وارسو – محمد هاشم عبد السلام
بعد انقضاء أربعة عقود على انطلاق مهرجان وارسو السينمائي الدولي (تأسّس عام 1985)، الذي تُقام دورته الـ41 بين 10 و19 أكتوبر/تشرين الأول 2025، يمكن القول إنّه اكتسب هوية خاصة ورسّخها. هوية لافتة ومميّزة، جعلته من بين الأهم والأبرز في شرق أوروبا ووسطها، ومن المهرجانات الحريصة على التنوّع، رغم تركيزها الأساسي على أفلام وأسماء جديدة وواعدة في بقاعها الجغرافية، التي نادراً ما يُلتَفَت إليها، أو تُتاح لها فرص العرض والمنافسة في مهرجانات كبرى، رغم جودة إنتاجاتها.
يُمكن تصنيف مهرجان وارسو في فئة مهرجانات دولية، ككارلوفي فاري وتالين وساراييفو وصوفيا، وغيرها، تلك التي لا تهدف إلى مزاحمة المهرجانات الكبرى (برلين، كانّ، فينيسيا) على الأفلام الضخمة والنجوم والنجمات العالميين، قدر اهتمامها النوعيّ باستكشاف أفلام منطقتها أساساً، وتقديمها إلى الجمهور المحلي أولاً، فالجمهور القاريّ والدولي. ثم القيام بدور محوريّ فارق، يُعدّ بمثابة حاضن لهؤلاء السينمائين، ومُكتشِف إياهم وأفلامهم، ومُروّج لهم ولها.
أكثر من منصّة
هذا لا يعني أنّ مهرجان وارسو مجرّد منصّة، معنيّة بالأفلام الأولى والثانية من أوروبا الوسطى والشرقية فقط. أو مجرّد مهرجان محلي أو هامشي، بمعزل عن سياق السينما العالمية. بالعكس، ساهم المهرجان سابقاً في اكتشاف صنّاع أفلامٍ برزوا لاحقاً في مهرجانات كبرى، وفازوا بجوائز مرموقة، وحقّقوا شهرة كبيرة: النمساوي مايكل هانيكه، والروماني كريستيان مونجيو، والبولندي بافل باوليكوفسكي، والإيراني أصغر فرهادي، وغيرهم، ممن جاؤوا إلى المهرجان بأفلامهم الأولى، أو بأخرى اشتهرت لاحقاً، قبل وقت طويل من شهرتهم وفوزهم بجوائز، كأوسكار والسعفة الذهبية.
مراجعة سريعة لتاريخ مهرجان وارسو توضح مدى نموذجية مسار مبادرة محلية بسيطة ومتواضعة، انطلقت بعنوان أسبوع وارسو السينمائي، وتطوّرت لتنمو تدريجياً، بتخطيط جدّي وعمل شاق، فتراكم النجاح تلو الآخر. النجاح الملحوظ لدورات المهرجان، خاصة بعد سقوط الستار الحديدي وانتهاء الشيوعية، أوصل المهرجان إلى مستوى عالمي، دفعه إلى تعدّد أقسامه وتنوّعها، وتنظيم مسابقات محلية ودولية، ومنح جوائز، وتشكيل لجان تحكيم. ومن ثم الاعتراف به، مع بداية هذا القرن، مهرجاناً دولياً مُعتمداً من الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام (FIAPF). وذلك من دون أنْ يحيد عن رؤيته وهويته وتوجّهه بوصفه تظاهرة فنية وثقافية، داعمة للمواهب الجديدة.
مقارنة أرقام المشاركات المعلنة في دورة هذا العام، وفيها أكثر من 100 فيلم روائي طويل، و50 فيلماً قصيراً، إلى 80 عرضاً عالمياً ودولياً وأوروبياً وإقليمياً، بأرقام الدورة الماضية مثلاً، أي الدورة الـ 40 (11ـ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، التي عُرض فيها 84 فيلماً طويلاً، و58 فيلماً قصيراً، من نحو خمسة آلاف مشاركة وصلت إلى المهرجان؛ مقارنة كهذه تدلّ على مدى أهميته المتزايدة. إلى ذلك، هناك حرص كبير على عرض أهمّ الأفلام الدولية وأبرزها في أقسامٍ عدّة، بينها “مواجهات”، الذي يضمّ أهمّ أفلام العام من مختلف المهرجانات. يسبق هذه العروض الحصرية، أو العالمية الأولى، في مسابقاته الأربع: المسابقة الدولية (15 فيلماً)، مسابقة 1 ـ 2 (11)، الأفلام الوثائقية (15)، والأفلام القصيرة (31). تمنح لجان التحكيم، المكوّنة عادة من 3 أفراد لكل قسم، جوائز شرفية في فئات أفضل إخراج وأفضل مساهمة فنية، إلى تنويه خاص. باستثناء المسابقة الدولية، التي يحصل الفيلم الفائز فيها على جائزة وارسو الكبرى، وقيمتها 100 ألف زوتي بولندي (نحو 25 ألف يورو)، يدفعها عمدة وارسو، وينالها المخرج.
