محمد هاشم عبد السلام
يُعد الممثل الفرنسي الموهوب فنسان لاندون من أهم وأبرز الممثلين المعاصرين في تاريخ في السينما الفرنسية الحديثة، والمعروف بقدراته ومهارته وبراعته في أداء أدوار متنوعة ومركبة وبالغة التأثير. وذلك على مدى مسيرة مهنية تمتد لأكثر من أربعة عقود. استطاع خلالها لاندون مراكمة سمعة فنية طيبة، وترسيخ نفسه في المجتمع الفرنسي والأوساط الفنية والثقافية، كممثل صاحب ثقافة عالية، وشخصية احترافية محترمة وصارمة ومسؤولة. والأهم، أنه صاحب اختيارات فنية واعية، ويتحلى بمُثل ومبادئ والتزامات مهنية وأخلاقية لا يحيد عنها، ولا يقبل التنازل أو المساومة بشأنها.
وُلد فنسان لاندون في 15 يوليو/ تموز عام 1959، ونشأ في عائلة مغرمة بالفنون، رغم أن والده، لوران لاندون، كان رجل أعمال، بينما كانت والدته أليكس دوفور تمارس الصحافة. مع ذلك، شق لاندون طريقه إلى عالم التمثيل من خلال شغفه بالفنون الدرامية. إذ بعد تخبط لفترة في دراسة التجارة، والعمل في أكثر من مجال بالدعاية والإعلان والإذاعة والصحافة، قرر دراسة المسرح في إحدى مدارس الدراما الخاصة المرموقة في باريس، مدرسة ”فلوران“، حيث صقل العديد من نجوم السينما الفرنسية مواهبهم الفنية.
انطلاقته الفنية
أنطلقت مسيرة النجم فنسان لاندون السينمائية قبل أربعة عقود، وبالتحديد في عام 1982، في فيلم حمل عنوانه اسم الأديب الفرنسي الكبير ”جي دي مو باسان“ (Guy de Maupassant). الطريف أنه رغم ثانوية الدور إلا أن اسم فانسان لاندون لم يذكر بالمرة في قوائم المشاركين في الفيلم. خلال مرحلة الشباب، قبل وصوله إلى فترة النضج مع مطلع الألفية الجديدة، ظل لاندون يشارك في أعمال متنوعة. سواء في أدوار ثانوية أو مساعدة، في بعض المسلسلات والأفلام القصيرة. وظل يكافح لسنوات طويلة كي يلفت الأنظار إلى قدراته على تجسيد مجموعة من الشخصيات المختلفة والمتنوعة، إلى أن لفت انتباه المخرجين في النهاية. مرحلة استمرت لعقدين تقريبًا، لكن ما من شك أنها صقلت مواهبه وعمقت قدراته وأكسبته الخبرة، وأعدته خير إعداد لانطلاقة جعلته يبرز، وأحيانًا يتسيد الشاشة الفرنسية تقريبًا، عن جدارة واقتدار لسنوات وسنوات، رغم أنه لا ينجز أكثر من فيلم واحد أو فيلمين في السنة.
تعكس مسيرة فنسان لاندون المهنية تطوره السينمائي المتجذر ضمن إطار الأفلام الواقعية، وبالأخص الدراما الاجتماعية السياسية، وأحيانًا النفسية، أو في القليل جدًا من أفلام الكوميديا والتحري والفانتازيا. مبتعدًا عن أنواع سينمائية عديدة لا تتضمن طرح أو تناول قضايا عامة، محلية أو عالمية، وليست على قدر من العمق والفنية، أو غير إنسانية أو أخلاقية الطابع أصلا. من هنا، نلاحظ أنه، منذ أدواره المبكرة وحتى أعماله الأخيرة، أثبت لاندون أنه ممثل يتجاوز التزامه بمهنته مجرد البحث عن النجومية أو حب التألق والظهور. لذا، يظل أداء لاندون المتسم بالهدوء والرصانة، سلعة نادرة وقيّمة تعكس عمق التجربة الإنسانية.
من ناحية أخرى، واللافت جدًا في مسيرته المهنية حتى اللحظة، ومنذ تألق نجمه في التسعينيات ثم تصدره الساحة في مطلع هذا القرن، أن أضواء وبريق وشهر أفلام هوليوود، والسينما الأميركية بصفة عامة، لم تجتذبه كما اجتذبت غيره. بدوره، لم يهتم لاندون بالعمل أو السعي للظهور فيها، مكتفيًا في الأغلب الأعم بأدواره في السينما الناطقة باللغة الفرنسية تحديدًا، وبالعمل مع مجموعة قليلة من المخرجين والمخرجات، الفرنسيين غالبًا.
