افتتحت فعاليات الدورة الـ76 لـ”مهرجان كان السينمائي الدولي” (16 – 27 مايو /آيار، 2023)، بالفيلم الفرنسي “جان دو بري” للمخرجة مايوين. وذلك بعد مراسم سريعة ومكثفة وفنية مقارنة بالدورات السابقة. جرى خلالها تقديم أعضاء لجنة التحكيم “المسابقة الرئيسية”. أعقبه كلمة قصيرة، عميقة وذكية، لرئيس لجنة التحكيم، المخرج السويدي “روبن أوستلوند”. القادم إلى رئاسة اللجنة بعد نصف قرن بالضبط على إسنادها إلى مواطنته الممثلة إنجريد برجمان. قارن فيها بين الأجهز الذكية والسينما. حيث واحدة تدفعها للعزلة وعدم التفكير، والأخرى للحميمية والتواصل وإعمال العقل. ثم، فقرة غنائية لفرقة “جابريلز” الأنجلو أميركية.
تلى هذا، تكريم الممثل الهوليودي مايكل دوغلاس، 78 عامًا، بمنحه “السعفة الذهبية الفخرية” تقديرًا لمسيرته المهنية، لتضاف إلى الجوائز العديدة التي حصل عليها، ومنها مرتين جائزة “أوسكار” ومرتين “سيزار فخرية”. في كلمة مؤثرة عبَّرَ دوغلاس، الذي عُرض له في “كان” سابقًا، “متلازمة الصين” (1979)، و”غريزة أساسية” (1992)، و”السقوط” (1993)، و”وراء الشمعدان” (2013)، عن تقديره وامتنانه للمهرجان، والاعتزاز بالجائزة. وذكر ثلاث محطات مهمة في حياته، وأهم من أثروا في حياته ومسيرته، خلال هذه المحطات. لتحضر على المسرح أيضًا الممثلة الفرنسية كاترين دونوف، 79 عامًا، حضورًا تكريميًا كونها نجمة ملصق المهرجان هذا العام. بكلمات بسيطة مُعَبِّرة، شكرت دونوف المهرجان. وألقت قصيدة قصيرة جدًا لشاعرة أوكرانية، عن الحالة الأوكرانية والحرب. ليُعلن بعدها افتتاح المهرجان رسميًا، وينتهي الحفل الذي قدمته وافتتحته، بأغنية إيطالية قصيرة، الممثلة والمغنية الفرنسية الإيطالية كيارا ماستروياني، ابنة كاترين دونوف ومارشيلو ماستروياني.
تلى حفل الافتتاح، الذي شهدته “قاعة لوميير الكبرى”، بقصر المهرجانات، على شاطئ الكروازيت، العرض العالمى الأول لفيلم “جان دو باري”، جديد المخرجة والممثلة الفرنسية من أصل جزائري مايوين (1976). الفيلم هو الروائي السادس الطويل لها. بطولتها أمام النجم الأميركي جوني ديب، بالاشتراك مع بنجامين لافيرني، وملفيل بوبود، وبيير ريتشارد، وباسكال جريجوري، وإنديا هير. يُعتبر الفيلم أحد أكثر الأفلام الفرنسية تكلفة خلال العام الماضي 2022، بمزانية فاقت 22 مليون دولار. وإجمالا، يُعد الفيلم من أفضل أفلام الافتتاح. على الأقل، خلال السنوات الأخيرة للمهرجان. إذ لا يمكن مقارنته أبدًا بفيلم افتتاح السنة الماضية السيئ للغاية، “القطع”، للفرنسي ميشال أزانفافيسيوس.
جزئياً، يسرد “جانّ دو باري” للفرنسية مايوين، الفيلم التاريخي الرومانسي الذي افتتح الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان “كانّ” السينمائي (خارج المسابقة الرئيسية)، قصة حياة الشابة جان فوبرنييه (مايوين)، وتطلعاتها منذ ولادتها كابنة غير شرعية لطاهية فقيرة، عام 1743. رغم عدم إكمالها تعليمها، لتركها الدراسة باكراً، ولانتمائها إلى الطبقة العاملة، ساندتها شخصيتها، الذكية والعنيدة والديناميكية واللعوبة، على تسلّق السلم الاجتماعي والارتقاء. سلاحها جمالها وجاذبيتها وسحرها كأنثى، وعهرها أيضاً، للهروب من فقرها وبيئتها.
ذات يوم، رغب عشيقها، الكونت دو باري (ملفيل بوبود)، الذي أثرى بفضل مغامراتها الجنسية، واستغلاله إياها أقصى استغلال، في تقديمها إلى الملك. بعد محاولات، تسنّى له أنْ يفعل هذا. يتجاوز لقاؤها الملك لويس الـ15 (جوني ديب) كلّ توقعاته، إذْ تحوّل إلى حبّ من النظرة الأولى، وعلاقة عاصفة، تطوّرت بسرعة وجنون.
