محمد هاشم عبد السلام
يتناول هذا الكتاب “خدعة التكنولوجيا” لمؤلفه جاك الول، ومن كافة الزوايا والأبعاد ووجهات النظر وفي عمق شديد، ما يمكن أن نطلق عليه العلاقة التزاوجية بين البشر والتقنية، بالأحرى البشر والآلة.
وعبر صفحات الكتاب استطاع الول أن يفتح أعيننا ويوضح لنا طبيعة الخداع التقني، والذي من أهم سماته عدم اليقين. فنحن نتجه نحو عالم هو نتاج للتقنية بشكل متزايد. لكننا نعيش أيضًا في عالم يزداد تشككه في التقنيات، أي في آثارها. كما أنه أخذ في تحليل طبيعية التقنية، وتساءل هل هي بالفعل عنصر محايد يتوقف على من يستخدمه؟ أم أنها بالفعل عنصر غير محايد مسيطر ومتحكم وديكتاتوري؟ فالتقنية من وجهه نظره لا توجهنا بشكل غير مباشر فقط لكن أيضًا عن طريق التكيف النفسي إذ أننا نتكيف من منطلق الاستفادة بالتقنية. ونحن بهذا نتخلى عن استقلاليتنا. فلسنا أفرادًا فاعلين نملك حرية التصرف إزاء تلك المواضيع. بل إننا شديدو التورط في هذا العالم التقني. فنحن رهن له. وليس بإمكاننا أن نضع البشر في جانب والآلة في الجانب الآخر بل لا بد أن ندخل البشر إلى عالم التقنية. فاستخدام البشر للتقنية لا يقرره بشر مستقلون تحركهم الدوافع الروحانية والأخلاقية فقط. ولهذا، فإن هذا الاستخدام في غالبيته يأتي نتيجة عنصرين ساهما في التقدم الفكري والمادي وللبشرية. لكنهما شاهد على ازدواجية التقدم. فهو مفيد بمقتضى قوته القمعية وقمعي في مزاياه.
ولا يكتفي الول بذلك بل يرصد أيضًا الأمراض التي واكبت التعلق بالتكنولوجيا واستخدامها، مثل الإجهاد؛ الذي يقول عنه أنه واحد من الحقائق المأساوية لزماننا، كذلك الذهان أي الاضطراب العقلي أو قلة النوم واضطرابه الخ. كما رصد الجوانب الأخرى على المجتمع وعلى الأخلاقيات والعادات والتقاليد، وركز على ما يسميه بـ”تلال الخردة البشرية” ويقصد بهم البشر غير القادرين على التكيف مع التكنولوجيا وإيقاعها. يقول الول “ولا ينحصر الأمر فقط في كبار السن، فهناك أعداد غفيرة من الشباب الذين يمكن تسميته (بالعاجزين عن التوافق)، وهم ليسوا كذلك في جوهرهم بل في صلتهم بالمجتمع التقني”. وبالتالي يحذر من خطورة تكون ما يسميه “بالمجتمع المضاد”، هذا إذا وضعنا في الحسبان أيضًا الذين فقدوا وظائفهم أو تقاعدوا مبكرًا بسبب التقنية وتوفرها للأيدي العاملة. كما يرصد آثارها في مجال التعليم، فثقافة التقنية، وكيف أن الكمبيوتر على سبيل المثال لم يعد مجرد تقنية، بل علم، علم يجب تدريسه وتعلمه والتسلح به.
كذلك علاقتها بالزمن، “… علينا أن نعترف أنه ليس ثمة زمن موحد. فهناك زمننا وزمن الآلة التي يعمل بأجزاء على البليون من الثانية والذي لا يمكن توافقه مع زمننا”.
