محمد هاشم عبد السلام

 

21/5/2018

 

كل فن إنساني كوني، حتى وإن كان عن الغير، لا بدّ وأن يحمل صبغة ذاتية الطابع. تلك الصبغة ملموسة هنا بين الحين والآخر على امتداد الفيلم.

على الرغم من أنّ المخرجة البلجيكية الشهيرة، آنييس فاردا، لم تشترك على امتداد مسيرتها المهنية، التي بدأتها قبل أكثر من ستين عاما، في إخراج أية أفلام مُشتركة، لكنها، وهي الآن على مشارف التسعين من عمرها، تجاسرت ودخلت تلك التجربة للمرة الأولى في حياتها دون أن تخشى تبعاتها. والخشية هنا ناجمة عن عدة أمور: في المقام الأول منها أن شريكها في الإخراج ليس بنفس خبرتها السينمائية، فهو لا يزال شابا (33 عاما) لم تتشكل تجربته الحياتية والسينمائية بعد مُقارنة بتجاربها السينمائية والحياتية العريضة. صحيح أنه وقف خلف الكاميرا، لكن تخصصه الأكبر إنما هو في التصوير الفوتوغرافي أو الكتابة أو الفن التشكيلي أو التمثيل.

إذًا، ما الذي اجتذب مُخرجة بحجم آنييس فاردا لتُقدِم على تجربة مثل هذه تحُفّها الكثير من المخاطر خاصة وأنها -كما يظهر في الفيلم- تعرَّفت على شريكها في الفكرة والكتابة والإخراج “جيه آر” مُؤخرًا، وصداقتهما ليست مُمتدة زمنيًا في الماضي؟ ببساطة شديدة، إنها تلك الكيمياء السحرية بينهما، أو لِنقل “الروح” التي نلمسها منذ اللحظات الأولى لفيلم “وجوه وأماكن”، بداية حتى بمُقدمة الفيلم والعناوين. إنها تلك الروح المرحة، الشابة، المُنطلقة، المُحِبة للحياة وللوجود وللبشر ولكل ما حولها. تلك الروح التي تشِعّ طاقة إيجابية ولا تفارقها الابتسامة أينما حلّت. تلك الروح التي تخلق البهجة وتُبَدِّل طاقة المكان بمُجرد تواجدها فيه. إنها ليست فقط روح الشاب المُنطلق المُبدع جيه آر، بل طاقة آغنيس أيضًا. فتلك المرأة رغم صعوبة حركتها بعض الشيء واستعانتها أحيانًا بعصا للسير إضافة إلى ضعف بصرها، تُدهِشُكَ بكمّ الطاقة والحيوية والانطلاق والمرح والإقبال على الحياة الذي تشعّ به.

لم يكن من قبيل المُصادفة وصول الفيلم للقائمة القصيرة في ترشيحات الأوسكار للفوز بأفضل فيلم تسجيلي العام الماضي.

إنّ طاقة آنييس وانطلاقها وجنونها وحيويتها وشبابها في “وجوه وأماكن” تفوق أو لا تقلّ أبدًا عن طاقة جيه آر. هذا الثُنائي بكل تلك الأوصاف التي وصفناه بها، وهي لا تُذكر مُقارنة بالفيلم والشطح الجنوني فيه، كان من الطبيعي أن يَخرُج لنا بفيلم على هذا القدر من الجمال والحيوية والتدفق والروعة والعذوبة، وقبل كل شيء الإنسانية.

يُثبت “وجوه وأماكن” أنه كلما مال المُبدع إلى البساطة قدر الإمكان واهتم بالإنسان والإنسانية وجعلهما محور عمله، أخرج للبشرية كل ما هو قيِّم وثري ومُبهج وخالد. ولذلك لم يكن من قبيل المُصادفة وصول الفيلم للقائمة القصيرة في ترشيحات الأوسكار للفوز بأفضل فيلم تسجيلي العام الماضي، وذلك بعد أول عرض له في مهرجان “كان” العام الماضي، والعديد من العروض حول العالم، وعشرات الجوائز التي حصدها.

