محمد هاشم عبد السلام
ولد المصور الفوتوغرافي الكندي، يوسف كارش، المنحدر من أصل أرميني تركي، في مدينة ماردين الأرمينية، في الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1908. وكان يوسف الابن الأكبر لتاجر أمي، قد شبّ وبلغ وسط القتل الجماعي التركي، ورأى اثنان من أعمامه يقتلان في السجن. وعندما كان يوسف في الخامسة عشر، سمح لوالديه وأبنائهما يوسف ومليك وسليم وجميل، بالرحيل عن تركيا إلى سوريا. وبالفعل هربت العائلة إلى سوريا طلبًا للحرية في رحلة استغرقت مدة شهر في مقطورة كردية. وعندما حطت العائلة الرحال هناك، وكان قد بلغ السادسة عشر من عمره، أرسله أبويه إلى شيربروك، في كويبيك، للعيش والعمل مع خاله المصور الفوتوغرافي، جورج ناكاش. والغريب في الأمر أن يوسف عندما رحل إلى كندا في (1924) لم يكن وقتها يتحدث اللغة الإنجليزية، وكان يعرف القليل من اللغة الفرنسية، وكانت تحدوه رغبة عارمة في أن يصبح طبيبًا وليس مصورًا فوتوغرافيًا أو مساعدًا لخاله الذي لم يكن قد رآه من قبل قط في حياته، لكن الظروف المادية لم تمكنه من تحقيق رغبته وحلمه بأن يكون طبيبًا.
بعد سنوات قليلة من الإقامة والعمل مع خاله (1926 – 1928) انتبه الخال إلى موهبة ابن أخته في فن التصوير، فقام ناكاش بإرسال يوسف وهو في العشرين من عمره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد إلى بوسطن في عام 1928 لمدة ستة أشهر، للتدريب على يد صديقه المصور الفوتوغرافي الشهير في ذاك الحين جون إتش. جارو، الذي كان واحدًا من كبار أساتذة التصوير الأرمينيين في أمريكا، لكن التدريب استمر لمدة ثلاثة أعوام كاملة، تعلم فيها كارش كل صغيرة وكبيرة متعلقة بتقاليد المهنة، حيث كان يقوم في بعض الأوقات بدور موظف الاستقبال أو يقوم بتنظيف حجرة التظهير (التحميض). وقد تعلم كارش من جارو، كما صرّح فيما بعد، استراتيجية استخدام وتوظيف الضوء والظلام والتناقض فيما بينهما، وهي خاصية مميزة جدًا نراها بارزة في أعمال كارش اللاحقة، كذلك نبهّه جارو وعلمه كيفية استخدام الضوء الطبيعي في التصوير، ونصحه بضرورة دراسة أعمال كل من فيلاسكيز ورامبرانت، ومن الميزات الأخرى الهامة التي اكتسبها كارش أثناء عمله مع جارو احتكاكه المباشر بمشاهير المدينة وقتها الذين كانوا يترددون على محل جارو، وبدوره ساهم جارو أيضًا في تعريفهم بالشاب والثناء عليه. وكان لتعرض كارش في مطلع شبابه وبداية حياته المهنية للمشاهير من السياسيين والكتاب والزعماء والطبقة الاجتماعية في بوسطن انطباعًا لا يمحي، ومساهمة ذات أثر كبير في مسار حياته المستقبلية. وكان كارش أثناء وجوده في بوسطن يتردد على معارض الفن التشكيلي والمتاحف، وفي المساء كان ينكب على كتب الفن ويقضي معظم الوقت في المكتبة العامة.
عاد الشاب الموهوب والمتعطش إلى كندا في عام 1931، وافتتح أستوديو متواضعًا خاصًا به في شارع “سباركس” في العاصمة الكندية أوتاوا عام 1932. وكان كارش إلى جانب عمله في الأستوديو يقوم ببعض العمل لصالح “مسرح أوتاوا الصغير”، وقد ساهم عمله مع مسرح أوتاوا في تمكينه من عقد صداقات وتعارف مع الكثير من صفوة رجال الحكومة والسياسة والثقافة والفن في العاصمة الكندية، الذين بدءوا في التردد على محله من أجل التصوير، كما أنه التقى في ذلك المسرح بزوجته الأولى سولانج جوثير لأول مرة في عام 1932. وتزوجا بعد ذلك في 1939. وقد توفيت سولانج في 1941، بالسرطان ولم ينجبا أطفالا. ثم تزوج كارش من إسترليتا ماريا ناتشبار عام 1962.
