بقلم: فريدريك جيمسون

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

إن مفهوم أفول النظرية كان مصحوبًا بالإعلان عن أفول كل أنواع الأشياء الأخرى التي لم تكن دقيقة بصفة خاصة. سأبدأ بتحديد مفهومي عن ماهية النظرية. أعتقد أن النظرية تأخذ في الحلول محل الفلسفة (وكل النظم أو البناءات الشمولية الأخرى أيضًا) في لحظة إدراك أن الفكر هو لغة أو مادة، وأن المفاهيم لا يمكن تواجدها بشكل مستقل عن تعابيرها اللغوية. وذلك أشبه ما يكون بالبطلان الفلسفي لأي تأويل أو “ابتداع إعادة صياغة بألفاظ أخرى مع المحافظة على المعنى”، وهو في الوقت نفسه يستبعد ويتجاوز الكثير من الكتابات الفلسفية التي تدور في أفلاك النظم المتكاملة، والمذاهب الفلسفية، والمعاني، ومعايير الحقيقة والزيف. أصبح النقد الآن منصبًا على اللغة ونقدًا لها ولصياغاتها، أي، استكشاف الدلالات الأيديولوجية للصيغ المختلفة، والظل البعيد المتطاول الذي تطرحه بعض الكلمات والعبارات، والرؤى العالمية المثيرة للجدل والمتولدة عن أكثر التعريفات إتقانًا وحنكة، والإيديولوجيات التي تتسرب من الافتراضات المحكمة ظاهريًا، والآثار الرطبة التي خلفتها آثار أكثر التحركات حذرًا للنقاشات الصائبة والمجادلات المبررة. هذا القول يعني أن النظرية – كوصول إلى اتفاق مع اللغة المادية والتصالح معها – سوف يستلزم شيئًا ما ليتواجد مثل بوليس اللغة، وبحث عنيد لا يهدأ ومهام تدمير تستهدف المكون الأيديولوجي الذي لا مفر من اقتحامه لكل ممارستنا اللغوية، ويبقى فقط القول بأنه بالنسبة للنظرية فإن كل استخدامات اللغة، بما في ذلك لغة النظرية ذاتها، عرضة لهذه الزلات والانزلاقات والإخفاقات الجزئية لأنه لم توجد بعد أية طريقة لقول شيء، وكل الحقائق في أفضل أحوالها وضعية لحظية (بنت الموقف)، وموسومة بتاريخ تعتوره عمليات التغيير والتحويل. سوف تتعرفون فورًا بالفعل على النزعة التفكيكية في وصفي، والبعض سيرغب في ربط الألتوسيرية (نسبة إلى ألتوسير) به أيضًا. يمكننا بالطبع صياغة ما يمكن اعتباره جماليات لمثل هذه الكتابة (شريطة أن يتم فهم الجماليات كدستور صارم للتابوهات والتقاليد): سوف يبدو جوهر قانونها بمثابة استبعاد للتقريرات الأساسية الثابتة والمعطيات والقضايا الفلسفية الإثباتية الإيجابية. كل المواضعات التوكيدية الإثباتية، حيث هي صياغات معيوبة وملوثة بأيديولوجيا، لأنها تعكس شخصيتنا الذاتية وطبقتنا الاجتماعية (جنسنا ذكورًا أو إناثًا و أعراقنا الإثنية) في وجهات نظرنا للأشياء.

إنه لمن الخطأ تأويل هذه الرؤية الخاصة بالنظرية على أنها مدرسة في النسبية أو مذهب الشك (مما يؤدي بصورة حتمية إلى العدمية والشلل الفكري) ؛ على العكس، الصراع من أجل “التقويم والتصحيح في الصياغات” عملية لا نهائية تقريبًا، وتتولد عنها بصورة دائمة مشاكل جديدة. وبالنسبة إلى التناقض الكلي للنظرية – حيث يمتد النقاش لكن بدون قول أي شيء حقيقي – فقد عرف تشكيلة من الحلول، التي لا يمكن سردها أو إحصاؤها هنا. المثال الخاص باستحداث اللفظة قد يفي بالغرض، فهو تلك المحاولة اليائسة للتملص من اللغة البالية الثقيلة والمرهقة الموجودة عن طريق ابتكار وتجديد ما هو خارج أو ما هو بعد الطبيعة. لكن عدو النظرية الأبدي، لا يكل ولا يمل من التحويل الفوري لكل ما هو مجرد ومعنوي إلى مادة أو جسد، وبسرعة يقوم بامتصاص وتحييد واستئناس المحاولة التي تبدأ شجاعة لكنه يبتلعها في النهاية.

