محمد هاشم عبد السلام
الجمعة 26 ديسمبر 2014
في أكثر من خمسمائة صحفة، صدر قبل شهور قليلة كتاب مهم بعنوان “ابتسامة براندو: حياته وأفكاره وأعماله”، للمؤلفة “سوزان ميتزروشي” أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة بوسطن، عن الممثل الأمريكي الشديد التميز “مارلون براندو” (1924 – 2004). وقد جاء الكتاب في ثمانية فصول متفاوتة الطول، أعقبتها المؤلفة بمجموعة من الملاحق ثم خاتمة وأخيرًا قائمة بأعمال الممثل التي تزيد عن أربعين فيلمًا.
وقد حرصت سوزان على تزويد كتابها بالكثير من المسودات والملاحظات التي كتبها براندو بخط يده على هوامش الكتب، والسيناريوهات المُعاد صياغتها والرسائل والحوارات المُسجلة التي لم تظهر ولم تنشر من قبل، وحتى شهادات بعض المعاصرين له. كما اهتمت المؤلفة بتزويد كتابها بأكثر من سبعين صورة، بعضها نادر بالفعل.
تتحدث سوزان في مقدمة كتابها عن صعوبة الكتابة عن شخصية شهيرة مثل مارلون براندو بعيون جديدة. وتشبِّه الأمر بشخص يحدق في الموناليز أو برج إيفل ليخرج منهما بشيء مغاير تمامًا عما سبقه الناس إليه. وإنها إن عجزت عن قول كل شيء عن هذا الممثل الرائع فمرد ذلك لبراندو الذي يستحيل أن تصف أداؤه بالكلمات فحسب، لأنه بالفعل وحش فني من طراز رفيع مثله مثل “فان جوخ” و”بوب ديلان”. وأن تلك ليس المحاولة الأولى ولن تكون الأخيرة للاقتراب من تلك الشخصية البعيدة المنال، لإزالة الغموض عن عبقريتها وكشف الستار عمّا يكمن وراء أدائها الخارق.
تصحبنا المؤلفة في رحلة شيقة تبدأ من “أوماها”، بنبرسكا، حيث ولد أحد أساطير التمثيل السينمائي في عصرنا، مارلون براندو، ومن تلك المنطقة حيث ولد، توحي لنا الكاتبة بأنها كانت ذات أهمية قصوى في مساره المهني، فهناك كان متحررًا من نمط الحياة في المدن الكبرى. الأمر الذي أتاح له مراقبة الناس واختزان لهجاتهم ونبراتهم وإيماءاتهم وسماتهم وشخصياتهم، وإفرازها لاحقًا في أدواره المتعددة والمتنوعة، من الشهواني العدواني “ستانلي كوفالسكي” في فيلم “عربة اسمها الرغبة” عام 1951، والمغني والراقص المقامر “سكاي ماسترسون” في فيلم “الرجال والدمى” عام 1955، إلى زعيم المافيا الأرستقراطي في “الأب الروحي” عام 1972، مرورًا بالكثير من الأدوار المختلفة مثل ضابط الجيش المثلي المكبوت جنسيًا، والمترجم الياباني، والثائر المكسيكي، والديكتاتور الروماني.
وقد ورث مارلون من والدته “دودي” الولع بفن التمثيل، والاهتمام الصادق والعميق تجاه المظلومين، لكن في الوقت نفسه، إدمانها على الكحول جلعها شخصية لا يعتمد عليها وليست محل ثقة، وقد تسبب هذا لابنها على المدى الطويل في فقدانه الثقة بالمرأة وجعل من الصعب عليه في النهاية أن يكون في علاقة ملتزمة.
أما والده فقد ورث منه المظهر الجسدي، وهو رجل حاد الطباع لم يفلح في أن يكون رجل مبيعات ناجح، وكان شديد الصرامة والانضباط وكثيرًا ما كان يضرب ابنه. وقد وصل الأمر ببراندو أن قال ذات مرة: “لو كنت بصدد أداء مشهد ما يتطلب مني أن أكون غاضبًا، يمكنني على الفور أن أتذكر والدي وهو يضربي”. وقد تسبب هذا في اكتساب براندو العداء البالغ تجاه أي رمز من رموز السلطة مهما كانت.
إلى جانب تركيزها الشديد عن مدى قوة الملاحظة التي كان يتمتع بها براندو، تكشف لنا الكاتب عن معلومتين هامتين لم يتم رصدهما من قبل فيما كتب عن تقنيات هذا الممثل العظيم. الأولى، كيف أنه وظف شهيته النهمة للقراءة والكتب، من أجل إضفاء الكثير من العمق والتعقيد على الشخصيات التي كان يجسدها. على سبيل المثال، واستعدادًا للقيام بشخصية “كريستيان ديستل” الضابط الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية في فيلم “الأسود الصغيرة” عام 1958، قرأ العديد من الدراسات النفسية واقتنى كتاب عالم النفس والاجتماع النمساوي الشهير “فيلهام رايش”، “علم النفس الجماعي للفاشية”، والذي تحدث فيه، من بين أمور عدة، عن أن الأيديولوجية القومية اليمينية من الصعب تصورها كمفهوم قاصر فحسب على ألمانيا والألمان.