لفت كارش النظر إليه بموهبته أثناء افتتاحه لمرسمه، وفي البداية كان زبائنه من سكان أوتاوا الذين جاءوا ليس فقط من أجل التصوير لاستخراج الجوازات، بل أيضًا لالتقاط صور الأفراح وصور عائلية لهم، وكانت صور المناسبات الاجتماعية التي يصورها كارش جيدة وجذابة وساهمت في ذيوع شهرته لدى السياسيين، حتى وصلت لرجال الحكومة الكندية. وكان من بين من استرعى انتباهه رئيس الوزراء الكندي في ذاك الوقت “ماكنزي كينج”، الذي أعجب بذوق المصور المجهول نسبيًا وراح يعمل على مساعدته في زيارة الوجهاء من أجل التقاط الصور لهم، وكان ماكنزي هو أول مرشد وناصح لكارش وأول من أتاح له الفرصة للتقرب بشدة من رجال الدولة الكندية، حتى أصبح في النهاية المصور الرسمي للحكومة الكندية.
ظل كارش يمارس مهنته كغيره من المصورين الفوتوغرافيين في كندا، إلى أن جاءت سنة 1941 وبالتحديد شهر ديسمبر من تلك السنة، حيث تبدل حال كارش كلية وتغير أيضًا مسار مستقبله المهني من مجرد مصور فوتوغرافي في محل صغير في أوتاوا إلى ما صار إليه بعد ذلك. وقد حدث ذلك عندما حضر إلى العاصمة الكندية أوتاوا رئيس الوزراء البريطاني في ذاك الوقت، ونستون تشرشل، الذي كان يقوم بجولة لحشد الحكومات في أمريكا الشمالية ضد ألمانيا النازية. كان رئيس الوزراء ماكنزي قد رتب دون علم تشرشل لجلسة تصوير خاصة به بمناسبة حضوره إلى كندا، وبالفعل بعد انتهاء تشرشل من خطابه في مجلس العموم. وأثناء تواجده في مبنى البرلمان في أوتاوا فوجئ تشرشل بأحد المصورين الشبان يطلب منه التصوير، فاغتظ تشرشل جدًا وانفعل لعدم أخذ إذن مسبق منه، لكنه وافق في النهاية على مضض وقال للشاب في غضب سأمنحك دقيقتين فقط، أسرع دقيقتين فقط لا غير، وشرع تشرشل في إشعال سيجاره وهو يزمجر متذمرًا: “لماذا لم يطلعني أحد على هذا؟” لكن كارش لم يعبأ بما كان تشرشل يقوله وطلب منه أن يطفئ سيجاره، فلم يكن كارش يريد تصوير تشرشل بطريقة تقليدية يظهر فيها كما ظهر في كثير من صوره الشهيرة ممسكًا بسيجاره. تقدم منه كارش ممسكًا بمطفأة سجائر، لكن تشرشل استمر في التدخين، ورفض طلب كارش بإزالة السيجار من فمه، عندئذ، وكان كارش في الثالثة والثلاثين من عمره، اقترب من الرجل العظيم وقال له، “اعذرني، يا سيدي”، وبهدوء انتزع السيجار من بين شفتي تشرشل. وبينما كان تشرشل بين الحيرة والاندهاش من هذا الفعل المفاجئ من جانب الشاب الوقح الجريء، وبينما كان التجهم والعبوس الشديدين يعتريان وجهه، كان كارش أمام الكاميرا، يلتقط الصورة بسرعة شديدة.
