بعد غيات ست سنوات، عادت السينما المصرية مرة أخرى للاشتراك في مُسابقة مهرجان “كان” السينمائي الدولي في دورته الحادية والسبعين (8 – 19 مايو/أيار 2018)، التي انتهت فعالياتها قبل أيام قليلة. قد خرج فيلم “يوم الدين” (2018)، للمُخرج الشاب أبو بكر شوقي، دون أي جائزة من جوائز المهرجان الكبرى، وإن نال جائزة فرعية تحمل اسم “فرانسوا شاليه”. وهي جائزة تُمنح للأعمال التي تُكَرِّس قيم الحياة والصحافة. والجائزة التي تُمنح مُنذ عام 1997، هي تكريم لاسم الصحافي والمُؤرخ السينمائي الفرنسي المعروف “فرانسوا شاليه”.
كان اشتراك فيلم “يوم الدين” من الأحداث السارة والمُفاجئة في دورة هذا العام بالمهرجان، وذلك على أكثر من مستوى، أهمها، أن الفيلم هو الروائي الأول للمُخرج أبو بكر شوقي –مواليد القاهرة عام 1985، وأنجز من قبل بضعة تسجيلية أفلام قصيرة – ومن النادر جدًا في تاريخ المهرجان أن يشترك العمل الأول لمُخرج ما في المُسابقة الرسمية للمهرجان.
بالطبع، مُقارنة بالأفلام المصرية السابقة التي اشتركت في تاريخ المهرجان، يستحق فيلم “يوم الدين”، وعن جدارة، أن يكون ضمن المُسابقة الرسمية. وإن كانت برمجته مع أكثر من عشرين فيلمًا من عدة بلدان ومدارس سينمائية مُختلفة، ووسط أسماء لامعة لمُخرجين مُخضرمين لهم ثقلهم وتاريخهم السينمائي، قد ظلمته بعض الشيء. لكن بالتأكيد، لم يقل الفيلم أهمية وعمقًا وفنية عن مستوى غالبية الأفلام التي عرضت بالمُسابقة، ويُمكن القول أن مستواه فاق العديد منها. من بين مُميزات وأماكن القوة بالفيلم، اقتربه من منطقة يندر الاقتراب منها. وخوضه في منطقة جد شائكة وحساسة ومُثيرة للقلق، وذلك بجرأة وحساسية مُرهفة، غير مكترث لمُتطلبات السوق أو الذوق السائد أو حتى رد فعل الجمهور، الذي سيصدمه موضوع الفيلم وأبطاله، بالتأكيد.
يمكن القول، مع بعض التجاوز، أن فيلم “يوم الدين” يُعتبر من الأفلام الصادمة، على أكثر من مستوى. الموضوع والتناول والشخصيات وأماكن التصوير إلى آخره. لدرجة تُمكن معها مُقارنته بفيلم “المومياء” للمُخرج الرائد والمُجدد “شادي عبد السلام”. بالطبع، لا توجد مُقارنة بالمرة بين مُستوى وقصة وشخصيات وشكل الفيلمين، لكن المُقارنة هنا تكمن أساسًا في جمالية وجرأة الاقتراب من مناطق مُغايرة وغير مطروقة في تاريخ السينما المصرية والعربية. صحيح أن هناك من تناول العشوائيات والمُهمشين والطبقات المسحوقة، لكن تناول أبو بكر شوقي أوغل بنا بعيدًا عن كل ما شاهدناه من قبل.
بقدر لافت من السحر والبساطة والعمق أيضًا، دون الانزلاق إلى المليودرامية أو غيرها من أكليشيهات السينما المصرية والعربية، نسج أبو بكر فيلمه. قصة الفيلم، وطريقة التناول والطرح، تبرهن على أن المُخرج له رؤية مغايرة. يفهم تمامًا دور السينما، ويُدرك خطورة وأهمية ما يُمكن أن يطرحه من خلالها. بالتأكيد، يصعب فقط عبر العمل الأول للمخرج تبين جل قُدراته الفنية والسينمائية والفكرية والفلسفية، لكن يُمكن بالطبع تلمس توجهه، والكيفية التي يُفكر بها ويرى السينما والعالم من خلالها.