الإنسان والفنان
طيلة أربعة عقود، عمل لاندون على تنمية قدراته ومواهبه الفنية الفريدة، وكيفية نقل دفقات من المشاعر المعقدة والمركبة بطرق عميقة ومرهفة وصادقة، تعبر بأصالة وعمق وإقناع عما يتعمل داخل مكنونات الشخصيات التي قدمها على امتداد مسيرته الفنية. ولو أخذنا بعين الاعتبار مدى اتساق أغلب الشخصيات التي أداها لاندون وحياته الواقعية، سندرك بسهولة بالغة إنه لا يحاول التمثيل أو الادعاء أو الإقناع، بل هو كذلك فعلا في الحياة الفعلية، ولا يختلف كثيرًا عن شخصياته على الشاشة. إنسان صاحب تَوَجُّه اجتماعي يساري، ومواقف صريحة ومُعلنة مُنحازة لكل ما هو أخلاقي وإنساني سام ونبيل، ومُناصرة الطبقات المسحوقة في المُجتمع الفرنسي، وغيره من المُجتمعات، والتعاطف البالغ مع الضعف البشري عمومًا.
من هنا، يعتبر لاندون من أكثر وأشهر الممثل الفرنسيين المعاصرين احترامًا وتقديرًا ليس لموهبته الفنية فحسب، ولا لاختياراته المتنوعة والذكية والجريئة، بل بالأساس لما تعبر عنه أدواره من هموم اجتماعية وأخلاقية وإنسانية، وما يكمن خلفها من معان وأهداف ووجهات نظر والتزامات يصعب على الكثير تبنيها في الواقع أو حتى في السينما. وسواء قام بدور بطولة أو غيره، فلن يختلف الأمر كثيرًا، إذ ثمة حرص دائم على القيام بالمهام والواجبات والالتزامات، سواء تجاه أفراد الأسرة أو العائلة أو محيطه في العمل، على أفضل وأكمل وجه ممكن. حتى وإن اضطرته الظروف لتخطي عقبات وصعاب ومستحيلات كثيرة، وبذل الكثير من النفس والجهد، والقيام بتضحيات ومخاطر في سبيل من يحب أو ما يعتقد أنه الصواب أو الضروري.
سمات شخصياته وأفلامه
رغم السمات المرتبطة بشخصيته الواقعية، الحاكمة لاختياراته الفنية وتوجهاته الأخلاقية والإنسانية عمومًا، إلا أن أدوار فنسان لاندون الغزيرة تتسم بتنوع شديد، ومن دون أي تطابق أو تكرار. الأمر ليس راجعًا فحسب لاختلاف الشخصيات السينمائية بل أيضًا لبراعة أداء يجيد توظيف نبرات الصوت المتباينة حسب المواقف، واستغلال قسمات الوجه التي تنطق من دون كلمات، وتوجيهات نظرات العيون على نحو مؤثر للغاية، وحاد وقاطع أحيانًا. عبر تلك الأدوات، وغيرها، نستشعر اختلاف الشخصيات، ويجعلنا لاندون نتماهى معها فعلا، ومع عوالمها ومشاكلها، لكن دون أن نشعر بأن ثمة تكرار أو استنساخ أو تطابق ما. ما يجعل مسيرته المهنية ليست ناجحة فحسب، بل شديدة التميز والتفرد. هذا، باعتراف وإشادة النقاد على اختلافهم، وأيضًا حب الجمهور من مختلف الأعمار والأذواق، وتهافت العديد من المخرجين المعروفين، من مختلف الأجيال والمدارس، على العمل معه، وكان من بينهم: كلود لولوش، وستيفان بريز، وجوليا دو كورنو، وكلود سوتيه، وكلير دينيس، وبينوا جاك.
ترشيحات وجوائز
خلال حياته المهنية العريضة التي تكاد تقترب من نصف قرن، وبرصيد يتجاوز الثمانين فيلمًا، ترشح لاندون وفاز بجوائز وتكريمات عديدة، محلية ودولية. وهذا، رغم المنافسة الشرسة للغاية بينه وبين مواهب كثيرة جدًا سواء في السينما الفرنسية أو الأوروبية أو العالمية. ولو أخذنا في الاعتبار مدى الأدوار الملتزمة للغاية، اجتماعيًا وسياسيًا وأخلاقيًا، التي يؤديها لاندون من ناحية، وعدم انفتاحه على السينما العالمية والتمثيل في الأفلام غير الفرنسية أو أفلام النجوم وهوليوود وغيرها من الأعمال التجارية الذائعة من ناحية أخرى، لأدركنا جيدًا مدى صعوبة الترشيحات وجدارته بالجوائز التي حصل عليها حتى الآن.