وعن هذا كتب كارش في أول كتاب له، والمنشور في عام 1946 تحت عنوان “وجوه القدر”، “لم يكن تشرشل في حالة مزاجية تسمح بالتصوير ودقيقتين هما كل ما سمح لي بهما من وقته. كانت الدقيقتان ضئيلتين جدًا ويجب عليّ فيهما أن أحاول أن أضع على الفيلم رجلاً كان بالفعل قد كتب وكتبت عنه مكتبة كتب كاملة، رجلاً حيّر كل كتاب سيرته، وملء العالم قاطبة بشهرته، وكنت أنا، بهذه المناسبة، متهيبًا جدًا”. ويضيف كارش متذكرًا ذلك اللقاء، “نظر تشرشل إلى كاميرتي كما لو أنه كان ينظر إلى عدو ألماني”، و”بالغريزة، قمت بإزالة السيجار من فمه. وفي هذه اللحظة ازداد عبوس تشرشل عمقًا، كان رأسه مدفوعًا إلى الأمام على نحو قتالي، وقد وضع يده على وركه في موقف ينم عن الغضب”. وتشرشل الذي أحس هو نفسه بأنها كانت صورة رائعة، قال لكارش وقد تغير مزاجه فجأة، “بإمكانك حتى أن تجعل من أسد يزأر يقف ساكنًا ليُصوّر”، وقد دفع هذا التشجيع كارش إلى أن يلتقط له صورة أخرى، وهو جالس. وترتب على تلك الواقعة التقاط ذلك البورتريه الشهير جدًا لتشرشل وعلى وجهه ذلك التعبير العدواني الغاضب كمتحد لا يقهر، وأصبح البورتريه من أكثر صور رئيس الوزراء البريطاني انتشارًا في وقتذاك وحتى يومنا هذا. وقد اعترف تشرشل نفسه بعد ذلك بجمال وروعة ذلك البورتريه، الذي استخدم آنذاك على طوابع البريد في ستة على الأقل من بلاد الكومنولث. فقد أصبحت صورة تشرشل تلك رمزًا لروح زمن الحرب والشعب الإنجليزي الذي لا يقهر.
جعل البورتريه الخاص بتشرشل من كارش مصورًا فوتوغرافيًا مشهورًا، وموهوبًا في التقاط البورتريهات على وجه التحديد. كان كارش يعرف أنه قام بعمل ممتاز، لكنه في ذلك الوقت لم يكن يعرف كيف يقوم بتسويقه. طلب نصيحة من ب. ك. ساندويل، ناشر مجلة “مساء السبت” الكندية الشهيرة. لكن كل ما نصحه به ساندويل وقتها هو أن يحصل لنفسه على وكيل لتسويق أعماله. وسواء عمل كارش بنصيحته أم لا، فقد تمكن من بيعها في النهاية بنفسه إلى مجلة من أشهر المجلات الأمريكية وهي مجلة “لايف”، التي نشرتها لأول مرة في صفحة داخلية من المجلة، ثم بعد ذلك كغلاف في 21 مايو 1945. ودفعت المجلة لكارش عن الصورة مبلغ سخي وقتها بلغ 100 دولار أمريكي. وكان لصدور الصورة على الغلاف الأمامي للمجلة أثره البالغ في التفات العالم إلى اسم كارش كمصور فوتوغرافي قدير.
أثناء الحرب العالمية الثانية، وبناء على طلب من الحكومة الكندية، ذهب في رحلة عبر الأطلنطي من أجل التقاط سلسلة من البورتريهات الفوتوغرافية لعدد من الشخصيات البارزة في تلك الفترة. وبالفعل انطلق كارش لتصوير كبار الشخصيات في بريطانيا زمن الحرب وغيرها من البلدان، وكان من بين من قام بتصويرهم الجنرال مونتجمري، والجنرال إيزنهاور، جورج السادس، ونويل كاوارد، ويليام تمبل، كبير أساقفة كانتربري. إتش. جي. ويلز، برنارد شو. وتمكن كارش في رحلته التي استغرقت 60 يومًا من التقط 43 بورتريهًا، أصبحت فيما بعد نواة لكتالوجه الأول “وجوه القدر”. بعد بورتريه تشرشل أدركت الشخصيات المشهورة أنه المصور الذي يعتمد عليه في إبراز جوهر شخصياتهم، وبعدما كان كارش في السابق هو الذي يتهافت على الذهاب إليهم أو دعوتهم إلى الاستديو الخاص به بغية تكوين مجموعته الخاصة لبورتريهات المشاهير تغير الأمر وأصبحوا هم من يتوقون إلى الانضمام إلى مجموعته المتميزة التي ضمت صفوة مشاهير القرن العشرين والواحد والعشرين.
