كان – محمد هاشم عبد السلام

شهدت الدورة الـ78 من “مهرجان كان السينمائي الدولي” عرض 7 أفلام عربية، ضمن أكثر من قسم رئيسي وثانوي، بواقع 6 أفلام روائية طويلة، ووثائقي واحد، وقد عُقدت الدورة بين 13 إلى 24 مايو/ أيار 2025.

اتسمت المشاركة العربية بتنوع الموضوعات والمعالجات والأداء التمثيلي والمستويات الفنية إجمالا، وفاز الفيلم الفلسطيني “كان ياما كان في غزة” للأخوين طرزان وعرب ناصر بجائزة “أفضل إخراج” في قسم “نظرة ما”، كما فاز الفيلم العراقي “مملكة القصب” لحسن هادي بجائزة “أفضل فيلم” في قسم “نصف شهر المخرجين”.

“الأخت الصغيرة”.. شابة مسلمة في صراع البحث عن الذات

ضمن “المسابقة الرئيسية” للمهرجان، عُرض فيلم “الأخت الصغيرة” (La petite dernière)، وهو ثالث روائي طويل للممثلة الفرنسية التونسية حفصية حرزي، والأول لها مخرجةً في المسابقة، لكن الفيلم لم يأت في مستوى فيلميها السابقين، على ما له من جودة الصنعة.

الفيلم مقتبس عن رواية فاطمة دعاس شبه الذاتية، بعنوان “الأخيرة” (2022)، وتتناول حياة مراهقة مسلمة تتعرف على الحياة من حولها، وتتلمس علاقتها بالآخرين، وعلاقتها بجسدها وميولها الجنسية. وذلك ضمن قصة تقليدية غير أصيلة، تمحورت حول كفاح مراهقة لاكتشاف ميولها الجنسية والإفصاح عنها. في النهاية، لم تمض المخرجة بعيدا لتقديم عمل أكثر تحديا أو جرأة أو اختلافا عما شوهد في هذه النوعية من الأفلام.

لقطة من فيلم “الصغيرة الأخيرة”.

نتعرف على فاطمة (أداء جيد جدا ومقنع للممثلة نادية مليتي)، طالبة البكالوريا المجتهدة، التي انفعلت وغضبت وضربت زميلها ذات يوم، بعدما وصفها عرضا بالشذوذ الجنسي. تدريجيا تتعرف على نفسها وميولها، لكنها تصطدم بعقبات كثيرة، أولها مع صديق وجار مرتبطة به، يعرض عليها الزواج وإنجاب الأطفال وتكوين أسرة. كما تجد نفسها أمام محاولة لإيجاد مساحة توافق بين العادات والتقاليد والدين، والمشاعر والانفعالات والرغبات الداخلية المكبوتة، مما يدفعها يوما لطلب النصح والإرشاد من إمام جامعتها، لكن لم تساعدها مشورته على رأب هذا الصدع، ولا إيجاد حل لمشكلتها.

لا تنشغل المخرجة كثيرا بخشية فاطمة من اكتشاف العائلة أو الأصدقاء أو جيرانها في الضاحية الباريسية المسلمة، بقدر انشغالها بنقل تعرفها على نفسها وجسدها، وتلمسها لهذا العالم، والمشاعر المتضاربة، والصراع الديني الذي تعيشه، لا سيما وهي مسلمة ملتزمة تحافظ على الصلاة بانتظام.

“نسور الجمهورية”.. نقد سطحي فج في حبكة هشة

في المسابقة الرئيسية، عُرض فيلم المخرج المصري السويدي طارق صالح “نسور الجمهورية”. وهو ختام لثلاثيته عن مصر، التي بدأها بفيلم “حادثة فندق النيل هيلتون” (2017)، و”صبي من السماء” (2022).

فنيا وسياسيا، لم يحد الفيلم كثيرا عن الخلطة المعتادة في الفيلمين السابقين، حتى على مستوى طاقم التمثيل، وغيره من الأمور. ومع أن المحاولة كانت جيدة في الفيلمين السابقين، مشوبة بمشاكل فنية كثيرة، فقد عاد المخرج ليكرر نفس المشاكل، لكن على مستوى أفدح، فانتهى فيلمه إلى دراما سياسية جوفاء، ذات سيناريو متعثر ومتخبط، ونقد سطحي هش وأجوف للنظام المصري وكواليسه، التي لا يعلم المخرج عنها الكثير.