ما يجب علينا الآن تسجيله (وأتطرق ببطء إلى مسألة النظرية اليوم) هو الطريقة التي عن طريقها تتمكن هذه الرؤية الخاصة بالتفكير والكتابة من أن تعد تدريجيًا ملاحق من مساحات شاسعة في الأنظمة التقليدية، اعني بعث التقاليد التي صارت مهجورة وهي تحتضن اللغة التصويرية – التي كانت تؤمن بانفصال المفاهيم عن الكلمات، والتي مازالت مسيطرة. إنني أصف عملية توسيع وتمديد للنظرية في إطار الحرب والهيمنة والإمبريالية لأن النظرية بالطبع هي أيضًا حتى الآن تطور آخر متميز للبناء الفوقي للرأسمالية الأخيرة ولهذا فهي تطرح العديد من الآليات المشابهة (بالرغم من الاختلاف الكلي للتكافؤ السياسي). على أية حال، ما يحدث أثناء الفترة التي تمتد وتنتشر فيها النظرية – والقصة الكلاسيكية معروفة جيدًا: أولاً يستعير علم الأجناس البشرية (الأنثروبولوجي) مبادئه الأساسية من اللغويات، ثم يقوم النقد الأدبي بتطوير مضامين اللغويات في نطاق تطبيقات وممارسات عملية جديدة يتم تكييفها حسب التحليل النفسي والعلوم الاجتماعية، والقانون، وأفرع وأنظمة الثقافة الأخرى – ما يحدث في عملية الانتقال هو ما أود وصف وتمييز خصائصه (مع الالتزام بطابع لغوي) كترجمة كلية واسعة النطاق، بإحلال لغة محل أخرى أو، الأفضل حتى الآن، بنوع واحد من اللغة يتضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة جدًا من اللغات، فما يسمى استنفاد النظرية وقتلها بحثًا هو أكثر قليلاً بشكل عام من إنهاء تخصيص وتكييف عملية الترجمة لهذه المنطقة النظامية المعرفية أو تلك. هناك الآن بشكل واضح طرق أخرى كثيرة لسرد هذه القصة، التي تختلف طبقًا لمنظور المرء للمنظومات. أشعر بالفعل أنها تتمتع بقوة دفع وتحريك أو نهايات أخيرة ونهائية حداثية، تم استعارتها من تلك الحداثة التي لم تعد موجودة في الفنون، بعبارة أخرى، إن ديناميكية النظرية كانت السعي إلى الجديد والجدة و، إن لم يكن ذلك إيمانًا بالتطور والتقدم، فإنه على الأقل الوثوق بفكرة أنه سيكون هناك دائمًا شيء ما جديد ليحل محل النظريات القديمة، المعتبرة مادية بينما هي مجردة، والمتنوعة التي تم اعتمادها، وتم امتصاصها وتأهيلها وتطويعها بواسطة المبدأ الأساسي النظري المقرر. أم هل هناك مثل هذا الشيء القائم كمبدأ نظري مقرر؟ هل الإنتاج النظري ليس بالفعل في روحه “ما بعد حداثي”؟ هل بإمكاننا التفرقة بين الإنتاج النظري الحداثي وما بعد الحداثي؟ حاليًا، المناقشات بخصوص مسائل مثل هذه تكتنفها مخاطرة الانزلاق التدريجي إلى الرأي الفردي الشخصي البحت.