يحاول المهرجان الموازاة بين الذوقين التجاري والفني، والحفاظ على هوية فنية وثقافية راقية، رغم اعتماده إلى حدّ كبير على دعم الحكومة، ووزارة الثقافة، وبلدية وارسو. وأيضاً على الحضور الجماهيري، لتحقيق أرباح، إذْ ينتمي إلى فئة المهرجانات الدولية المفتوحة التي تنشد الجمهور. مبيعات تذاكره تحقِّق أرقاماً مُعتَبَرة، إذْ تجاوزت في الدورة الماضية 100 ألف تذكرة للجمهور. بخلاف تلك المُخصّصة لأهل الصناعة والمهنيين والإعلاميين.
تغييرات ملموسة
يطمح مهرجان وارسو السينمائي، مع أولى دورات عقده الرابع، إلى إحداث تغييرات ملموسة، ليست جذرية تماماً، لكنها فارقة، تنشد الخروج به أكثر من المحلية والإقليمية إلى الساحة العالمية، وتقديم نتاجات فنية وثقافية تستهدف الانفتاح على الآخر، لذا، أُجريت تغييرات مهمّة في البُنية الهيكلية والتنظيمية: لوجستياً، باتت غالبية صالات العرض متمركزة في قلب وارسو، بعضها بجوار بعض، من دون إغفال توزيع فعاليات في أماكن أخرى بالمدينة. فنياً، أُسندت إدارته إلى فريق جديد، برئاسة المخرجة جوانا شيمانسكا، والإدارة الفنية والبرامج إلى الناقد بارتيك بولسين. كما أُطلقت مبادرة لتشجيع الصناعة ودعمها، بعنوان أيام وارسو للصناعة، تضمّ منتديات تمويل، وتعاوناً إقليمياً ودولياً، وورش عمل مهنية، وبرامج تبادل، ودعماً مشتركاً بين بولندا ودول الجوار.
ضمن التطوير الحاصل، أُدخل أيضاً بعض التحديث على الهوية البصرية، لتكون جذّابة ومُبهجة وأقلّ صرامة. فمن الأمور اللافتة للانتباه أنّ المهرجان، طوال تاريخه، لم يصدر أي ملصقات لدوراته، مكتفياً بشعاره الأيقوني العريق بوصفه هوية وعلامة مميّزة. الشعار عبارة عن ورقة نبات خماسية، مستوحاة من أوراق شجر الكستناء، المعروف بالكستناء الحصاني، والمنتشر في وسط أوروبا، وشوارع وحدائق بولندا وعاصمتها. عَصرَنَة الشعار جاءت لتعكس التطوير والتحديث الحاصلين في المهرجان، إذْ صارت الألوان مغايرة وبارزة، خاصة الأزرق الداكن، الذي يرمز إلى فصل الخريف، موعد انعقاد دوراته السنوية، والإيحاء بالليل، إذْ تبدأ معظم العروض (ثلاث حفلات متتالية)، الساعة الرابعة بعد الظهر، وتستمر إلى منتصف الليل. أما بنايات وسط المدينة، الظاهرة في الخلفية، فتحيل على مقرّ انعقاد غالبية النشاطات.
إلى ذلك، دُشِّنت أقسام وفعاليات وأماكن عرض جديدة: سينما عطلة نهاية الأسبوع، سينما الأسرة، عروض مجانية للعجائز، سينما الحب. كما استُحدِث قسم سينما في السحاب، الذي تُقام عروضه في أعلى صالة بالمدينة، الطابق الـ 46 في برج وارسو الشهير. أما أبرز ما استحدثته الإدارة الفنية، ويُعبّر عن توجّهها إلى الانفتاح على الآخر غير الأوروبي، جعل منافسات مسابقة 1 ـ 2، المُخصّصة حصرياً بالأفلام الروائية الأولى والثانية، مفتوحة عالمياً، ولا تقتصر على وسط أوروبا وشرقها فقط. كما باتت المسابقة الدولية للأفلام القصيرة (ذات الأنواع المختلفة) تتمتّع بمكانة فريدة بوصفها إحدى المسابقات القليلة عالمياً المؤهّلة إلى ترشيح مباشر لأفلامٍ فيها إلى جوائز أوسكار.
