محمد هاشم عبد السلام

 

في أحدث أفلام المخرج الأمريكي المعروف “مايكل مور”، الذي يحمل عنوان “أين سنغزو المرة القادمة“، يعود مور، بعد توقف ناهز الخمس سنوات، ليقدم لنا أحد أضعف أفلامه، والذي نشعر من خلاله أنه – رغم حضور كافة المقومات الخاصة بسينما مور التي عرفنها منذ أول أفلامه في ثمانينات القرن الماضي – قد استنفد في هذا الفيلم كافة هذه المقومات تقريبًا، وأن أسلحته التي كانت معبأة دائمًا عن آخرها، قد اعتراها الصدأ أو فقدت طلقاته قوتها ومفعولها.

يسير مور في فيلمه الأخير على نفس النهج الإخراجي الذي اتبعه إلى حد بعيد في فيلمه القوي والشهير “سايكو”. أما منطقه الفكري، فيتبع تقريبًا منطق الكثير من أفلامه الأخيرة، التي يهاجم فيها بلده أمريكا ويوجه لها سهام نقده اللاذع عبر مقارنة أحوالها المختلفة بغيرها من البلاد سواء المتقدمة أو شبه المتقدمة. لا يتمحور فيلم مور هنا حول موضوع واحد فحسب يوجه إليه نقده ويسبر أغواره على نحو عميق ومن كافة الجوانب. كذلك نجده ينتقي، بلا شك، الأدلة الدامغة المُبررة والمبرهنة على وجهة نظره، وينتقل على نحو غير مُتعمق ولا سابر لأغوار الموضوع إلى التالي له مباشرة، وهذا على النقيض مما فعله في سايكو على سبيل المثال. عوضًا عن ذلك، يتوجه مور للعديد من البلاد الأوروبية، وليس بلدًا واحدًا، التي يلمس لديها الكثير من نقاط القوة غير الموجودة أو المفتقدة في أمريكا، باستثناء مرة واحد يتوجه فيها خارج أوروبا إلى بلد عربي هو تونس، وهنا يتناول أكثر من موضوع وليس موضوعًا واحدًا فحسب.

إن فيلم “أين سنغزو المرة القادمة” مبني على اختيار أو بالأحرى تخيّر الأفضل لدى الغير ومقارنته بنقيضه في أمريكا، ثم محاولة اقتباسه أو سرقته على حد قوله، والعودة به إلى أمريكا من تلك البلاد التي غزاها. وذلك بعدما توصل إلى نتيجة أن جميع الحروب التي خاضها بلده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد خسرها على نحو فادح ومخجل. وبالتالي نجده، في تهريج ساخر بالطبع، وجرعته زائدة في هذا الفيلم، يعلن أن هيئة الأركان الأمريكية قد استدعته لوضع حد لهذه الخسارة، وتوفير التكاليف الباهظة، وتوجيهها لوجهتها الصحيحة، ومن ثم ترك أمر الحروب وتحويلها لغزوات سلمية يقوم هو بها، قد تجلب لبلده الخير والتقدم والرخاء مقارنة بما جلبته الحروب. ولذا ينطلق في غزواته ويعود بأفكار قيّمة في مجالات التعليم، والتغذية، والعمالة، والعدالة، ومكافحة المخدرات، وحقوق المرأة وغيرها.

بالطبع لا نستطيع أن نكون ضد نهج مور على طول الخط أو نكذبه ونصفه بغير المنصف أو المدعي، لكن يمكن نعته بسهولة بالسطحية والتضليل بعض الشيء، وأنه يرسم صورًا مثالية لتلك البلدان بتركيزه على النقاط الإيجابية التي يرغب في إبرازها مع تركه لما عداها. وهو نفسه يعترف في الفيلم بأنه تخيّر النماذج الحسنة وترك السيئة. وبصرف النظر عن كل ما لتلك الجوانب الحسنة، فهو لم يحاول أن يثبت أو حتى يناقش إن كانت تلك الجوانب قد أدت بالفعل لتحقيق النتائج المرجوة في بلدانها، ومنها على سبيل المثال، السعادة والرفاهية والكفاءة الإنتاجية.

كذلك لم يقارن بين النظم الراسخة بأوروبا وأمريكا، مثل الضرائب، خاصة في ألمانيا واسكندنافيا، ونظم الرعاية الصحية وغيرها. أيضًا، عندما تحدث مثلا عن السجون أو غيرها من المواضيع لم يضع في حسبانه تعداد السكان وحجم الولايات وغيرها من الأمور. أيضًا لم يضع في الاعتبار عراقة وتاريخ أوروبا والإنسان الأوروبي وتحضره وعمق تاريخه وحضارته مقارنة بالأمريكي، وكلنا يعلم المستوى التعليمي والثقافي لغالبية الشعب الأمريكي، ولنا أن تتصور أن عشرات الملايين من الأمريكيين لم تطأ أقدامهم قط إلى خارج الأراضي الأمريكية، ويعيشون حياة استهلاكية عادية ولم يخرجوا للمطالبة أو الدفاع عن حقوقهم في الرعاية الطبية أو مجانية الدراسة الجامعية أو غيرها من الأمور.