وفي تحليله لفكرة إن كان هناك ما يسمى بالثقافة التقنية، أي ثقافة نشأت عن وتكونت مواكبة للتقنية ينفي أية إمكانية لنشوء مثل هذه الثقافة، “مأساة العالم الحديث الفكرية والثقافية هي أننا نعيش في وسط تقني لا يسمح لنا بالتأمل. فليس بمقدورنا النظر إلى الماضي والتفكر فيه. فعلينا أن نناقش المعرفة الفكرية والوجدانية. ولابد أن نجعل منها مادة للتجريب وأن نخضعها للتأمل وندمجها في خبراتنا الحياتية. بيد أن هذه السيرورة غير ممكنة. إن الوسائل نفسها التي تستعملها التقنية تلغي هذه العملية لتبث ثقافة عن طريق سرعة المعلومات والخلط بين الصورة والحقيقة بواسطة ما يسمى بالثقافة الجماهيرية (التي تلغي التأمل الممكن)، وأيضًا بسبب استحالة تبادل المعارف الإنسانية والتجارب اليومية والمعرفة التقنية/ العلمية”. والثقافة تعني حرية تبادل التجارب والخبرات والمعلومات التي تحتكرها بنوك المعلومات والتقنيين. كما أنها تعني التقارب بين البشر والشعوب والثقافات، لكن هذا كله مستبعد بسبب الفردية وعدم التفاعل وإلغاء أية إمكانية حقيقية للارتباط أو تفاعل إنساني. كما لا ينسى الول أن يرصد علاقة الفن وخاصة الفن الحديث بالتقنية، ويتساءل عن فحواه وقيمته، وهل يعتبر بالفعل فنًا؟
وفي الفصل الحادي عشر الذي حمل عنوان: التطور التقني وفلسفة العبث، يرصد ما يسمى بضرورة التقدم التكنولوجي والمراحل التي يبغي الوصول إليها والهدف منها، ومدى أهميتها الفعلية للبشرية، ويستخلص أنها في معظمها لا أهمية لها، إنها ليست سوى رفاهية وترف مبالغ فيه إلى أقصى درجة من جانب المستخدم، كما أنها تدخل في نطاق الاحتيال من جانب القائمين على تطويرها وتقديمها (خبرائها)، تلك التي بحسب تعبيره “تخدم فقط عنصر الإدهاش لدينا” أو لدى “المبهورون” وهو عنوان الجزء الرابع من الكتاب، ويضيف جاك الول أنه “… بمجرد ابتكار منتج تقني متطور، يصبح الأمر الملح هو أن نجبر المستهلكين على استعماله رغم عدم وجود اهتمام به لديهم”، وبهذا ينقلنا الول إلى دور الإعلان وتوظيفه لخدمة التقنية وفي إلهائنا، وكذلك توظيف التعليم والأبحاث العلمية، حتى الملفق منها، وكذلك معظم الألعاب، والممارسات الرياضة، وفي النهاية يقنعنا بأن التقنية بالفعل هي الإرهاب الحقيقي لنا ويضرب مثالاً بالحاسب الإلكتروني فيقول: “المشكلة هي أن تعلم الناس أن يستجيبوا لذكاء الحاسب الموجود بالفعل. فعلينا أن نتعلم كيف نصنع المشكل بأسلوب مختلف وبلغة الحاسب بنهج يختلف عن النهج الكلاسيكي، …، فالإرهاب لا يرهب، لكنه يعمل على التأقلم. فقد يبدو فهم الحاسب واستعمالاته صعبًا. فإنجازاته مدهشة لدرجة وجود أسطورة حاسب حقيقية. إلا أن البعض أخذ على عاتقه مهمة نزع الصفة الأسطورية عنه، والتي لا تعني توضيح هشاشته وأخطائه وأخطاره. بل على العكس، خلق الحاجة إليه في حالة عدم وجود شعور بمثل هذه الحاجة، وتشجيع مستخدمين آخرين له، وإرشادهم إلى شراء النموذج الأكثر صلاحية لاحتياجاتهم، وتقديم البرهان على أن الحاسب ليس إعجازًا أو أسطورة، بل إن الشيء الذكي الوحيد الذي بإمكان الإنسان فعله هو استخدامه. فهو بسيط جدًا حقًا وبإمكانه مساعدتك. فإنك لا تريد أن تموت وأنت أبله”. وبالتالي ونتيجة لهذه الإرهاب ذو القفاز الحريري كما يسميه سنصل إلى درجة من التكيف لدرجة يصبح “الهجاء اللغوي نفسه أن يتكيف ليناسب الحاسب”.
وتحت عنوان العبثية يتساءل الول، “هل نصبح أكثر إنسانية بفضل التقنية؟ هل سيحدث للنوع البشري شكل من أشكال التغير؟ هل ستساعدنا التقنية على تحقيق هدف أسلافنا الإنساني؟” إن التقدم التقني والتطور الصناعي من وجهة نظره، “ما هما إلا خلق دائم لاحتياجات جديدة”.
يقول الول في الختام: “فإن كانت التقنية تجعل كل شيء ممكنًا، تصبح هي نفسها ضرورة مطلقة. لقد قلت منذ ثلاثين عامًا إن التقنية هي قدرنا الحديث. وأعتقد أن الأحداث قد أكدت هذا إلى حد كبير. فليس بوسعنا تحاشي الأساليب التقنية. فقد تمكنت من جميع المجالات والأنشطة الحقيقية. فليس ثمة ما هو خارق نطاق قبضتها. فهي علة نفسها”.
الكتاب مقسم إلى عشرين فصلاً جاءت في أربعة أجزاء رئيسية حملت العناوين التالية: “عدم اليقين، الخطاب، انتصار العبث، المبهورون”.
عنوان الكتاب: خدعة التكنولوجيا
المؤلف: جاك الول
ترجمة: د. فاطمة نصر
الناشر: مكتبة الأسرة – المشروع القراءة للجميع – مصر
الطبعة: الأولى 2004
الصفحات: 488 قطع كبير