إلياس حموي – سوريا
وُلِدَ الفنان الهولندي يُوهانس فيرمير (1632 – 1675) في مدينة دلفت، لأب يملك فندقًا صغيرًا، ويعمل نساجًا، وتاجرًا للتُحف. مِهن ورثها عنه ابنه يُوهانس، لاحقًا، بعد وفاته. تعلم فيرمير الرسم على يد القس الكاثوليكي والمحامي ليونار برامر، وتدرب في مرسمه لعدة سنوات، وتأثر في البداية بالرسام الكبير رامبرانت (1606 – 1669).
في عام 1653، تزوج يُوهانس فيرمير (Johannes Vermeer) الشاب من كاثرينا بولس، وأنجب منها أربعة عشر ولدًا، تركهم بعد وفاته غارقين في الديون، هم وأمهم. ما سيضطر الزوجة إلى بيع اللوحات التي كان قد تركها فيرمير بأبخس الأثمان من أجل لقُمة العيش. وقد عُرِفَ عنه أنه لم يبع عملاً واحدًا في حياته، وإنما كان يُقايض لوحاته مُقابل تسديد الديون التي تراكمت عليه.
وقد ظل الغموض يلف حياة فيرمير، ولم يذكر اسمه سوى في سجلات نقابة فنانين دلفت، التي انتسب إليها عام 1653، وترأسها لمرتين، وذُكِر أيضًا أنه لم يُسدد اشتراكاته لها. ومن ذلك، نُلاحظ أن فيرمير الرسام الموهوب عاش في ضائقة مادية دائمة. وبالاضافة إلى ذلك، فإنه لم ينل نصيبه من الشُهرة إلا بعد قرنين من وفاته. حيث أصبحت لوحاته تباع بأسعار باهظة، وتنال اهتمام النقاد والفانين.
ورغم عشرات اللوحات التي رسمها فيرمير إلا أن شهرته مُرتبطة بلوحته “الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” (1665)، المُلقبة بـ”موناليزا الشمال”. واللوحة لفتاة مُبتسمة، ترتدي عمامة عربية زرقاء، وتضع في أذنها قرطًا من اللؤلؤ. وقد ظل الغموض والتكهنات حول هوية هذه الفتاة حتى يومنا هذا. منهم من اعتبرها خادمة كانت تعمل في منزل الرسام، دفعها مرض والدها للعمل عنده فاختارها فيرمير مُوديلاً للوحته هذه، وقد ألبسها قرط زوجته وملابسها. وبعدها، أصبحت عشيقته لاحقًا، وقام بتعليمها فن الرسم لكي تصبح مساعدته. ومن أصحاب هذه الفرضية الروائية الأميركية تريسي شوفاليه التي ألفت رواية عنها بعنوان “الفتاة ذات اللؤلؤ”. تحولت لاحقاً إلى فيلم سينمائي من إخراج بيتر ويبر، وبطولة “سكارليت جوهانسون”.
أما الإعتقاد الثاني، وهو لعدد من الباحثين والنقاد الأوربيين، فيذهب إلى أن هذه الفتاة ليست سوى ابنة من بنات فيرمير. نظرًا لأن من يعرف شخصيته، ويتتبع تاريخه الأسري، يستبعد أن تكون له عشيقة، لكونه رب أسرة مُلتزم، يحب زوجته كثيرا، وأنجب منها إحدى عشر ولدًا وبنتًا.
التلصص والمُفاجأة ثيمتان لأعماله:
إن المُتأمل للوحات يُوهانس فيرمير يُلا حظ دائمًا أن هناك شخصًا يُراقب الشخصيات المرسومة، وكأنه مُصورًا فوتواغرفيًا يُباغت الشخصية ليلتقط لها لحظة فعل عفوي. مثلا، لوحة “فن الرسم” أو لوحة “فتاة تقرأ رسالة عند نافذة مفتوحة”. وفي الوقت نفسه، نرى أن من هذه الشخصيات التي تفاجأت بحضور شخص ما وهي تقوم بعمل معين. مثلا، لوحة “سيدة تعزف على البيانو” و”الفتاة مع كأس النبيذ”. كما نُلاحظ أيضًا أن المكان يُضاء من نافذة وحيدة، قام فيرمير برسم مُعظم شخصياته بقربها! كما أن الغرفة التي توجد بها تلك النافذة استخدمت كلوكيشن أو موقع واحد لرسم مُعظم الشخصيات، على تنوع اهتماماتها وأفعالها.
أيضًا، نُلاحظ اهتمام فيرمير بتكوين اللقطات، وتنوع احجامها، وتوزيع الإضاءة. ومن هنا، جاء لقب سيد الضوء. ويظهر ذلك جليًا في لوحته الشهيرة “الضابط والمرأة الضاحكة”، إذ نرى ظهر الظابط الذي يجلس في الظل، دلالة على غموض الشخصية أو رفعتها، بينما الفتاة تجلس قبالة النافذة التي يأتي منها الضوء مُبتسمة، والسعادة ظاهرة على وجهها. وكأنما الكاميرا وضِعَت خلف ظهر الظابط في لقطة تسمى over shut. فنشعر أن رسَّامنا سينماتوغرافيًا، سبق اختراع السينما بقرنين. كما أن المُدقق في وجوه النساء المرسومة في لوحاته يُلاحظ تشابهًا كبيرًا بينها. وفي أكثر من لوحة، كأنه وجه لامرأة واحدة يرسمها في كل مرة بوضع وزي مُختلفين.
مشهد من دلفت:
لم يخرج يُوهانس فيرمير من الاستوديو الخاص به إلا لرسم لوحتين فقط، هما “الشارع الصغير” و”مشهد من دلفت” 1661. مدينته التي أحبها، وترعرع فيها. وهي عبارة عن مشهد عام لميناء المدينة الصغير التي ترسو به بضعة سفن، وامرأتان تتحدثان، وعدة أشخاص يقفون على رصيف الميناء، والغيوم تملأ السماء. وتُعتبر هذه اللوحة من أجمل لوحاته، وذاع صيتها بعد أن تناولها الروائي الفرنسي الكبير مارسيل بروست في الفصل السادس من روايته الشهيرة “البحث عن الزمن المفقود”. حيث اعتبرها بروست إحدى أجمل اللوحات في العالم. إن لم تكن أجملها. ويبقى فيرمير من أجمل الفنانين الذين عرفهم التاريخ، والأكثر غموضًا في أعماله، بعد ليوناردو دافنشي.