ونذكر منها، ترشحه لجوائز فرنسية عديدة مرموقة، أبرزها ”سيزار“ التي ترشح لها خمس مرات منذ التسعينيات، وحصل عليها مرة عن دوره في فيلم ”قانون السوق“ (La loi du marché) لاستيفان بريز عام 2016. وقد ترشح عن نفس الدور لـ“جوائز السينما الأوروبية”، وكان قد سبق ونال عنه جائزة ”أحسن ممثل“ في ”مهرجان كانّ السينمائي الدولي“، أيضًا. وقد ترشح لـ“جوائز السينما الأوروبية” مرة ثانية عن فيلم ”تيتان“ (Titane) لجوليا دو كورنو عام 2021.
أما أحدث الجوائز المرموقة التي حصل عليها لاندون، فكانت ”كأس فولبي لأحسن ممثل“ في الدورة الـ81 لـ“مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“ 2024. وذلك عن دوره الرائع في فيلم ”اللعب بالنار“ (Jouer avec le feu) للمخرجتين دلفين وموريل كولين.
تألق لافت في فيلم “قانون السوق”
ينتمي فيلم ”قانون السوق“ إلى نوعية أفلام الدراما الاجتماعية. يحمل العنوان الفرنسي الصارم (La loi du marché) الإطار العام لما يطرحه الفيلم، حيث يتحكم ويسود قانون السوق، ويفرض سطوته الباطشة على الجميع دون رحمة. العنوان الإنجليزي، “معايير رجل“ (The Measure of a Man)، يحمل وجه النظر الوجودية العميقة الكامنة في الفيلم. إذ يُعبر خير تعبير عما اعتمل وتراكم في صدر البطل، وأدى إلى مأزق أخلاقي ووجودي تطلب منه، بصرف النظر عن الظروف المحيطة، اللجوء أو الاحتكام لقانون آخر مغاير تمامًا لقانون السوق. أي، الاحتكام إلى المعايير الأخلاقية والإنسانية بالأساس.
يؤدي لاندون دور “تيري توجوارديو“، وببراعة ينجح في إيصال الحالة النفسية المركبة لرجل يعاني ماديًا وإنسانيًا وأخلاقيًا. وذلك من خلال نبرات الصوت وقسمات الوجه، ونظرات العين، إذ عبر هذه الملكات جعلنا لاندون نتماهى فعلا مع تيري، ونعاني تمامًا ونفهم معاناته. وذلك بعد فصله ومئات العمال من أحد المصانع، ثم بحثه عن عمل مناسب بمصنع آخر، وإجراء مقابلات عديدة يُرفَض فيها كلها. رغم أننا نراه في مشاهد وهو يتلقى تدريبًا على كيفية إجراء المقابلات، والتعبير عن النفس وإبراز المواهب والصفات والملكات الخاصة، كي يحظى في النهاية بالإعجاب وإقناع أصحاب العمل.
يضطر تيري، تحت ضغط تلبية متطلبات أسرته المادية -زوجته لا تعمل وابنه الشاب لديه صعوبات حركية وتأخر ذهني- إلى طلب سلفة بنكية، لكنه يفشل لعدم تحصله على عمل يدر عليه دخلا ثابتًا. يحاول تيري، في أحد أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها قسوة وإذلالا، بيع منزله الصيفي الصغير. لكن، من يتقدمون لشراء المنزل، يساومونه للحصول عليه بأبخس الأسعار، وتدريجيًا ينحدر الحوار لنجد فِصالا يدور حول مبلغ يقدر ببضع عشرات من اليوروهات، ونرى كيف يستميت تيري في التمسك بالمبلغ لأنه يحتاجه بالفعل، الأمر الذي يضطره في النهاية لرفض البيع.
يلجأ تيري، المهني المتخصص، للعمل كحارس أمن بمتجر ”كارفور“، كي يلبي احتياجات أسرته، والحصول على القرض البنكي، وإصلاح سيارته المتهالكة. تتعقد الأمور أكثر ولا تنصلح أبدًا، وفوق هذا يكتشف أن العاديين من مختلف الأعمار والطبقات يسرقون احتياجاتهم الماسة من السلع المعروضة بالمتجر لعدم توفر الأموال. والأفدح، اكتشافه أن الأمر ليس قاصرًا على الزبائن فحسب، بل أيضًا الزملاء الذين يسرقون كوبونات التخفيض على المبيعات. ما يضعه في النهاية أمام نفسه بصفته ممثلا للقانون الذي يطبقه، والقانون الذي يتعارض أيضًا أو لا يأخذ بعين الاعتبار أبسط الاحتياجات المادية والأخلاقية لدى البشر المطحونين بسبب الظروف الاقتصادية الرهيبة.