في فيلم “وجوه وأماكن” نكتشف ببساطة ما يشير إليه العنوان؛ العديد من الوجوه من أماكن مُتنوعة من مُختلف أنحاء المُدن الفرنسية الصغيرة وضواحيها على وجه التحديد. ونظرًا لتعدّد الأماكن، البلدات والقرى، والسفر والانتقال، واستخدام السيارة “الفان” في التنقل، يمكن القول أيضًا إنّ الفيلم ينتمي لنوعية أفلام الطريق السائدة أكثر في السينما الروائية عنها في السينما التسجيلية.

مع فاردا وجيه آر نحن دائمًا على الطريق، نُتابع العديد من المَشاهِد للسيارة من بعيد وهي تقطع الطريق، أو من قريب أو من داخلها. السيارة ذاتها، جرى تغطيتها بالكامل بصورة مُكبرّة لكاميرا فوتوغرافية. ومن عدسة تلك الكاميرا الواضحة على أحد جانبي “الفان” ثمّة فتحة لإخراج الصور المطبوعة.

بواسطة تلك “الفان” والكاميرا المُثبَّتة داخلها والمكان المُتوفر بالداخل لمن يرغب في التصوير، يخوض الكثير من الناس تجربة التصوير الفوتوغرافي. يقبلون عليها باستكشاف شغوف، بداية من الأطفال وانتهاء بالعجائز. بعد ذلك، يطبعون وجوههم على ألواح ورقية كبيرة مصقولة وناعمة. الفكرة، تُشبه كثيرًا أكشاك التصوير الذاتي المُنتشرة في أوروبا في الشوارع ومحطات المترو. الاختلاف هنا أنّ الصور كبيرة، مُلونة، برَّاقة، لامعة على ورق مصقول. إلى جانب هذا، ثمّة مساحة كبيرة للغاية للابتكار والتجريب واللعب والسخرية من جانب الجميع، صغيرًا وكبيرًا. فالبعض يودّ الظهور بمظهر جدّي في الصورة، والآخر على النقيض تمامًا. لذلك تظهر الوجوه وملامحها -ابنة تلك التجربة أو الفكرة في تلك الصور- وليدة اللحظة، فهي شديدة الارتجالية وبالغة العفوية والآنية، ولذلك كله، فهي صادقة تمامًا ومُعَبِّرة للغاية.

يُثبت “وجوه وأماكن” أنه كلما مال المُبدع إلى البساطة قدر الإمكان واهتم بالإنسان والإنسانية، أخرج للبشرية كل ما هو قيِّم وثري.

لأنهما على قدر من الوعي الفنيّ، سرعان ما يُدركان أنّ الفكرة قد استنفدت غرضها، وأنه لا بد من سبيل لتطويرها كي يستقيم الفيلم ويمتدّ، ليس زمنيًا فحسب، بل أيضًا تجريبيًا وحياتيًا ومكانيًا. وهو ما يُفضي في النهاية إلى سفرهما بالسيارة “الفان”، ربما في تنقّل مدروس أو على نحو عشوائي. من ثَمّ، نجد أننا إزاء العديد من النماذج لشخصيات لا يمكن أن تتخيل أنك ستلتقي بها في الحياة أو أنها ستجتمع في فيلم واحد تحت مظلّة فكرة واحدة. مع السفر والانتقال تطورت الفكرة. هنا لم تعد طابعة السيارة “الفان” مُواكبة للفكرة الجديدة، فتطور الفكرة أفضى في النهاية إلى طبع الصُور المُلتقطة بأحجام بالغة الضخامة تشغل مساحات بالأمتار على واجهات المباني أو الحظائر أو صخور على البحر أو صوامع أو حتى عربات قطارات نقل البضائع أو حاويات التخزين في الميناء.

مع كل صورة من تلك الصور، سواء لشخص بمفرده أو مجموعة أفراد، نتعرف على العديد من القصص مثل صاحب المزرعة الذي يعمل على فلاحتها ويقوم تقريبًا بالعمل برمّته دون الاستعانة بأحد، وفي النهاية نجد صورته بحجم ضخم على حظيرة مزرعته. كذلك تلك المرأة العجوز التي تعيش بمفردها في منزلها بمدينة تعدينية شبه خالية من السكان الذين راحوا يهجرونها، ومدى سعادتها وانهمار دموع الفرح عندما ترى صُورتها المُكَبَّرة على جدار منزلها.