منذ بداية الفيلم وحتى إلى ما قبل المنتصف كان مور يميل دائمًا إلى استخدام الأرقام والإحصاءات والاستعانة بالجداول والخرائط التوضيحية الشارحة من أجل التأكيد على وجهة نظره ومصداقية ما يقوله، لكنه تخلى شيئًا فشيئًا عن هذا، وبدأ يلجأ إلى الاستطراد والارتجال وعدم الاحتكام إلى المنطق ولغة الأرقام دون أي سبب واضح لهذا. وحتى ما ذكره في نهاية الفيلم من أن هذه الأمور وتلك القوانين كانت موجودة من قبل في أمريكا وخرجت إلى العالم عن طريقها، في حين انتفت تدريجيًا من أمريكا ذاتها، لم يقدم لنا البرهان على مصداقيته، وتركه كقول مرسل دون سند أو دليل.

في البداية توجه مور إلى إيطاليا، حيث يلتقي بزوجين يخبرانه أنهما، وغيرهما من الإيطاليين بطبيعة الحال، يحصلان على إجازة تصل إلى ثمانية أسابيع مدفوعة الأجر في السنة، وراتب شهر إضافي في نهاية ديسمبر، يسمى الشهر الثالث عشر. وإجازة وضع لخمس شهور مدفوعة، وأيضًا إجازة أسبوعين لقضاء شهر العسل للمتزوجين حديثًا مدفوعة بالكامل. كل هذا بخلاف إجازات الأعياد الوطنية والدينية وغيرها. ويلتقي مور بالعديد من مدراء وأصحاب الأعمال الخاصة للتأكد من هذا، فيجدهم يؤيدون ويشجعون هذا النظام، ويحثون العمال على الذهاب إلى المنزل لمدة ساعتين لتناول وجبات الغداء، بحيث لا يفقد أفراد الأسرة تواصلهم معًا، ولأن هذا كله في النهاية سيعود عليهم بزيادة في الإنتاجية. كما يرون أنه ليس ثمة تناقض بين تحقيق ربح للمؤسسات وبين رفاهية العمال بها.

في فرنسا يُذهل مور من طعام أطفال إحدى المدارس في قرية فرنسية نائية، حيث الوجبات المدرسية المتنوعة التي يتناولونها ومكوناتها الغنية بمختلف القيم الغذائية. يجلس مع الأطفال ويتناول معهم الطعام، الذي يُعد على أيدي طهاة متخصصين في مطاعم تقارن بتلك ذات النجوم الخمس. يندهش الأطفال ذوي الثماني سنوات من صور الأكل والمشروبات التي يطلعهم عليها مور، وعندما يحدثهم عن المشروبات الغازية يمشئزون منها ويخبرونه أنهم لا يقتربون منها، وبالطبع يأخذ مور في مقارنة هذا بمثيله في أمريكا. كذلك يلقي بعض الضوء على النهج التنويري في تدريس الجنس للصغار على نحو علمي مستنير في المدارس الفرنسية.

يتجه إلى سلوفينيا، حيث الدراسة مجانية تمامًا، بما في ذلك الدراسة الجامعية حتى للأجانب، وفوق هذا أيضًا توفير دورات تدريبية لتعليم اللغة الإنجليزية للأجانب وغيرهم بالمجان. ويبين كيف تحرّكَ الطلاب للانخراط في المظاهرات أو الإضرابات عندما تم التفكير في فرض بعض الرسوم الدراسية. وبالطبع يقارن هذا بحال الطلاب بأمريكا، الذين لا يكملون مراحل تعليمهم العليا نظرًا للتكلفة الباهظة أو الذين يضطرون للعمل والاستدانة، وبعد ذلك يتخرجون وقد أثقلتهم الديون والأعباء المالية، التي يظلوا يسددونها حتى مراحل متقدمة من حيواتهم العملية.

في فنلندا، يحضر التلاميذ بالمدارس لوقت قصير للغاية في اليوم، لأنهم في حاجة ماسة للاستمتاع بالحياة والعلاقات الاجتماعية والأسرية. ليست هناك مدارس خاصة في فنلندا. وليس ثمة ما يدعى بالواجبات المنزلية والامتحانات، فقد تخلصوا منها منذ سنوات بعيدة، وإن وجدت فهي نادرة للغاية. كما أن للتلاميذ الحرية في التعبير عن الطريقة التي يرغبون في أن تدار بها المدارس والعملية التعليمية. ولذلك فإن فنلندا تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم في جودة وتقدم العملية التعليمية بها، بينما تحتل الولايات المتحدة المركز التاسع والعشرين.