وكان كارش يقول على سبيل الدعابة فيما يتعلق بأفضل صورة التقطها، “أفضل صورة، ربما تلك التي سألتقطها غدًا”. ويعتبر كارش البورتريه الخاص برئيس الوزراء البريطاني تشرشل من بين ثلاث بورتريهات محببة إلى قلبه، والبورتريه الثاني لجورج برنارد شو، والثالث لإلينور روزفلت.
قدم لنا كارش على مدار 65 سنة من حياته المهنية، متحفًا ضخمًا من الصور الفوتوغرافية المتميزة والعديد من وجوه المشاهير في بورتريهات رائعة لهم، وقد صوَّرَ كارش على مدار تاريخه المهني أكثر خمسة عشر ألف شخصية شهيرة، من ملوك، ورؤساء، وسياسيين، وفنانين، وموسيقيين، وكتاب، ونحاتين. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ماكينزي كينج، ونستون تشرشل، دبليو سومرست موجهام، مارثا جراهام، إيرنست هيمنجواي، تشارل دي جول، بيتر لور، روبرت بوردين، يوري جاجارين، جووف إف. كندي (الذي ظهر البورتريه الخاص به على غلاف مجلة لايف)، ألبرت أينشتاين، مارتن لوثر كنج، جورج واشنطن، مارشال ماك لهان، نورمان شوارزكوف، نيلسون مانديلا، بيل كلنتون، هيلاري كلنتون، إلينور روزفلت، ألبرتو جياكومتي، هيلين كيلر، بابلو بيكاسو، فرانسوا مورياك، جان كوكتو، يوهان سبيليس، الملكة اليزابيث، فيدل كاسترو، نيكيتا خورشوف، شارلي شابلن، دانيال روبنشتين، كلارك جيبل، أدوري هيبورن، آنا مانياني، صوفيا لورين، جريس كيلي، هامفري بوجرت، خوان ميرو، آنيتا إكبيرج، وجميع الباباوات (باستثناء يوحنا بولس الأول الذي لم يعمر طويلا)، جيمي كارتر، رونالد ريجان، الشاعر روبرت فروست، الملك فيصل، وغيرهم الكثير ممن خلدتهم عدسة كارش، وجعلت من وجوههم بمثابة أيقونات للقرن العشرين، محفورة في الذاكرة وخالدة إلى الأبد.
وعلى الرغم من شهرته في التقاط صور البورتريهات الشخصية على وجه الخصوص، إلا أن كارش عمل على عدة أنواع أخرى من الصور. وتضمنت أعماله صورًا لعدد من المدن الكندية، وأخرى لعمال المصانع، وأخرى استخدمت كأغلفة للمجلات وأخرى ذات أغراض دعائية لبعض الشركات مثل “كوداك”. وبورتريهات كارش مشهورة بدقتها ووضوحها الشديد ومادتها الغنية. وصوره، الملتقطة في الغالب بكاميرا مقاس 8 × 10 بوصة، توازن بشكل هارموني متجانس بين الضوء والظلام، وبين الشكل والمكان. وقد اتحدت معرفة كارش وحساسيته نحو الموضوعات التي يقوم بتصويرها بمهارته التقنية الرائعة وسمحت لنا أن نرى بعض شخصيات عصرنا المتميزة بشكل وثيق. وقوة بورتريهات كارش تكمن في حقيقة أنها ذكريات تكشف عن شيء ما خاص بطبيعة عصرنا والمشاهير الذين ينتمون إليه.
وكان كارش أول مصور فوتوغرافي يقام لصوره معرضًا خاصًا بمفرده في كندا. وذلك في عام 67 تحت عنوان “أناس صنعوا عالمنا”، وكان معرضًا ضخمًا ضم أكثر من مائة بورتريه، وطاف المعرض أرجاء أوروبا وأمريكا الشمالية.