لكنني أعتقد فعلاً أن مطالعة موجزة لتاريخ النظرية ستكون صالحة، وهذا ما سوف أقوم بروايته أو ترجمته: لحظة أولى، يتم فيها استكشاف الهيكل الداخلي- الفجوة أو الصدع الداخلي – للمفهوم بما هو كذلك في حد ذاته. هذه هي اللحظة المتعارف على أنها البنيوية في الغالب، التي يصبح واضحًا فيها أن المفاهيم ليست وحدات مستقلة بل بالأحرى كيانات علائقية – ذات علاقات داخليًا وخارجيًا – والتي فيها تصبح ماديتها حتمية لا مفر منها، والتي فيها، بعبارة أخرى، يبدو لنا تدريجيًا وببطء أن المفاهيم ليست أفكارًا وحسب بل بالأحرى كلمات وكوكبات من الكلمات رغم ذلك.

أما عن اللحظة الثانية وهي تمثل – شيئًا ما يدعى “ما بعد البنيوية” – وفيها يتحول ويتغير هذا الاكتشاف إذا جاز التعبير إلى مشكلة فلسفية، أعنى، ذلك التصوير أو التمثيل، ومعضلاته، وجدلياته، وإخفاقاته، واستحالة تحققه. ربما هذه هي اللحظة التي تنتقل فيها المشكلة من الكلمات إلى الجمل، ومن المفاهيم أو الحدود المنطقية إلى القضايا أو الأحكام المنطقية. على أية حال، إنها المشكلة التي تبزغ ببطء لتُدرج داخل عباءتها أو تبتلع كل القضايا الفلسفية الأخرى، كاشفة عن نفسها كبناء أو كهيكل ضخم لم يتسن لأحد قط زيارته وتفقده في صورته الشاملة، ولكن من خلال أبراجه تسنى للبعض التحديق لبرهة وآخرين نظّموا أو خططوا جزئيًا دهاليزه التي تحت الأرض. لذلك، لا تزال القضية الرئيسية للمثيل أو التصور ملازمة لنا حتى اليوم بشكل كبير وتقوم بتنظيم، إذا جاز التعبير، العلم العادي للنظرية وممارستها اليومية وتوجيه كتابات تقاريرها غير المحددة، تلك التي ندعوها مقالات.

نأتي إلى اللحظة الثالثة، وهي تلك اللحظة التي أعتقد أنها استكشاف جديد وغير مكتمل وأنها المكان الذي مازالت تصاغ فيه النظرية الأصلية حاليًا. هذه هي المنطقة الخاصة بالسياسة، التي كانت دائمًا صفة مميزة أو ملعبًا للكثير من المعارف والنظم الأكاديمية الانتكاسية الأكثر تدهورًا ولأكثر أنواع التفلسف العتيق بعثًا للملل. فجأة وجدت هذه النصوص القديمة والأطر الأكاديمية التي كانت تتم قراءتها داخلها، وجدت نفسها محوّلة إلى ما وراء الإدراك بواسطة السهم المضيء الذي حملها وطار بها في نوع مختلف من التعارض الفلسفي النظري، أعني، التعارض بين الكلي العام والجزئي الخاص: التعارض الذي لا يكون بهذا الشكل مشكلة (باستثناء الخطاب الفلسفي القديم) لكن هذا التعارض يصيب على الفور كل أنواع الأشكال الجديدة، “الخاص” يعاود الظهور مجددًا بتنوع في الشكل المحدد، في الشخصي، في الفردي، وحتى الحقيقي، بينما تجثم العولمة السيئة فوق كل شيء مثل سحابة يوم القيامة وتصبح في هوية مع، أي، ملازمة لكل شيء من الدولة وحتى شكل السلعة، من النماذج الجنسية المكبوتة حتى هويات تحليل الطبقات. هذا إذن ليس مشكلة ما يمكن حلها، ليس تعارضًا يمكن تجاوزه جدليًا، بل بالأحرى هو نظام جدلي نظري مشفر جديد بأكمله، فيه كل شيء حدث أو تكوّن من قبل يحتاج الآن إلى إعادة تشكيله وصياغته. تحت رعاية الأصنام الحارسة لميكيافيلي وهوبز، ثم لسبينوزا وكارل شميت يبرز نوع جديد كلية من الخطاب السياسي، نظرية سياسية ثورية أصيلة، يظهر للعيان، يصاغ في هيكل صراعي بعنوان جدالي “الصديق والغريم” عند شميت ويجد شكله النهائي في الحرب. أو على الأقل ينبغي على المرء القول بأن الحرب هي الشكل النهائي الذي يفصح السياسي فيه عن هويته كسياسي؛ لأن الحرب هي أيضًا بناء، إعادة تعريف، وإعادة صياغة، تبسيط للحياة المادية الملموسة التي ترسخت، تبسيط بصهرها وإعادة بعثها في شكل نموذج جديد، إنني ملتزم أو منجذب إلى أن ألتمس العون من مفهوم دولوز في التخطيطية (الذي طوره بمناسبة فوكو).