في زيارة لسجون النرويج، نرى كيف يتم التعامل برحمة وحرية واحترام حتى مع أعتى المجرمين، بما في ذلك القتلة الخطرين. إنهم يعيشون فيما يشبه المنتج الصحي، يمارسون حياتهم على نحو طبيعي للغاية، يرتدون ملابس عادية، يصيدون الأسماك ويمارسون الرياضات المختلفة ويأخذون حمامات شمس. يدخلون المطعم ويطهون ما لذ وطاب من الطعام، ويستخدمون ما يشاءون من الأسلحة البيضاء. ليس ثمة حراس في السجن، بالكاد أربعة بسجن بأكمله يوجد به ما يزيد عن مئة فرد، وهم يقيمون في مكان آخر ليتركوا السجناء يتمتعون بحريتهم وبرقابتهم لأنفسهم وتصرفاتهم دون اختراق لخصوصياتهم.

يتحدث مدير السجن لمور قائلا: “لا أعرف لماذا تجدها فكرة غريبة؟ الفكرة الرئيسية للعقاب هي سلب الحرية، وتلك متوفرة بالفعل. بخلاف ذلك فنحن نساعدهم على العودة السوية إلى المجتمع”. وبالطبع يقارن مور عبر اللقطات الأرشيفية، بين نظام السجون وطرق المعاملة في بلده وبين النظام في النرويج. كذلك، يذكر لنا أن أقصى حكم يدان به أي مجرم لا يزيد، مهما كانت فداحة جرمه، عن 21 عامًا. ويلفت النظر إلى أن أيضًا فنلندا التي تطبق نفس النظام بها أقل معدل للجرائم.

ينتقل بعد ذلك إلى نقلة مفاجئة خارج أوروبا إلى منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا إلى تونس، حيث يتحدث مع إحدى الصحفيات الناشطات عن دور الثورة وتأثيرها. ثم يذهب لمقابلة راشد الغنوشي ويدير معه حوارًا عن نيل المرأة للكثير من الحقوق والحريات، ومنها حق الرعاية الصحية، والإجهاض وغيرها في ظل نظام إسلامي متشدد، باتت الحريات العامة وتلك الخاصة بالنساء تضاهي فيه تلك الامتيازات الموجودة في الدول الغربية. وفي النهاية يقر بأنهم كأميريكيين لم يبذلوا الجهد الكافي للتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، وهذا أيضًا ما تؤكد عليه الصحفية والناشطة التي التقاها.

يتوجه بعد ذلك إلى البرتغال ويتناول قضية السجون مرة أخرى، لكنه يركز بشكل أساسي هذه المرة على موضوع المخدرات وتعاطيه، ويوضح كيف أن الأمر ليس من المُحرمات أو المُجرمات هناك، وأن العلاج مُتاح لمن يريد الشفاء أو الإقلاع، تمامًا كغيره من الأمور الصحية المستوجبة العلاج. “لدي كوكائين في جيبي، ألن تعتقلني؟”، يسأل مور أحد الضباط، فيضحك الضباط ولا يفعل شيئًا.

يذهب مور لألمانيا لمصنع أقلام رصاص، حيث ساعات العمل به لا تتجاوز 36 ساعة في مقابل راتب لأربعين ساعة. وفي هذا المصنع، تحرص الحكومة على توفير الرعاية للعاملين به، وإرسالهم إلى المنتجعات إن كانوا يعانون من الإجهاد البدني. كما أن إرسال أي بريد إلكتروني للعاملين بعد ساعات العمل الرسمية أو في الإجازات أو عطل نهاية الأسبوع هو من قبيل المُحرمات، مهما كانت خطورة وفداحة الأمر. ومع ذلك، فالمصنع يعمل ويزدهر على نحو لافت.

كذلك يتناول مور ألمانيا من طرف آخر حيث عدم الخجل مما فعلوه في ماضيهم المُخجل، وكيف أنهم يُطلعون أجيالهم على ماضيهم النازي، مقارنة بالأمريكيين وما فعلوه في السكان الأصليين من الهنود الحمر  وأيضًا العبيد الأفارقة، وكيف أنهم يطمِسون ويهربون من كل محاولة للتذكير بهذا الماضي المُخزي.

أخيرًا، يتوجه لآيسلندا، حيث تسبب العديد من المصرفيين في كوارث مالية، أدت إلى خراب الإقتصاد هناك بدلا من إصلاحه، وقد زج بهم في السجون، في حين تولت النساء الماهرات والخبيرات عمليات إصلاح اقتصاد البلاد وقطاع الأعمال والنهوض بهما. وكيف أن البنك المحلي الوحيد الذي نجا من الأزمة كانت تديره النساء، وهذا يطرح العديد من الأسئلة التي على رأسها، كيف استفادت البلاد من إسنادها المناصب العليا والحساسة بها ليقودها النساء.