بصمة الإدارة الفنية بارزة أيضاً في برمجة أفلام مختلفة من 60 دولة. لم يقتصر التطوير على الصالات والأقسام فقط، بل على إتاحة مساحة أكبر لبلدان جديدة لم تكن موجودة: أميركا اللاتينية وآسيا والأميركتان وأستراليا، إلى دول عربية، التي تشهد سينماتها، هذه الدورة، مشاركة استثنائية في أقسام مختلفة، خاصة تلك المقبلة من فلسطين، أو لمخرجين فلسطينيين، وذلك بعكس المعتاد، إذْ لم يشهد المهرجان وجوداً عربياً يُذكَر في مختلف أقسامه، في تاريخه، بل فقط في السنوات العشر الأخيرة، مع عروض أفلامٍ عدّة، لم يتجاوز عددها 10، من لبنان ومصر والسودان.
الحضور العربي
المُثير للانتباه أكثر، أنّه، في مرحلة ثورات الربيع العربي، وتهافت المهرجانات الدولية، الكبرى والصغرى، على أي أفلامٍ آتية من المنطقة، لم يكترث المهرجان بالأمر، باستثناء اختياره “اشتباك” (2016) للمصري محمد دياب. بينما في دورته الـ 41 هذه، وللمرة الأولى في تاريخه، سيعرض خمسة أفلامٍ روائية طويلة، وأربعة قصيرة.

في مسابقة 1 ـ 2، هناك “كولونيا”، أو “عطر والدي”، للمصري محمد صيام (تمثيل أحمد مالك وكامل الباشا ومايان السيد)، في أول عرض له في العالم. وفي مواجهات، يعرض “كان ياما كان في غزة” للأخوين طرزان وعرب ناصر، الحاصِلَين على جائزة أفضل إخراج في قسم “نظرة ما” في الدورة الـ 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان “كانّ”.
أما “أرواح حرة”، المخصّص بأفلامٍ تتّسم بالابتكار والتجريب والتجديد، فسيُعرض “الصغيرة الأخيرة” للممثلة والمخرجة الفرنسية التونسية حفصية حرزي، الحاصلة بطلته نادية مليتي على جائزة أفضل ممثلة، في مسابقة الدورة نفسها لمهرجان “كانّ” أيضاً. وفي “سينما القيم”، المهتمّ بأفلام عن قيم الحرية والعدالة، فسيُعرض “نسور الجمهورية” للمصري السويدي طارق صالح، الذي يُكمِل به ثلاثية القاهرة.
في “المسابقة الدولية للأفلام القصيرة”، هناك “نهاية” للفلسطيني الشاب ورد كيال (تمثيل زياد بكري)، و”أولاً حمرة الخجل، ثم التعوّد” للممثلة والمخرجة التونسية مريم فرجاني. وفي “أفضل الأفلام البولندية القصيرة”، هناك “قاهر” للفلسطينية ندى خليفة، التي درست السينما في وارسو، حيث تُقيم. أما الوثائقي “غزة تهديد صامت” للبرازيلية ماريا فيرناندا لوريت، فسيُعرض في “عروض خاصة”: حملة التطعيم ضد شلل الأطفال، في حرب غزة.
اللافت للانتباه فعلياً، في برمجة الأفلام العربية هذه الدورة، أنّها تعكس رؤية بولندية جديدة، يبدو أنّها تحوّلت ولو قليلاً، سياسياً وثقافياً وأخلاقياً، تحوّلاً حميداً إلى الانفتاح على الآخر، خاصة العربي، وتحديداً الفلسطيني، والتفاعل والتعاطف مع قضيته. الدليل، اختيار “صوت هند رجب” للتونسية كوثر بن هنية، لعرضه في ختام المهرجان البولندي الأكبر والأهمّ: استعادة صوت الطفلة هند في قلب وارسو، بتاريخها المعروف في ما يخصّ اليهود، وما جرى لهم على أراضيها، يُعتَبر من أبلغ الدلالات على التغيير، وتأثير ما يجري في غزة وتبعاته، عالمياً.
المؤكّد أيضاً أنّ تأثير الفيلم على الجمهور سيكون له أبلغ الأثر، نفسياً وعاطفياً وإنسانياً. بهذا، يتحقّق الأثر المرجوّ من “صوت هند رجب”، الفائز بالجائزة الكبرى للجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الـ 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا.