاريخ السينما. وقد فاز الفيلم بأهم وأرفع جوائز مهرجان “كان” العام الماضي، السعفة الذهبية. وقد التقه مجلة “المخرج” منذ أيام قليلة، وأجرى ناقدها السينمائي “ديفيد باركر” هذا الحوار معه.

على مدى أفلامه الروائية السبعة، وقد حصل آخر خمسة منها على جوائز بمهرجان “كان”، انتقل المخرج والمُصوّر التركي نوري بيلجي جيلان من الدراما المبنية بالأساس على التصوير، في أفلام مثل “بعيدًا” (2002)، إلى هذا الفيلم المبني بقوة على السيناريو المكتوب، كما في البناء الهيكلي والحواري الذكي لفيلمه “حدث ذات مرة في الأناضول” (2011). وقد تحقق له هذا التطور ككاتب سيناريو بالاشتراك مع زوجته، “إبرو جيلان”، التي كتب معها آخر ثلاثة أفلام له.

تلقى نوري بيلجي جيلان تدريبه الأول ككيميائي ثم كمهندس كهرباء، قبل أن يتحول إلى التصوير الفوتوغرافي والسينما، وتعكس كتابته آثار عقليته المنهجية كمهندس. فيلم “مناخات”، الذي تألق في كتابته مع شريكته إبرو، كُتِبَ في ثلاثة فصول ذات أطوال واحدة تقريبًا. تدور أحداث “حدث ذات مرة في الأناضول” في فصول متساويين تقريبًا، الأول ليلا والثاني نهارًا. ويواصل نوري في فيلمه الأخير، “سُبات الشتاء”، تطوير نهجه وزوجته في كتابة السيناريو. يبلغ زمن الفيلم 196 دقيقة، ويرتكز على مشاهد حوارية طويلة، وكان نوري قلقًا إن كانت الجماهير ستتقبل هذا النهج الذي يميل أكثر إلى الأدبية أم لا، لكن فوز الفيلم بجائزة “السعفة الذهبية” في مهرجان “كان” الماضي يوحي بأنه قد تقبلته.

تم تصوير المشاهد المذهلة لسبات الشتاء في الأناضول وبالتحديد في منطقة “كابادوكيا” بمنحدراتها الصخرية الرائعة، ويعتبر الفيلم دراما عائلية تشيكوفية، حميمة وملحمية في نفس الوقت، مع التركيز على “أيدن”، الممثل السابق الذي اعتزل ومكث في غياهب الأناضول ليدير فندقًا كان ملكًا لوالديه الراحلين. وهو مالك متردد مستاء من مستأجريه، فضلا عن زوجته الجميلة “نهال”، التي يمر معها بعلاقة صعبة. شقيقته المطلقة “ديكلا”، التي عادت من اسطنبول لتعيش في الفندق أيضًا، تعتبره منافقًا مغرورًا. ميراث أيدن سمح له بالعيش كطاغية بعض الشيء، مُتعاميًا عن تأثير تصرفاته على حيوات الآخرين وغير مستعد لتمحيص أوهامه عن نفسه. كما في قصة من قصص تشيكوف، أهدى نوري فيلم “غيوم مايو” (1999) لتشيكوف، نلتقي بهذه الشخصيات بينما تقترب حياتها من النهاية. يُفجِّرُ كل هذا، المشهد المُبكر الذي يقوم فيه نجل أحد نزلاء أيدن بإلقاء صخرة على سيارته، محطمًا النافذة. يبدأ التوازن الدقيق الهش، الذي سمح للشخصيات بالحافظ على وضعها غير المحتمل، يبدأ في التداعي.

في أفضل حالاتها، تزدهر أفلام نوري بيلجي جيلان على التوتر القائم بين التحكم الرسمي والالتزام بالأصالة. كلتا السمتين كانتا حاضرتين عندما جلست للتحدث معه حول كيفية تغير العملية الكتابية والإخراجية عنده على امتداد السنوات العشر الماضية.