نعم، التفكير السياسي يعني تحويل التصور والتمثل إلى رسوم توضيحية، تبرز للعيان محاور القوى مرئية بالضبط مثلما هي تتعارض وتتقاطع مع بعضها البعض في الواقع، إعادة صياغة الواقع كرسم بياني لمراكز القوى، والحركات، والسرعات. مثل هذه الرسوم التوضيحية هي التجسيد الفكري والفلسفي النهائي لهذه الوسائل البصرية التي فتنت البنيويين الأوائل، إنها الطريقة الأخيرة للفرار أو للخروج من تهويمات الأفكار والدخول في قالب جديد مرئي متجسد.

أنا شخصيًا بعيد نوعًا ما عن هذه اللحظة الجديدة، لأنني فهمت دائمًا أن الماركسية تعني التسليم الكامل من جانب السياسة للاقتصاد حيث الاقتصاد يقود السياسة، وعليه أريد الآن توقع اللحظة الرابعة للنظرية، حتى الآن على الجانب الآخر للأفق، هذا الجانب الذي يرتبط بتنظير للذاتية الجماعية أو الذوات الجماعية، بالرغم من أن (لأن هذا الأفق لم يتواجد بعد حتى هذه اللحظة) كل الكلمات التي يمكنني العثور عليها لا تزال بالية مستهلكة وسيئة السمعة، مثل مشروع علم النفس الاجتماعي. يرغب المرء بالتفكير في الصياغات (وبالطبع الرسوم التوضيحية) لأجل الجموعيات التي هي على قدر من التعقيد والإثارة كتلك التي عند “لاكان” فيما يتعلق باللاشعور الفردي. هذه الهياكل بالتأكيد تم إلقاء نظرات خاطفة عليها في الاستكشافات المتنوعة للخيال الاجتماعي أو الجمعي في السنوات الأخيرة. يشعر المرء أن الهيبة الفلسفية الحديثة للآخر والآخرين هي في الغالب تبسيط أخلاقي لهذه الحقائق (فيما عدا، ربما، بعض الاقتراحات الخاصة بسارتر “النقد”). في غضون ذلك، تجيء الدراسات التابعة كلها رغم ذلك من اتجاه آخر، فها هو دولوز (أو دولوز وجتاري)، بثبات وحماس ما بعد ديكارتي، يعرض أو يعرضان تشكيلة متنوعة من الطرق الجديدة لتخطيط وتنظيم مجموعة كاملة من الظواهر الاجتماعية. لكن يقبع في طبيعة الحيوان (الحيوان البشري) الميل للارتداد من مثل هذه الفتحات؛ نحن لا نزال غير راغبين في سماع أي شيء عن الطبقة الاجتماعية، والأساليب النظرية الجديدة مثل فكرة ” أجامبين ” عن الحياة العارية تتم قراءتها على الفور كعبارات أو تصريحات ميتافيزيقية أو وجودية أو على الأسوأ يتم إدراجها – بكونها نوعًا من درجة الصفر – لإثبات أن الجماعة لا وجود لها (بدلاً من تناولها كتعريف لكوكب جماعي جديد أو كوارك جماعي جديد) إلاّ أنه ليس من المستحسن تمامًا التحدث عن مجالات هي (حتى الآن) غير موجودة.