تقديم مرضى الجذام أو غيرهم من ذوي الإعاقة الجسدية، عادة ما يكون هامشيًا، ونادرًا ما شغل مساحة من تاريخ السينما في عالمنا العربي. أهمية “يوم الدين” أنه يُفرد المساحة الأكبر لهؤلاء. يجعلهم أبطاله، يربطنا بهم، ويُقرِّبنا منهم. نُشاركهم أفراحهم وأتراحهم، نكتشفهم، وندخل إلى عوالهم التي لا ندري عنها أي شيء. نتبين أنهم كبشر لا يقلوا عنا بالمرة، باستثناء المرض، وفي النهاية، لفرط إنسانيتهم وملامستهم لنا، نتوحد معهم. وشيئًا فشيئًا، يسقط الحجاب أو الحاجز الذي وُضِعَ، لأسباب كثيرة، بينا وبينهم، وحال دون رؤيتنا السلمية لهم. وهو ما حدث بالضبط مع اقتراب الفيلم من نهايته.
بعد الوفاة المُفاجئة لزوجة “بشاي” (راضي جمال) مريض الجزام، داخل مُستشفى الأمراض العقلية، ومجيء والدة زوجته وقد اعتصرها الحُزن والألم لزيارة قبرها، بعدما تركتها وأهملتها طويلا، تُؤرق “بشاي” فكرة العثور على أسرته، لدوافع كثيرة، أبرزها خشيته من الموت وحيدًا منبوذًا، أكثر مما هو. بتعرفنا على بشاي وعالمه والمُحيط من حوله، نقف على العلاقة الإنسانية الجميلة التي تجمع بين بشاي والطفل “أوباما” (أحمد عبد الحافظ). إنها علاقة بها بعض التكامل، فبشاي لم يُنجب، وأوباما يتيم، يعيش في دار للأيتام تقع بنفس المُحيط الذي يتحرك فيه بشاي، حيث مُستشفى الجُذام في منطقة “أبو زعبل”، على أطراف القاهرة.
ومن ثم، نجد بشاي ذات يوم، وقد خلت الدنيا من حوله، ينطلق في رحلة إلى مسقط رأسه للبحث عن أسرته. عاش بشاي حياتها كلها بتلك المنطقة، حيث العمل في جمع وفرز القمامة، ولم يخرج منها أبدًا. ومع ذلك، لم تُرهبه الفكرة. وبقدر شديد يجمع بين البراءة والسذاجة، يأخذ عربته الكارو وحماره “حربي”، وبعض المُمتلكات التي خرج بها من الدنيا، وينطلق في طريقه. في البداية، يُحاول إثناء أوباما والتخلص منه بقسوة لم نعهدها فيه، فالطفل انتبابته رغبة صادقة في مُصاحبة بشاي في رحلته، وأيضًا، مُحاولة العثور على أهله والتخلص من الحياة في الملجأ، بكل ما فيها.
في الرحلة، كأي فيلم من أفلام الطريق أو الرحلات التي تمتد بطول الفيلم، يُصادف الأبطال، بشاي وأوباما وحربي، الكثير والكثير من الصعاب والمخاطر، التي لا تُثنيهم في النهاية عن إكمال رحلتهم والوصول إلى هدفهما. وبصرف النظر عمّا حملته تلك الرحلة، ونهايتها، فقد تعرَّف خلالها الثنائي، بعد نفوق الحمار، على العالم بمعناه الواسع لأول مرة. على الحياة وقسوتها وانعدام إنسانية الكثير من البشر. لكنهما، بالأساس، وهذا هو أجمل ما فيلم الفيلم وأعمقه، تعرفا على ذاتيهما، وتلمَّسا حدود عالمهما، اللذين كانا يجهلان مدى رحابته وتسامحه وإنسانيته. ولذا، يتحرران، وبكامل إرادتهما. ويقرران، مع نهاية الفيلم، إلى أي عالم ينتميان ويرغبان في إكمال حياتهما.
دون شك، بالفيلم الكثير من نقاط القوة والضعف، لكن نقاط القوة طغت على بعض الهنات هنا وهناك. سواء كانت متعلقة ببعض المواقف غير المقنعة، مثل اكتشاف بشاي فجأة لاختباء أوباما تحت متعلقاته بالعربة الكارو. أو، فيما يتعلق ببعض الجمل الحوارية، التي جاءت على قدر كبير من المباشرة والخطابية، وأفسدت ما تم، وما كان ممكنًا، التعبير عنه سينمائيًا. بخلاف هذا، يحسب للمخرج أبو بكر شوقي جرأته في توجيه هواة يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، وبخاصة أداء (راضي جمال)، البالغ الإنسانية والرقة والعفوية، وتوظيف قسمات وجهه بمهاراة للتعبير عما يجيش في نفسه، رغم إصابته بالجذام.