س: إلى أي مدى تغيرت عملية صناعة الأفلام بالنسبة لك نظرًا لأن الأفلام صارت معتمدة أكثر على السيناريو؟ أدرك أنك في وقت سابق – على سبيل المثال فيلم “بعيدًا” – كان لديك الوقت للتفكير المبني على عملية التصوير. اتساءل إن كان انعكاس هذا يسري الآن أكثر على عملية كتابة السيناريو؟

ج: تغيرت عملية كتابة السيناريو كثيرًا خلال حياتي السينمائية. عندما بدأت أشعر بقدر من الثقة فيلمًا تلو الآخر، صرت أشجع في الخوض في أساليب ومشكلات أكثر تعقيدًا. أمست أفلامي أكثر تعقيدًا، ولأجل هذا فإنك تحتاج إلى سيناريو أفضل، سيناريو أكثر اعتناء بالتفاصيل. لا يعني هذا أنني لا أدخل عليها تعديلات أثناء التصوير. كتابة السيناريو بالنسبة لي عملية لا تنتهي حتى أنتهي من المونتاج، وحتى تصميم الصوت، لأنه حتى تلك المرحلة لا يزال بإمكانك تغيير الحوار. لكنني أحاول الآن الكتابة بتفصيل قدر الإمكان كي أشعر بالأمان أكثر أثناء التصوير.

أولا، أقوم بتصوير ما كتبته، ثم أبدأ التفكير مرة أخرى وأحاول تجربة الكثير من الأشياء الجديدة. إنني دائم “الكتابة” بينما أراقب المشهد أثناء تصويري له. أحاول أن أجعلها أكثر تفصيلا، لأنه لو كانت هناك تنويعات واختلافات في التصوير فإن إمكانية ما يمكنك القيام به في المونتاج تزداد أضعافًا مضاعفة. الأمر كما في الشطرنج، يمكنك أن تضع معًا الكثير من الأشياء المختلفة أثناء المونتاج. بالنسبة لصنعتي الإخراجية، المونتاج هو كتابة، إنه عملية مهمة، وليس شيئًا ميكانيكيًا كما عند “أوزو”. أحب أوزو كثيرًا جدًا، لكن المونتاج بالنسبة له أسهل. اعتاد تصوير ما كتبه، ولا يتغير شيئًا لا في التصوير ولا المونتاج. الإخراج بالنسبة لي ليس على هذا النحو. دائمًا أحاول العثور على شيء ما أفضل، شيء أكثر واقعية، أكثر صدقًا. عندما تكتب سيناريو أعتقد أنه يكون لديك ميلا لتكون تعليميًا أو توجيهيًا بعض الشيء، لكن في التصوير يعمل ذهنك بطريقة مختلفة. ترى شيئًا، وربما تشعر أن هناك شيئًا ما خاطئًا. لو شعرت بهذا، يجب أن تجد شيئًا. حتى لو لم تتمكن من العثور على شيء، فإن عليك أن تحاول. أحيانًا، النقيض لما كنت تعتزمه ينجح على نحو أفضل. تشعر بهذا في التصوير.

س: عندما تجري هذه التنويعات أثناء التصوير، هل لهذا علاقة في المقام الأول بالممثلين أم يتعلق أيضًا بتغيير البنية الرئيسية؟

ج: بالنسبة للممثلين ليس من السهل أن تفهم ما يجري. إنها ضائعون قليلا في طريقتي الإخراجية. أخبرهم بشيء فيفعلوه، لكنهم في الحقيقة لا يفهمون السبب، لأنه من وجهة نظرهم صعب تبينه. أحيانًا، بالطبع، يكونوا مفيدين للغاية، ولو كانوا شجعاء بما يكفي وحدسهم قوي يمكنهم أحيانًا خلق شيء ما. عندما أنهي كل شيء في التصوير، أتركهم أحيانًا يرتجلون لو رأيت احتمالية ذلك عندهم. مع بعض الممثلين قد يكون هناك ما هو مفاجئ، لكنني أتركهم يرتجلون فقط بعدما أحصل منهم على كل ما أريد.