مواجهة تطرف الأبناء في ”اللعب بالنار“
في فيلم ”اللعب بالنار“ (Jouer avec le feu)، المفترض عرضه تجاريًا نهاية يناير/ كانون الثاني، 2025، نرى لاندون في بطولة مفردة، مؤديًا دور ”بيير“، أب أرمل لولدين في سن المراهقة، ”فوس“ و“لويس“، وكيف يعاني في تربيتهما، رغم بذله أقصى جهد ممكن. ورغم بعض الانسجام المتحقق بين الذكور الثلاثة تحت سقف المنزل، إلا أن الشقيق الأكبر، البالغ الحدة والفظاظة والعدوانية، والغيرة من شقيقه الأصغر، يتصرف على العكس من شقيقه صاحب السلوك الهادئ المتزن.
تدريجيًا، ومع تطور الأحداث، نرى أن الأمر لم يعد يقتصر على الاحتكاكات أو المشاحنات أو المواجهات اليومية بين ”بيير“ و“فوس“. إذ تتطور الأمور لأكثر من هذا، خاصة بعدما لاحظ ”بيير“ مدى انحراف سلوكيات ابنه، ليس صوب المخدرات وغيرها، بل نحو العنف المفرط والتطرف الشديد والكراهية ومعاداة الأجانب وغيرها من الأمور التي تصب في خانة كراهية الآخر والعداء الصريح له. ما يضع الأب أمام مسؤولياته العصيبة، سيما وأنه يؤمن بقيم الديمقراطية والحوار والنقاش والحرية داخل البيت، ولا يرغب في تقويض كل هذا أو التصرف على النقيض منه. رغم أنه يرى كيف أن ابنه في سبيله إلى الضياع التام، وتقريبًا لا سبيل لإنقاذه، بعدما بذل معه كل ما يمكن لأب أن يفعله تجاه ابنه.
المثير في الفيلم، أن الأمور تتطور باتجاه آخر تمامًا، أكثر درامية وغير متوقع بالمرة، إذ يرتكب الابن جريمة قتل، بصرف النظر عن دافعها، وإن كان قد تعمدها من عدمه. في النهاية، يتم القبض عليه، ويقدم للمحاكمة، ويضطر الأب للوقوف للتحدث عن ابنه، بالأحرى الدفاع عنه. لكنه، يضع سوء التربية والسلوك ولوم نفسه في كفة، والعدالة وكون نفسًا قد قتلت بيد ابنه، بصرف النظر عن الدوافع والمسببات، في كفة أخرى. ما يضعه أمام ضميره، وضرورة تغليب الضمير والأخلاق والقوانين والعدالة على المشاعر والأهواء والأبوة وغيرها.
بطولة فردية في أحدث أفلامه
أما أحدث أفلام فنسان لاندون، بعنوان ”الاختيار“ (Le choix) للمخرج ”جيل بوردو“، المفترض عرضه تجاريًا نهاية شهر ديسمبر/ كانون أول القادم، فيقدم ما يمكن اعتباره وبامتياز درسًا مكثفًا في التمثيل، خلال 80 دقيقة تقريبًا هي زمن الفيلم. إذ يؤدي لاندون أداء وحيدًا بمفرده طوال الفيلم، أو ما يمكن أن نسميه مونودراما فيلميه. وذلك بعد انطلاق البطل ”جوزيف“ بسيارته من موقع البناء حيث يعمل، ومصاحبته في سيارته في سفرة إلى باريس.
انطلاقته المتعجلة جاءت بعدما هاتفته سيدة تعرف عليها قبل شهور، وحدثت بينهما علاقة عابرة لليلة تحت تأثير الخمر. سبب المكالمة ضرورة أن يحضر ولادة ابنه الجديد، في حين أنه متزوج ولديه أسرة سعيدة، ووظيفة مرموقة. انطلاقته مبعثها إحساسه البالغ بالمسؤولية والواجب تجاه امرأة لا يكاد يعرفها، ولا تربطه بها علاقة سوى الطفل الذي سيولد.
على امتداد الفيلم، نغرق وسط الحوارات والمشاعر المتضاربة والفياضة التي نسمعها عبر الهاتف في السيارة. سواء من هذه المرأة، أو من زوجته التي يخبرها بالحقيقة، أو من أولاده الصغار، أو من رئيسه في العمل، أو من زميله السكير الذي يعتمد عليه لإنجاز العمل بدلا منه، وغيرها. التنقل بين الشخصيات المتصلة هاتفيًا، دون انقطاع طوال الفيلم، وكيفية تعبيره عن كل موقف والتفاعل معه، وردود أفعاله المعبر عنها فقط من خلال قسمات الوجه ونبرات الصوت والعينين، دون أن يتحرك أو ينزل من سيارته، على مدى ساعة ونصف، ودون أن نشعر بأي ملل أو فتور، يعتبر، بلا مبالغة، من أهم دروس التمثيل، بالنصف العلوي من الجسم إن جاز التعبير، ومن أبرع وأرقى وأصدق الأداءات التي قدمها فنسان لاندون مؤخرًا.