لذلك دعوني في الختام أتطرق إلى النقد الأدبي، وهو أيضًا شيء ما يتم التلفظ به إلى حد بعيد من وقت إلى آخر. لو أن الأمر كذلك؛ فذلك ربما لأن، من ناحية، هناك الآن لدينا كثرة من الطرق والأساليب التي يتطلبها أي وكل مشروع أو، من ناحية أخرى، لأن هناك التطاير أو التبخر العام للعمل الفني القديم أو، إذا أردت، هناك موت الأدب نفسه. حتى التاريخ الأدبي راكم كميات مثيرة من البحوث، التي تبدو كافية بشكل كبير لمدة من الزمن بالرغم من أن إعادة التقييم التاريخية لهذه البيانات تبقى كأهم مشكلة نظرية بنفس أهمية التاريخ البياني كله لما بعد الحداثة. في تلك الأثناء يزدهر بين أهل البيت الأدبي نوع من المقايضة على أكثر النصوص المثيرة تقدمًا، من “لحظة” حتى ثقافات عرقية (هيب هوب) ؛ لكن هذه هي كل الأهداف والمرامي النصية، وهي ضارة عند التفرقة بين الأدب والدراسات الثقافية بتلك الطريقة الازدرائية التي عهدناها. وعن النقد النصي أود الاستشهاد بكاتب معاصر، سيزار كاسارينو، الذي علّق، كما سيلي، على السؤال القديم، ما هو النقد الأدبي؟ قائلا: “كان من الممكن أن يتم طرح السؤال بطريقة مختلفة. مثلما يكون السؤال عن صحة شخص محبب مريض لفترة طويلة، وغائب عن حياة المرء اليومية فيكون السؤال الأكثر حضورًا في أفكار المرء اليومية في هذه الحالة أن يسأل كيف حاله؟ كيف حال: النقد الأدبي؟” وتأتي إجابته، التي أميل لتأييدها، وهي ما دعاه، “الإصابة بالشاعرية الفلسفية”، التي تعني، كما يقول، “تداخل بعينه متقطع ومتواشج وانكسار المسار بين الفلسفة والأدب[1]“. لكن هذا أيضًا ينطبق على النظرية، أعتقد هذا.

أود التطرق للسؤال بطريقة مختلف قليلا، وللدفاع عن الوضع الذي عليه النقد الأدبي أو ينبغي أن يكون عليه، أراه نوعًا نظريًا من مبحث الأعراض. الأشكال الأدبية (والأشكال الثقافية عمومًا) هي أكثر الأعراض الملموسة التي لدينا لما هو في حالة تشغيل وهو ضمن ذلك الشيء الغائب المسمى بالاجتماعي، غير أن فكرة الأعراض غالبًا ما تكون غير مفهومة أو يُساء فهمها فتكون النظرة إليها باعتبارها تشجيع للطريقة الاجتماعية المبتذلة ولمنهج الاقتراب إلى المضمون عند التعامل مع الأعمال الفنية. أعتقد أننا من هذا المنطلق يمكننا قراءة كل مؤلفات أدورنو الجمالية على أنها توثيق للبيان التوضيحي الأكثر إبرازًا لقصد التناسق بين الداخل والخارج ولفهم “الوحدة البسيطة التي بلا نافذة” للشكل المستقل كعرض تاريخي واجتماعي. قد يكون من المفيد هنا إضافة أنه ليس وحده المضمون، وإنما الشكل نفسه أيضًا وربما بدرجة أكبر هو حامل الرسائل الأيديولوجية والمتواجد كحقيقة اجتماعية. وبالتأكيد، تقبع المسائل التقنية بخصوص هذه الدرجات من التضافر الدقيقة والمعقدة في القلب تمامًا من النظرية الأدبية نفسها، إذ حسبنا القول إن أعمال الماضي تتحمل بكل أنواع الجماليات الفريدة المفتوحة على لحظتها الخاصة بها، بينما تتضمن أعمال الحاضر كل أنواع البيانات المشفرة عن تلك البقعة العمياء أو المنغلقة في حاضرنا – هذه النقطة الغامضة لشكل الحاضر التي نحن عنها من جميع الزوايا وبكل المعاني الأكثر بعدًا، وما نميل نحن إلى إهماله، رغم ذلك، هو الأعمال الطوباوية الانعكاسية أو الإسقاطية المتشابهة للماضي والحاضر المنفتحة على المستقبل الذي هو من نواح أخرى مغلق بالنسبة لنا.