س: أثناء عملية المونتاج، هل تجد أنك قد غيرت الكتابة إلى حد كبير؟

ج: نعم، كل شيء يمكن أن يتغير. أحيانًا تحذف الحوار أو تغيره. المونتاج هو المكان الوحيد حيث يمكنك أن تكون متأكدًا، وعليك أن تكون متأكدًا هناك. في التصوير، دائمًا الوقت هناك ضيق ومقيد وغالبًا تكون غير متأكد. قد يكون هناك خطأ ما في ذلك المشهد، وهلم جرًا، في المونتاج، ترى كل شيء. تضيف الأصوات وتُجرِّب الكثير من الأمور وترى التوازن. أنت بمفردك ولديك حرية الوقت. على الأقل أتمتع بهذا، لأنه لا أحد يدفعني أو يضغط عليّ من أجل العرض بالسينمات في هذا اليوم أو ذاك التاريخ، وهلم جرًا.

س: كم تقضي في عملية المونتاج؟

ج: بالنسبة لهذا الفيلم كان فقد استغرق ستة أشهر، لأنني صوّرت مادة بلغت 200 ساعة. وكان عليّ العمل بجد للانتهاء منها خلال ستة أشهر.

س: هل الهيكل الأساسي هو نفسه كما في السيناريو؟

ج: الهيكل هو نفسه، لكن هناك الكثير من المشاهد التي اقتطعت من الفيلم. البناء لم يعد يتغير كثيرًا الآن، لأنني أكتب سيناريوهات أكثر تفصيلا، لكن في أفلامي المبكرة تغير البناء كثيرًا لأن السيناريو كان فضفاضًا.

س: كيف تعمل أنت وزوجتك معًا في الكتابة المشتركة للسيناريو؟

ج: لم أعمل مع الكثير من الأشخاص غير زوجتي. إن لم تكن شخصيتهم قوية للغاية، يكون الأمر صعبًا لأنها يقبلون كل ما أقوله. ينبغي أن يجبرونني على نحو ما. إبرو، بسبب علاقتنا، تعرفني أفضل. تُصر وتحارب. لا تستسلم أبدًا، وهي بالطبع جيدة جدًا. إنها شخصية جد واقعية، وهذا الأمر أعتقد أنه مهم. ربما حتى أكثر واقعية مني.

س: هل تعملان معًا على كل شيء، على سبيل المثال، البنية والحوارات؟

ج: لا! من المستحيل العمل معًا. لا نحب أبدًا نفس الشيء في ذات الوقت. نظرًا لأنه فيلمي، حتى لو لم تقبل شيئًا وأنا أصررت، فالقرار الأخير لي. وهي لا تزال تتحدث إليّ حتى بعد الانتهاء من الفيلم: “كان هذا خطأ ولم يكن هذا صوابًا”. لكنه فيلمي.

س: تحدثت عن العديد من قصص تشيكوف المُلهمة لهذا الفيلم، لكن المشهد الطويل لأيدن مع شقيقته جعلني أفكر في فيلم “ضوء الشتاء” لبرجمان الذي يُدمّر فيه الكاهن محبوبته بإخبارها بكل شيء يكرهه فيها.

ج: أحب برجمان كثيرًا، لكنني أظن أن هذا المشهد لا يشبه ذاك كثيرًا. عندما نرى أفراد الأسرة يأكلون بعضهم البعض، جميعنا نتذكر برجمان، بالطبع. إنه السيد في هذا. قصة الشقيقة تستند إلى قصة تشيكوف “أناس ممتازون”. قمنا بتمديدها وكتبنا العديد من الحوارات الجديدة، لكن صراع تلك الشقيقة وشقيقها مستمد من تلك القصة. الأمر ليس مشابهًا، لأنه في “ضوء الشتاء” ثمة إذلال. إنه يُذل المرأة، وهي تتقبل هذا، ولا تحاربه. هنا، لا يوجد إذلال، الجميع يحاولون حماية أنفسهم. لو كان هناك إذلال، فإنها الأخت التي تذل أكثر.

س: لأنها تختفي بعد ذلك.

ج: في الواقع، قبل اختفاءها بالضبط، يذهب هو إلى حجرتها. لا ترد، لكننا نشعر أنها هناك. بعد ذلك يغادر أيدن المنزل ونظرًا لأننا نتبعه لبقية الفيلم، فإننا لا نرى الشقيقة ثانية. بالطبع، كانت هناك الكثير من المشاهد مع الشقيقة. لكنني حذفتها في المونتاج.