كما نشر كارش أيضًا العديد من الكتالوجات لبورتريهاته الفوتوغرافية لاعتقاده بأن عرضها معًا مجتمعة في كتاب مسلسل يعطي الصور قوة دفع بصرية لا يستطيع البورتريه الوحيد بمفرده أن يعطيها. وكان أول كتاب له صدر تحت عنوان “وجوه القدر” 1946. وفي كل مجموعة ضمها الكتاب كانت البورتريهات مصحوبة بنص مكتوب بقلم كارش بناء على الجلسة والحوار الذي عقده كارش مع الشخصية الملتقط لها البورتريه. وعلى الرغم من أن معظم شخصيات كارش كانت من المشاهير إلا أنه قال ذات مرة، “أحب تصوير الأرواح العظيمة، سواء كانت لمشاهير أو لأناس متواضعين”.
وفي هذا الكتاب، “وجوه القدر”، شرح لنا كارش أن هدفه كمصور فوتوغرافي للوجوه كان القيام بتصوير بورتريهات للمشاهير “بالطريقة التي يبدون لي بها”. كما أصدر كارش بعد ذلك مجموعة أخرى من الصور الفوتوغرافية في كتالوج حمل عنوان “بورتريهات العظمة” عام 1959. وبعد ثلاث سنوات، في عام 1962، نشر كارش سيرته الذاتية تحت عنوان “بحثًا عن العظمة”.
وفي عام 1984، نشر كارش كتالوج آخر له تحت عنوان “كارش، أساطير أمريكية”، وضم ثلاثة وسبعين بورتريهًا لشخصيات أمريكية شهيرة من الرجال والنساء في منازلهم. مثل ليونارد بيرنشتين، وبيل وهيلاري كلينتون، ونورمان شوارزكوف وغيرهم. وبعد صدور ذلك الكتالوج الذي غطت صوره الفترة من 1989، وحتى عام 1991، أغلق كارش الاستديو الخاص به في فندق “تشاتيو لورير”، قرب تل البرلمان في العاصمة أوتاوا وهو في الثالثة والثمانين من عمره، في عام 1992، بعد ستين عامًا على افتتاحه. وتقاعد عن العمل في نفس العام. وغادر بعدها أوتاوا للاستقرار في نيويورك حيث توقف عن قبول أية طلبات للتصوير، وأعلن “الآن لن أصور إلا الناس الذين أرغب في تصويرهم فقط”.
وفيما يتعلق بطرقه أو أساليبه في العمل، أكد كارش على حاجة المصور الفوتوغرافي إلى التآلف: “في البورتريه الناجح للشخص الذي يجلس للتصوير يجب على المصور أن يكون مستعدًا ومتسلحًا بالمعرفة قدر ما يستطيع عن الشخص الذي يصوره حتى يصبح التآلف الفوري مدركًا، لأن القلب والعقل هما العدسة الحقيقية للكاميرا”. وكتب كارش عما يؤمن به من لحظة صدق أثناء التصوير قائلا: “هناك لحظة قصيرة، يكون فيها عقل الإنسان وقلبه وروحه منعكسة في عينيه، ويديه، ووضعه الجسماني. هذه هي لحظة التقاط الصورة، اللحظة الجديرة بالتسجيل، هذه هي “لحظة الصدق” المحيرة والمراوغة”. كما كتب أيضًا “أنا مقتنع بأن ذلك لن يخدم أي غرض لو حاولت عن عمد تحويل ما يبدو أنه بورتريه عن العظمة إلى لحظة ضعف. مثل هذه اللحظات غير جديرة بالتسجيل”. وهذا يوضح أن عمل كارش كان يعتمد أيضًا ليس على موهبته وحرفيته فحسب بل على الشخصية التي يصورها أيضًا ومدى تعاونها معه في خلق البورتريه المراد. وقد وظف كارش في براعة كل ما يتعلق بلغة التصوير من إشارات اليدين، وحركات الوجه، ولغة الجسد وحركاته وإيماءاته، واتجاه تحديق العينين، لينقل لنا في وضوح وبشكل مترابط منطقيًا الرسالة المتعلقة بنوع البطل الذي يتم تصويره. وعبر الإضاءة والتأثيرات التي تخلقها، استطاع أن يبرز ويسرد قصة الشخصية صاحبة البورتريه وأهم سماتها. ولذلك نجد صور السياسيين الذين قام بتصويرهم يبدون لنا كأولياء سياسيين، إن جاز التعبير، فوجوههم محاطة بهالة من الضوء الذي أسبغ عليهم صفة دينية. كما كان كارش يراعي أن يبرز لكل شخص ما يناسبه وما يلائمه فالممثلين المسرحيين كانت تأخذ لهم لقطات حية بالملابس الخاصة بالأدوار، وكذلك بعض الأدباء، مع كتاب أو بنظارة القراءة، والموسيقيين مع آلاتهم، والرسامين والنحاتين مع نماذج من أعمالهم.