تدور الأحداث حول جورج فهمي، وهو ممثل مصري محبوب، متمحور حول ذاته، مخلص لإرثه ومغامراته الرومانسية أكثر من عائلته، وهو منفصل عن زوجته وابنه الوحيد، ويعيش مع فتاة في سن ابنه المراهق، ويجد نفسه فجأة مجبرا من قِبل جهات سيادية في الدولة على القيام بدور رئيسي في فيلم عن الرئيس. يرفض في البداية، لكن سلسلة من الضغوط والأساليب المعروفة تدفعه في النهاية إلى قبول الدور. مع بدء التصوير، يقع جورج ضحية شبكة مصالح السلطة المعقدة، التي تتجاوز فهمه وسيطرته وقدرته على الرفض.

لقطة من الفيلم المصري “نسور الجمهورية”.

إجمالا، إطار الفيلم العام غير ملهم، والنبرة غير متسقة، تتأرجح بين السخرية والإثارة، والنص يتعثر بين التعليقات الاجتماعية المصطنعة والمنعطفات الميلودرامية في الحبكة. كما أن خيوط السرد الفرعية غير مقنعة.

كان يمكن تطوير الحبكة واستغلالها مادة ثرية لصنع عمل قوي عن الفن بصفته مقاومة، وعن الرقابة والتحكم في السينما، ولكن بعيدا عن الحبكة، يبدو معظم طاقم التمثيل غير ملائم، فيتعثر تعثرا ملحوظا في نطق اللهجة المصرية ومفرداتها نطقا مقنعا. يلاحظ ذلك فورا كل مطّلع على السينما المصرية أو اللهجة، كما أن الطاقم يفتقد للتناغم والإقناع في أدوارهم، ربما باستثناء عمرو واكد، الذي قدم أداء هادئا وجيدا ومقنعا في دور منصور، وهو رجل النظام الصارم المشرف على إنتاج الفيلم. في النهاية، ما كان يمكن أن يكون نقدا لاذعا وجادا وعميقا، تحول إلى مسخ فج، تلاشى بلا أي تأثير.

“سماء بلا أرض”.. حكايات من عالم المهاجرين السمر في تونس

افتتح قسم “نظرة ما” بالفيلم التونسي “سماء بلا أرض” لأريج السحيري، وهي لا تبتعد كثيرا عن مشاكل البسطاء والمهمشين، ويتناول فيلمها المختلف في موضوعه قضايا الهجرة والمهاجرين والمهمشين والمقيمين غير الشرعيين، من أصحاب البشرة السمراء تحديدا، وذلك بعد تصاعد حملات التحريض في تونس -سواء في الإعلام أو الشارع- ضد المهاجرين الأفارقة، مما أدى إلى موجة كراهية وعنف واعتقالات قسرية وترحيل.

لا يغرق الفيلم كثيرا في السياسة الداخلية، ولا إدانة السلوك الاجتماعي مباشرة، بل تسعى الحبكة لمحاولة إعطاء صورة جديدة أو مغايرة عن المهمشين أصحاب البشرة السمراء وواقعهم الهش، وتعريفنا بحياة هذه التجمعات المغلقة، أو المجهولة لدينا، وذلك بقصص 3 شابات يعشن معا في منزل واحد، نتعرف على مشاكل كل واحدة منهن.

لقطة من الفيلم التونسي “أرض بلا سماء”.

حاولت المخرجة تقديم حبكة ذات طرح مختلف، بأداء تمثيلي جيد ومؤثر بعض الشيء، ومشاهد قليلة جيدة ذات تفاصيل إنسانية مؤثرة وكاشفة، لكن الحبكة غرقت كثيرا في التفاصيل، ولم تؤد لتطور سردي، أو رصد عميق للأزمة والشخصيات ومصائرها، فأصبحنا أمام حبكة عادية أو مطروقة، شخصياتها مألوفة، الجديد فيها أنها عن شخصيات ذات بشرة مختلفة اللون، لم تقدَّم عربيا قط.

“كان ياما كان في غزة”.. شاب بين صراع المخدرات وفساد الشرطة

ضمن قسم “نظرة ما”، عاد التوأمان طرزان وعرب ناصر إلى المهرجان بجديدهما “كان ياما كان في غزة”، لانتزاع جائزة “أحسن إخراج”. وقد لقيا تصفيقا حارا تضامنا معهما ومع كلمتهما المؤثرة بعد فوزهما.

يندرج العمل تحت نوعية أفلام الجريمة والإثارة والتشويق، ومع أن خيوطه الدرامية عامة، فإنه يعرج على السياسة تعريجا صريحا، ويفرض الراهن ظلاله على بعض مشاهد الفيلم.

لقطة من الفيلم الفلسطيني “كان ياما كان في غزة”.

ومع أن الأحداث تدور قبل الحرب الحالية في غزة، تحديدا عام 2007، فيبدو أن بعض مشاهد القذف والانفجارات والتدمير الحديثة قد أضيفت إلى الأحداث، بتوظيف ذكي للمونتاج. يؤكد هذا، افتتاحية الفيلم التي بدأت بتصريحات صوتية حديثة للرئيس “دونالد ترامب”، تحدث فيها عن إمكانات قطاع غزة الهائلة والاستثنائية، وعن جعلها “ريفييرا الشرق الأوسط”.