إنّ طاقة آنييس وانطلاقها وجنونها وحيويتها وشبابها في “وجوه وأماكن” تفوق أو لا تقلّ أبدًا عن طاقة جيه آر.

من بين المجموعات أفراد يعملون في أحد المصانع، تُلتقط لهم صُورة جماعية ثم تُلصق على جدار ضخم بمصنعهم. وأخرى لثلاث نساء هنّ أزواج لعمال بميناء “لو هافر”، ويعملن أيضًا بالميناء في وظائف مُختلفة. وبعد تكديس عشرات الحاويات الضخمة فوق بعضها البعض، والاستعانة بالتصوير البطيء، نرى في النهاية صُورهنّ وقد كست تلك الحاويات الشاهقة الارتفاع. ولم يكتف جيه آر وآغنيس بذلك، بل وضعا النساء بأعلى تلك الحاويات، وطلبا منهنّ التحدث عن أنفسهنّ رغم خوف إحداهنّ من الأماكن المفتوحة.

كل فن إنساني كوني، حتى وإن كان عن الغير، لا بدّ وأن يحمل صبغة ذاتية الطابع. تلك الصبغة ملموسة هنا بين الحين والآخر على امتداد الفيلم، مثلا: عندما يتحدث جيه آر وآنييس عن نفسيهما أو عالمهما أو تجاربهما أو تعارفهما، عن الفن والحياة والموت وقوة الصُور. أيضًا، سرّ ارتداء جيه آر الدائم للنظارة الشمسية والقبعة التي تُذَكِّرُها بالمخرج السويسري العملاق جان لوك جودار. كذلك تَحَدُّثِها عن اعتلال بصرها بعض الشيء -ناهيك عن كبرها في السن الذي تتحدث عنه بأريحية تامة في الفيلم- فيكون هذا الحديث بمثابة المدخل الذي يُلهم جيه آر تصوير عيني آغنيس، ثم تكبيرها ولصقها على عربات قطار شحن للمواد البترولية. أيضًا اصطحاب جيه آر لآغنيس إلى جدته التي تخطّت المئة عام ولا تزال بصحة وذاكرة جيدتين، أو اصطحاب آغنيس إلى متحف اللوفر فوق كرسي متحرك، ويعدو بها في جنباته في مرح طفولي من جانبهما.

إضافة إلى هذا، قرب نهاية الفيلم، حديثهما في القطار، خاصة عن نظارة وقبعة جيه آر وخلعهما لأجلها لأول مرة منذ بداية الفيلم، تحديدًا بعدما تُخبره بالذهاب لمُقابلة جودار في مفاجئة غير مُتوقعة. لكن جودار بالطبع، وكما هو مُتوقع منه، واتساقًا مع طبيعته، يَتَصرَّف بطريقته الخاصة، فيخذلهما باختفائه.

اللمسات الإنسانية والذاتية الحميمة زادت ليس فقط من حيوية الفيلم ومصداقيته وعفويته، بل أيضًا عملت على تعميق التجربة الإنسانية فيه.

كل تلك اللمسات الإنسانية والذاتية الحميمة زادت ليس فقط من حيوية الفيلم ومصداقيته وعفويته، بل أيضًا عملت على تعميق التجربة الإنسانية فيه، ومنحته الكثير والكثير من الأبعاد التي تُضاف إلى الفكرة الرئيسية التي تعرفنا من خلالها على وجوه لبشر عاديين في الحياة والأماكن التي شكلتهم وباتوا جزءًا منها. وكل ما صاحب هذا من استمتاع لم يكن ليرغب المرء له أن ينتهي، لأن اهتمام الثنائي بهؤلاء الأشخاص لم يكن مجانيا أو لغرض نفعي، وإنما هو اهتمام حقيقي صادق. ولذلك انتقل هذا الصدق إلينا، وجعلنا غير راغبين في أن نُفارقه أو أن ينتهي الفيلم.