قال رولان بارت ملاحظًا: “إن مصوري البورتريهات العظام هم علماء ميثولوجيا عظماء”. وهذا القول ينطبق على كارش تمامًا، الذي تعتبر صوره الفوتوغرافية وبخاصة البورتريهات بمثابة طبقات طبوجرافية لعصرنا إن جاز التعبير. ولذلك فقد كانت جديرة بوضعها على الطوابع والعملات، وفي المجلات على الأغلفة وكصور مصاحبة للموضوعات في الداخل، وفي المطبوعات والمؤلفات الخاصة، وغيرها من وسائل الدعاية والإعلام.
وكان الفنان يفضل تصوير الناس في بيئتهم الخاصة بهم ويحاول أن يعرف قدر الإمكان من يصوره قبل أن يشرع في جلسة التصوير. بينما يستعد كارش للتصوير، كان يشرع بقدر المستطاع في القراءة عن الشخصية قبل إجلاسها للتصوير، لكنه كان يتجنب كما يقول: “امتلاك أية فكرة مسبقة عن الكيفية التي سأقوم من خلال بتصوير أية شخصية”. بل وكان يسعى في دأب كما كتب، “لأسر العنصر الأساسي الذي جعل منها شخصيات عظيمة”، ويشرح الأمر بطريقة أخرى قائلا: “كل ما أعرفه هو أنه بداخل كل رجل أو امرأة سر خفي، ومهمتي كمصور إماطة اللثام عنه إن استطعت”.
في حياة أي مصور فوتوغرافي لحظات من السعادة والكآبة التي من الطبيعي أن يمر بها أي شخص يزاول أي عمل كان، لكن ماذا عن طبيعة مثل هذه اللحظات بالنسبة لمصور كبير يتعامل مع المشاهير ورجال الصفوة في المجتمعات؟ من أكثر اللحظات الكئيبة بالنسبة لكارش كانت عندما ذهب لتصوير ألبرت أينشتاين الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921، في جامعة برنستون في عام 1948. وكان العالم آنذاك تعتريه المخاوف من خطر القنبلة الذرية والتوترات القائمة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، سأل المصور الفيزيائي الفائز بجائزة نوبل ما الذي يمكن أن يعنيه كل هذا للعالم. فقال: “لن نصبح قادرين على الاستماع إلى موسيقا موزار لو لم نحتفظ بعقولنا”، وقال كارش متذكرًا، “كان أينشتاين محبطًا بشدة من المشهد العام آنذاك”.
لكن من بين الصور التي تحدث عنها كارش بإعجاب شديد إلى درجة الافتتان كانت تلك التي التقطها في نفس العام لهيلين كيلر، “قبلتها على جبينها، فاعتراها الخجل واحمرّت كالأطفال. ثم وضعت يديها على وجهي وقالت لي، “إنني أصورك الآن بلمساتي”، كانت تلك اللحظة من بين أكثر اللحظات تأثيرًا في حياتي”.
كان كارش يقول إن أهم درس تعلمه مبكرًا في حياته المهنية أن “فن” التصوير الفوتوغرافي كان اتحادًا أو مزيجًا من “الملاحظة” و”الحدس”. ومن بين الصور الأخيرة التي التقطها كارش قبل تقاعده عن الحياة المهنية تلك التي لنيلسون مانديلا، والرئيس بيل كلينتون بعد وقت قليل من انتخابه في نوفمبر من عام 1992. ومن أكثر الأشياء التي شعر كارش بالأسف عليها فيما يتعلق بمهنته، عدم سماح الظروف له بتصوير الرئيس ماو.