تتناول الأحداث قصة طالب شاب يدعى يحيى (الممثل نادر عبد الحي)، وتاجر مخدرات يدعى أسامة (الممثل مجد عيد)، وهما يجبران على مواجهة شرطي فاسد أثناء بيعهما المخدرات أو حبوب “الترامادول” في فطائر بمطعم الفلافل المملوك لأسامة. لكن الشرطي الفاسد أبو سامي (الممثل رمزي مقدسي) يزاحمه في تجارته، وبعد رفض أسامة التعامل معه يبدأ يضغط عليه، ليكشف أسماء المتعاونين معه، وحين يرفض يحتدّ الصراع ويتصاعد ويقتله أبو سامي.

ننتقل إلى عام 2009، حين يصبح يحيى فجأة بطلا في فيلم إثارة وبطولة جديد بعنوان “المتمرد”، تنتجه وزارة الثقافة بميزانية منخفضة، ويؤدي فيه دور مناضل يقاوم إسرائيل، مع أنه -وهو يشبه بشدة شخصية “المتمرد” الذي يتناوله الفيلم- لم يرغب يوما في التمثيل، فهو طالب إدارة أعمال، وكل طموحاته وأحلامه في العمل خارج غزة ومغادرتها، بعدما رفضت إسرائيل منحه تأشيرة خروج. وبينما تتطور الأحداث، تجبر الظروف يحيى على الانتقام والثأر لصديقه أسامة.

“عائشة لا تستطيع الطيران”.. معاناة لاجئة طموحة في مصر

على نحو غير معهود كثيرا في السينما المصرية، حيث الإيقاع الهادئ والبطء وندرة الحوار والوجوه غير المعروفة، وتناول موضوع حساس وغير مطروق من المسكوت عنه في المجتمع المصري، قدم مراد مصطفى فيلمه الروائي الأول “عائشة لا تستطيع الطيران” (Aisha can’t fly away).

يدور الفيلم حول عائشة (أداء جيد لعارضة الأزياء “بوليانا سيمون” في أول تجربة لها)، وهي مهاجرة عشرينية من جنوب السودان، تحاول العيش بكرامة وأمن في حي عين شمس الشعبي بالقاهرة.

تكسب عائشة عيشها بالتنقل بين المنازل في خدمة المسنين، لكن الظروف تقف لها بالمرصاد، سواء في العمل الذي تكابد فيه مشاق ومشاكل وتحرشا، أو في حيّها الذي لا تسلم فيه أيضا من عقبات واستغلال وتحرش من نوع آخر، من جانب رئيس العصابة المسيطر على الحي. كما أنها تعاني من مشاكل جلدية، وعلاقة شبه رومانسية تنتهي فجأة نهاية مأساوية، فتصبح حياتها أشبه بكابوس لا يتوقف.

لقطة من الفيلم المصري “عائشة لا تستطيع الطيران”.

عبر صورة تمزج بين الواقعية السحرية والطبيعية والعناصر الخيالية، حاول المخرج تقديم معاناة عائشة، بطريقة رمزية مفارقة للواقع عن حياة المهاجرين في مصر. وكان تكرر ظهور النعامة -الطائر الذي تراه عائشة وتحلم به- استعارة لمن يدفنون رؤوسهن في الرمال، أو للعاجزين عن الطيران أو التحليق. الاستعارة حاضرة أيضا في عدة عناصر بالفيلم، بداية من المرض والصحة، والعنف والرقة، والبشري والحيواني، وحتى لون العينين اللتين تختلف إحداهن عن الأخرى.

يتناول الفيلم كثيرا من مشكلات الراهن المصري، وسياق يشجع على المقاومة والصمود والحفاظ على ما بقي من إنسانية المرء، وينطوي على عدة تأويلات فنية بالأساس، وجاءت أغلب لقطات الفيلم مدروسة وموظفة جيدا، وإن كان بعضها زائدا أو لا لزوم له في تطور السرد، أو مكررا.

لكن المشكلة الكبرى أن المَشاهد ذات العناصر الخيالية الجامحة لم تبتعد كثيرا عن المطروق والمعهود في السينما عامة، حتى إن بعضها يكاد يكون مستنسخا من أفكار أو مشاهد من أفلام بعينها. ومع أن طرح مشاهد كهذه أو تنفيذها كان جريئا، فإن المخرج لم يطلق لخياله العنان ليجمح صوب ما هو غير معهود، إلا ما كان من تحليقه الحر في بعض المشاهد، وحتى الجمل الحوارية، وأيضا حركة الكاميرا وتصوير الشخصيات والإيقاع العام إجمالا.