من خلال هذه المومس، يجد الملك نفسه، ويعشق الحياة، بعيداً عن تعقيدات القصر ومراسم البلاط، الخانقة كلّها، إلى درجة أنّه لم يستطع العيش من دونها، فيُقرّر اتّخاذها محظيّة مفضلة، وعشيقة رسمية. الفيلم، المستند إلى وقائع حقيقية، كتبته المخرجة بالاشتراك مع تيدي لوسي موديست ونيكولاس ليفنتشي، ويتمحور حول العلاق بين الملك وعشيقته، وما أثارته من لغط وتذمر في البلاط الملكي، خاصة بعد أنْ جلبها الملك إلى قصر فرساي، وإقامتها فيه، وهي ليست من النبلاء. هذا يتنافى وقواعد اللياقة والآداب والمراسم الملكية. إنّها خطوة وصفت بالفضيحة، لعيش فتاة من الشارع في البلاط الملكي. في النهاية، مع مرض الملك واحتضاره، تتبدّل حياتها مجدّداً، على نحو لم يخطر ببالها، وتنتهى نهاية مأسوية، هي التي أصبحت آخر العشيقات الرسميات للملك.
رغم أنّ الأحداث حقيقية، والفيلم تاريخي إلى حد ما، ويتناول أحد أشهر ملوك فرنسا، لا تُستعرض العلاقة المضطربة بين الملك الفرنسي والشعب، خاصة أنّه مكث في الحكم 59 عاماً، وهذه أطول فترة حكم في تاريخ فرنسا، بعد الملك لويس الـ14. المثير للغرابة عدم تطرّقه إلى أنّ لويس الـ15 مُلقّب بـ”العاشق”، ومات وهو غير محبوب لأسباب عدّة، كاتهامه بالفساد، وإثارته جدل ومشكلات كثيرة، خاصة مع الكنيسة، بسبب علاقاته وزيجاته وسلوكه ونزواته المستهجنة.
الصادم درامياً، أنّ “جانّ دو باري” لا علاقة له بهذه المادة الدرامية الثرية لحياة الملك. فقط، اختُزل هذا الأخير، واختُزلت حياته العريضة، بعلاقته بجانّ. حتى تفاصيل العلاقة، عاطفياً وحسياً وإنسانياً، ليست منسوجة، ولا مُقدّمة بعمق، وغير مقنعة تماماً. إذْ ليس هناك تطوير للخيوط الدرامية بعد لقاء الملك بجانّ، واختياره لها، ولا حتّى للشخصيات، بأعماقها ودوافعها وهواجسها ونزواتها. المُثير للانتباه أنّ العلاقة الشائكة، والمضطرّبة غالباً، بينها وبين أفراد البلاط الملكي، وكراهيتهم لها، خاصة بنات الملك، لم تُستغلّ جيداً، ولم تتطوّر أبداً، لتُصبح مشوّقة ومثيرة، بحيث تقود الدراما إلى مناطق أعمق. هذا يدلّ على ضعفٍ في كتابة السيناريو، رغم أنّه كان يُمكن، مع بعض الجهد والحرفية، تقديم أفضل من ذلك بكثير.
كمخرجة، استخدمت مايوين في تصوير “جانّ دو باري” خام الـ35 ملم، لتحقيق أقصى استفادة سينمائية يُمكن توفيرها، في تقديم جماليات خالصة ومختلفة بصرياً، تخدم الأجواء المقصودة للقرن الـ18، وتبرز جماليات تلك الفترة. محاولة طموحة بالتأكيد، ساعدها حسن استغلال أجواء قصر فيرساي التاريخي وتوظيفها، حيث صُوّرت غالبية الأحداث. هنا، يبرز مجهودها، ومجهود أفراد فريقها، والتكلفة الإنتاجية الواضحة، التي أثمرت فيلماً على قدر كبير جداً من الإقناع، بصرياً. كما أنّه ليس ثرثاراً، كطبيعة هذه الأفلام، والسينما الفرنسية عامة.
“جانّ دو باري” أول فيلم ناطق باللغة الفرنسية لجوني ديب، الذي لم يُعرف عنه إجادته اللغة الفرنسية. الحكم على مدى تمكّنه منها أم لا عائدٌ إلى الفرنسيين، وأهل اللغة الفرنسية والناطقين بها. لكنْ، نظراً إلى اعتماد الفيلم على التمثيل والصورة والصمت، أساساً، لم يتطلّب دوره التحدّث دائماً، بل توظيف الجسد وتعبيرات الوجه أكثر. من ناحية أخرى، الفيلم عن جانّ، التي لم تغب عن الشاشة كلّ مدّته (116 دقيقة) تقريباً، لا عن الملك. لذا، لم يظهر ديب ولم يتحدّث كثيرًا. ساعده هذا على إخفاء لكنته الإنكليزية الأميركية. يمكن القول إنّها مغامرة جريئة تُحسَب له، وللمخرجة التي راهنت عليه، ليس فقط لكونه أميركياً يؤدّي دور أحد أهم ملوك فرنسا وأشهرهم، بل أيضاً لأنّه توقّف عن العمل منذ 3 أعوام، ولاحقته فضائح وقضايا ومحاكمات. مع هذا، أداؤه متواضع جداً. ربما لأنْ لا دور له تقريباً، فهو هناك لخدمة شخصية جانّ، التي اجتهدت مايوين، بعض الشيء، في تقديمها.