كان ليوسف أخ أصغر يدعى، مليك، مات في الثامن من نوفمبر 2001، في السادسة والثمانين. وكان مليك يعمل في التصوير الفوتوغرافي أيضًا، وكان مصورًا ناجحًا جدًا، وبصفة خاصة في كندا، لكنه لم يكن متخصصًا في البورتريهات الشخصية. قال مليك عن كارش في حوار له: “الناس يعرفون أن ثمة أستاذ بينهم وهم يدركون هذه الفرصة ويقدرونها حق قدرها. وهم أعطوه… ما كان بحاجة إلى أن يعرفه عنهم ولذلك تمكن من جعلهم يبدون في أفضل ما يكونوا”.
كتب كارش: “الإعجاب المستمر الذي لا نهاية له بهؤلاء الناس يكمن بالنسبة لي في ما أسميه بقوتهم الداخلية. إنه جزء من السر الخفي المراوغ المختبئ في الجميع، وعمري المهني كله قضيته في أسر هذا السر على الفيلم. القناع الذي نقدمه ونظهر به للآخرين و، كثيرًا جدًا، لأنفسنا، قد يزول للحظة فسحب- كاشفًا عن تلك القوة في إشارة غير واعية، أو حاجب مرفوع، أو رد فعل ينم عن الدهشة، أو لحظة استرخاء. هذه هي لحظة الجديرة بالتسجيل”.
كان معروفًا عن كارش أنه يقوم بتحميض صوره مستعينًا بمساعدين، وكان يوقع صوره بالحبر الأسود على الواجهة، وعادة ما كانت تدمغ أو تختم بختم الاستديو في الخلفية، بعد أن كانت صوره المبكرة يتم توقعيها بالحبر الأبيض على الصورة نفسها.
وقد أقيم لكارش الكثير من المعارض في كندا، وبريطانيا، وأستراليا، والصين، وأمريكا. وقد بلغ إجمالي عمله، 370 ألف نيجاتيف تقريبًا، و12 ألف شريحة ملونة، وخمسين ألف مطبوعة أصلية.
تحصّل الأرشيف القومي الكندي في 1987، عندما بلغ كارش من العمر ثمانين عامًا تقريبًا، على ما يزيد عن 370 ألف نيجاتيف، وتقريبًا 17 ألف بورتريه تقريبًا، صورها كارش على مدار ستة عقود، والكثير من المطبوعات والصور الخاصة به التي تغطي الفترة ما بين 1933 و1987. وكذلك كل ما يتعلق ب مقتنياته من الصور الفوتوغرافية، والأعمال الفنية، والأوراق الشخصية، والرسائل الخاصة، وسجلات القصاصات، والجوائز والأوسمة، والمقابلات المسجلة. كما تبرّع كارش أيضًا بمئة صورة تقريبًا إلى “الجاليري الوطني الكندي”، الذي سمح له في عام 1960 بالقيام بأول معرض له بمفرده. وقد خصصت إحدى الحجرات في “معرض البورتريه القومي الكندي”، عندما افتتح عام 2005، لتعرض فيها صور كارش. كما اقتنى متحف العلوم والتكنولوجيا في كندا كل معدات وأدوات التصوير الخاصة بكارش.
وصور كارش مقتناه من قبل الأرشيف الوطني الكندي، ومتحف الفن الحديث، ومتحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك، ومعهد شيكاغو للفنون، والمعرض القومي للبورتريه في لندن بإنجلترا، ومتحف سانت لويس وجورج إيستمان في روشيستر. وقد أنعمت عليه ثماني جامعات بدرجات شرفية مختلفة، وكان أستاذًا زائرًا في مدرسة الفنون الجميلة في جامعة أوهايو. وقد منح في عام 1965ميدالية الخدمة من الحكومة الكندية. وكان أول مصور يتلقى أول ميدالية من الأكاديمية الملكية للفنون، وأول من نال درجة الأستاذية الشرفية للفنون الفوتوغرافية من المصورين المحترفين في كندا. وهو زميل فخري للمجتمع الفوتوغرافي الملكي لبريطانيا. وانتخب في 1975 رئيسًا للأكاديمية الفنية الملكية للتصوير الفوتوغرافي.
وقد توفي المصور الفوتوغرافي الشهير يوسف كارش إثر مضاعفات أعقبت عملية جراحية أجريت له في شهر يونيو عام 1997لإيقاف نزيف في الأمعاء، في ماساتشوسيتس، في بوسطن.