كما اقتنى براندو أكتر من مئة كتاب عن عادات وثقافات منطقة “بولينيزيا”، أو مرتبطة بالتمرد مثل كتاب ألبير كامو “الإنسان المتمرد” من أجل القيام بدو “فليتشر كريستيان” في فيلم “تمرد على متن السفينة بونتي” (1962). ونفس الأمر فيما يتعلق بسكان أمريكا الأصليين مع فيلم “فيفا زاباتا” (1952) للمخرج إيليا كازان. ومن أجل فيلم “القيامة الآن” (1979) مع المخرج فرنسيس فورد كوبولا، قرأ أعمال الفيلسوفة حنا أرندت. كل هذا بالطبع، إلى جانب قراءاته هو الشخصية في الفنون والأدب. لكن براندو لم يركن إلى القراءة فحسب لتساعده في أداء شخصياته ووضعها في سياق قابل للتصديق بأفلامه، إذ غالبًا ما كان يعيد بنفسه صياغة سيناريوهات معظم أفلامه، وبضع على لسان شخصياتها فقرات ذات لغة بليغة وعميقة. وتضع لنا المؤلفة بالكتاب بعض الفقرات الأصلية وتلك التي تم تعديلها وذلك للتدليل على صحة كلامها.
وتبدد سوزان في الكتاب عددًا من الأساطير والمفاهيم الخاطئة التي أحاطت ببراندو، لتعطينا عنه صورة أكثر تصديقًا وتعقيدًا عن تلك التي عرفناها عبر وسائل الإعلام والإثارة فقط. كما تُفند ثلاثة أساطير لا تزال حاضرة في الوعي العام: أنه لم يكن يجيد التعبير عن نفسه وليس على قدر من التعليم والثقافة. وإنه كان نصيرًا للمظلومين والمعذبين والمضطهدين. وإنه ومنذ مطلع الستينات لم يكن متواجدًا بالسينما إلا من أجل الحصول على المال فحسب.
بالرغم من كونه قارئًا نهمًا، فقد أدى تمرد براندو إلى فشله كطالب. وقد لازمه هذا الفشل منذ رياض الأطفال مرور بالمرحلة الابتدائية وحتى الثانوية حيث طرد من المدرسة العسكرية ولم ينل شهادة. وفي هذا الصدد تبين الكاتبة كيف كانت ثقافته شديدة العمق، وتشير إلى مكتبته العريضة التي تزيد عن 4000 آلاف كتاب، في الفلسفة والتاريخ والأدب والعلوم والفنون. وكيف كانت تحتوي على الأعمال الكاملة لشكسبير وفرويد ويونج وكامو، وأكثر من 700 كتاب عن الهنود الحمر.
أما عن براندو المدافع عن المظلومين ونصيرهم كما أطلق عليه، فتفند الكاتبة أسباب هذا الوصف، الذي كان يقصد به الذم أكثر من المدح، فبراندو دافع عن الحقوق المدنية وشارك في الاحتجاجات ضد التدخل الأمريكي في فيتنام وهذا معروف. كذلك دافع عن حقوق الأقليات ومنهم الهنود الحمر، وتأتي المؤلفة بالتفصيل على ذكر كواليس رفض براندو الصعود على المسرح لاستلام جائزة “أوسكار” أحسن ممثل عام 1973 عند دوره في “العراب” بسبب التناول الهوليوودي للهنود الحمر.
والقول بإنه لم يكن يظهر منذ منتصف الستينات في الأفلام إلا من أجل المال، يكذبه مشاركته الفارقة في بالعديد من الأدوار المحورية الهامة المحفورة في ذاكرة السينما في أفلام مثل “الاحتراق” (1969)، و”التانجو الأخير في باريس” (1972)، و”الأب الروحي” (1976)، و”القيامة الآن” (1979)، وغيرها من الأفلام الأخرى المهمة. وكيف أن دوره بفيلم “القيامة الآن” في شخصية الكولونيل “والتر كيرتز”، كان نتاجًا لقراءاته المتعمة عن حرب فيتنام والفلسفة الشرقية، لدرجة دفعته لإعادة صياغة أو تعديل الحبكة وشخصية الكولونيل ووضع عبارات بعينها على لسانها، ومنها المشهد النهائي، مشهد الموت، والذي وصفه براندو بأنه “أحد أفضل المشاهد التي أديتها في حياتي على الإطلاق”.
إنه في النهاية عمل رائد، يكشف لنا كيف شكل مارلون براندو إرثه في الفن والحياة. كما صحح الكثير من الأخطاء وكشف غموض العديد من الأساطير حول شخصية براندو وأعماله مثل معاداته للسامية وأنه يهوى الأدوار السياسية، وأنه كان شرهًا للأكل، وأنه قضى بقية حياته وحتى وفاته في حالة من الانكسار والبؤس إلى آخره. وقدم نجحت الكاتبة في أن تقدم لنا عنه صورة شديدة الإقناع والاكتمال. لأن كتابها لم يتمحور حول النجم السينمائي إنما تعمق في براندو الإنسان، ولم يبحث في الفضائح وإنما كشف لنا عن المثقف، صاحب المواقف المتميزة والعاشق لشعر “إيميلي ديكنسون”. إنه حول رجل ترك ميراثًا فنيًا مذهلا. وهو، في النهاية، كتاب شديد العمق على غير ما قد يوحي به عنوانه وصورته.