“الحياة بعد سهام”.. ذكاء إخراجي يحتفي بالأم بعد فقدها

عُرض في قسم “آسيد” فيلم “الحياة بعد سهام” (Life After Siham) للمصري الفرنسي نمير عبد المسيح، وينطلق مخرجه من فكرة تصوير جنازة والدته لأغراض ذاتية إلى فكرة أكبر وأعمق، تنطوي على خصوصية شخصية، لكنها ذات طابع إنساني كوني، يلامس أغلب العائلات في شتى البقاع.

بتتبع الحياة بعد والدته، وقد توفيت منذ سنوات، يعود نمير ليرصد علاقته بها، وكيفية مضي الحياة من بعدها، وقد شجعه على ذلك انفتاحها، وحبها للحكي والتصوير أمام الكاميرا. رصد يقوده لتذكر الكثير وتوثيقه واكتشافه، ليس عنها فحسب، بل عن بيئته ومولده وعلاقته بأولاده ووالده أيضا، ولا سيما ما كان يجهل عن والديه، اللذين عاشا معا أكثر من 4 عقود، وغير ذلك من التفاصيل التي يعيد استعادتها أو يتعرف عليها أول مرة. خطوة تقوده أيضا إلى الاقتراب من والده أكثر، والتعرف عليه بانفتاح أكبر.

ملصق الفيلم المصري “الحياة بعد سهام”.

إنه فيلم جيد مؤثر ذكي ذو مهارة إخراجية، نجا فيه المخرج من فخ السقوط في صناعة فيلم لمجرد توفر مادة أرشيفية مصورة، وتوليفها مونتاجيا لخلق سياق ما، فهو يوظف المادة بمهارة شديدة، ووفقا لضرورة السرد السينمائي ومقتضياته.

كما أنه اعتمد فكرة بارعة شديدة الجمال، ألا وهي عودته إلى أكثر من فيلم من علامات السينما المصرية، أبرزها وأكثرها توظيفا فيلم “فجر يوم جديد” و”عودة الابن الضال”، بدلا من إعادة تصوير المشاهد الدرامية المرادة. كما كان حضور بعض الأغاني، وما تستحضره من شجن وحنين للماضي، مناسبا للتعبير عن حالة الفيلم والشخصيات عامة.

إجمالا، ومع أن الموت كان حاضرا دائما، فإن الفيلم ليس فقط عن الفقد أو الرحيل وصعوبة تجاوز الموت وفراق الأحبة، بل أيضا عن الحب والحضور والوفاء، والعلاقة بين الأبوين، أو بينهما وبين الأبناء، أو دفء العلاقات عامة مع العائلة الكبيرة، وأنها هي الأنقى والأجمل والأبقى.

“كعكة الرئيس”.. طفلة تسعى لتحقيق مهمة رئاسية شاقة

في مسابقة قسم “نصف شهر المخرجين”، عُرض الفيلم العراقي “كعكة الرئيس” (The President’s Cake) للمخرج حسن هادي، وفاز بجائزة “أفضل فيلم”، وهي جائزة تمنح بناء على تصويت الجمهور، وهذا الفيلم هو أول روائي طويل لمخرجه، وأول فيلم عراقي يشارك في هذا القسم وفي مهرجان “كان” عامة.

ملصق الفيلم العراقي “كعكة الرئيس”.

تدور أحداث الفيلم -الذي يحمل أيضا عنوان “مملكة القصب”- في تسعينيات القرن الماضي، خلال حكم الرئيس صدام حسين، إذ يجبر طلاب المدارس على جلب كعكة للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس. ويتمحور الفيلم حول رحلة الطفلة الفقيرة لميعة، التي تعيش مع جدتها المريضة في أهوار العراق، وتحاول ببراءة وبمساعدة جدتها فطيمة التهرب من القيام بهذا الواجب القسري، لكن الاختيار يقع عليها لإنجاز الكعكة وتقديمها في يوم مولد الرئيس.

يعكس الفيلم -بطبقاته المتعددة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا- تعقيدات الحياة اليومية، وقهر الشعوب، في ظل الحكم الاستبدادي. وذلك عبر رحلة لميعة الشاقة والعسيرة لجمع مكونات صنع الكعكة قبل يوم عيد الميلاد، واضطرارها لخوض صعاب جمة لإنجاز مهمة يستحيل التهرب منها.

بهذه القصة البسيطة الصادقة القريبة من الواقع، يقدّم الفيلم رؤية إنسانية مؤثرة، تنقل قسوة الواقع ومرارته، وتشابهه مع الحاضر أيضا، بلغة سينمائية جيدة جدا، وبسيطة للغاية، ومؤثرة أيضا، تجمع بين الرمزية والصدق.