لكن هذا السرد لمهام النظرية والنقد حتى الآن أسقط غالبية الملامح المميزة لزمننا الخاص (ما بعد الحداثي)، على الأقل فيما يتعلق بما هو جمالي. هذا هو بالتحديد ذلك التطاير والتبخر للعمل الفردي أو النص كما ذكرته سابقًا، تطور إذا تم أخذه بجدية يحدث نقلة هامة جديرة بالاعتبار على مستوى منظور الإدراك والممارسات النقدية. لأنه هل هو واضح أن الأسئلة والقضايا المثارة بطريقة أدبية ليست ملحة جدًا على نحو وثيق أو في أوانها المناسب. عندما يكف الأدب العظيم عن أن يكون منتجًا أو بالأحرى، ولأطرح ذلك بشكل مختلف، عندما ينتقل مركز الثقل أو الجذب الافتراضي في “نظام لمعايير الفنون الجميلة” بعيدًا عن تلك اللغة ويحل محلها نموذج اللغة الشعرية الذي كان المركز والأساس أثناء الفترة الحداثية؟

لهذا السبب بدا لي اليوم، في ما بعد الحداثة، أن أهدافنا الدراسية أو البحثية ماثلة بدرجة أقل في النصوص الفردية عنها في هيكل وديناميات نمط ثقافي محدد من هذا النوع المابعد حداثي، يبدأ على أية حال نظام جديد (أو لا نظام جديد) لإنتاج فني وثقافي فيحل محل النظام القديم. إن تطور الإنتاج الثقافي الآن (وعلاقته ببنية مجتمعنا الخاص الغريب) هو الهدف الآن من الدراسة ولم يعد الهدف هو التحف الفنية أو الروائع الفنية الفردية ذاتها. بدّل هذا من ممارستنا المنهجية (أو بالأحرى من المشاكل النظرية الأكثر إثارة التي نطرحها)، من تحليل النص الفردي إلى ما أطلق عليه أنا تحليل نمط الإنتاج، تلك هي الصيغة التي أفضلها لأجل هؤلاء الذين يواصلون استخدام كلمة “ثقافة” في شيء ما خاص له معنى أنثروبولوجي.

الثقافة بهذا المعنى أو المفهوم هي الإيديولوجيا المميزة لصامويل هنتينجتون والناس الذين استلهموه. بالطبع، فإن نفس الحرب التي أثارها أو أوحى بها هي السياق الذي يمكن لي أن أدافع فيه عن الاقتراح المنهجي لاعتقادي أنه فقط في ضوء دراسة الرأسمالية الأخيرة كنظام ونمط إنتاج يمكننا فهم الأمور التي تدور من حولنا اليوم. هذه الأمور ليست فقط أفعال جماعة رجعية أصولية حول رئيس غير منتخب – فهذا شيء ما قد نعزوه في أفضل أحواله إلى حادث عارض بحت تمامًا أو حظ قومي سيئ، إنها أمور تشكل جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من نظامنا، وفهمنا للإنتاج اليوم ليس أسوأ طريقة لمحاولة فهم ذلك النظام والاحتمالات التي قد يتيحها أمام التغيير الراديكالي أو حتى المعتدل.

[1] سيزار كاسارينو: الحداثة في البحر : ميلفيل، ماركس، كونراد، في المنفى(مينسوتا،2002)ص13، المؤلف.