كارلوفي فاري ــ محمد هاشم عبد السلام
مساء السبت، 12 يوليو/ تموز الحالي، أُسدِلَ الستار على فعاليات الدورة الـ59 لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي”، بجمهورية التشيك، التي انطلقت في 4 يوليو/ تموز. وذلك بعد حفل ختام جرى خلاله منح الممثل السويدي المخضرم ستيلان سكارسجارد جائزة “رئيس المهرجان الشرفية”، وقد أعرب سكارسجارد عن سعادته البالغة بالعودة للمهرجان بعد 32 عامًا من الانقطاع. كما حصل المونتير التشيكي المرموق يِجِي بروجِيك على جائزة “رئيس المهرجان الشرفية” التي تُمنح لعلم من أعلام السينما التشيكية. وبعد فترة استعراضية موجزة، جرى الإعلان عن جوائز المُسابقتين الرئيسيتين للمهرجان، مُسابقة “الكرة البلورية” و”بروكسيما”، وقد عرض في المسابقة الأولى 12 فيلمًا، وفي الثانية 13 فيلمًا.

جوائز المهرجان
المثير فيما يتعلق بأمر جوائز المهرجان أن أغلب الأفلام المعروضة في المسابقتين الرئيسيتين هذا العام يصعب تصنيفها بشكل قاطع وحاسم وفقًا للأجناس والأنواع التصنيفية المعتادة. سواء باعتبارها روائية طويلة أو وثائقية طويلة أو دراما وثائقية (دكيودراما)، وما إلى ذلك. وعليه، يمكن القول إن هذه السمة الرئيسية لبرمجة أفلام المهرجان تعتبر من بين أوجه تميزه، خاصة في السنوات الأخيرة. وأنه من الصعب فعلًا إيجاد مثل هذه البرمجة في مهرجانات أخرى عديدة. إذ ثمة حرص ملحوظ في “كارلوفي فاري” على أن تكون الاختيارات التصنيفية مختلطة أو متداخلة. وفي الوقت نفسه أن تكون البرمجة السينمائية متباينة. أي تجمع بين الأفلام الحديثة والتقليدية، أو الأسلوبية والتجديدية والكلاسيكية، وأن تتوفر موضوعاتها وأساليبها ومعالجاتها على ما يثير الغرابة، وربما الإزعاج أيضًا، لكن مع الابتعاد قدر الإمكان عن الافتعال أو التحذلق.
من هنا، يتعين التأكيد على أنه ما من شك في أن المهرجان يقدّم وجبة سينمائية ليست سهلة الاستيعاب والهضم دائمًا، لكنها مفيدة ومشوقة ومحفزة، ومستفزة بالتأكيد. أقله، تطلعنا على أحدث صيحات التجريب والتجديد وحتى الشطح السينمائي، وكل ما هو غريب وغير مألوف، فكريًا وفنيًا وسينمائيًا.
جوائز مسابقة “الكرة البلورية”
كان الفوز بالجائزة الكبرى، “الكرة البلورية”، ومبلغ 25 ألف دولار أميركي، من نصيب الفيلم السلوفاكي “من الأفضل أن تُصاب بالجنون في البرية” للمخرج ميرو ريمو. في جديده، يقدّم المخرج، القادم من عالم السينما الوثائقية، طرحًا مبتكرًا، ليس فقط في جمعه بين الوثائقي والروائي على مستوى الجنس السينمائي، بل أيضًا عبر التوليف الأصيل والصادق بين الجد والهزل، الجنون والعقلانية، وحب الحياة والزهد فيها. ما يجعل الفيلم، إجمالًا، وبدون مغالاة، من أغرب الأفلام المعروضة خلال هذا العام.

تتناول الأحداث الشقيقين التوأمين فرانتيشيك وأندجيه كليشيك، وحياتهما الغريبة في إحدى القرى النائية، ضمن مزرعة يعيشان فيها معًا منذ الطفولة. يرصد الفيلم التفاصيل والوقائع الغريبة لمعيشتهما معًا، حيث الكثير من العمل الجاد والمهلك في الاعتناء بالدواجن والماشية وفلاحة الأرض، من دون أن يخلو الأمر من مشاحنات وشجار، ثم مصالحات وعناق وبهجة. تفاصيل الحياة اليومية، والروتين المتكرر تقريبًا، تسهم في وصول الضحك الصادق والجنون المطبق. كما تسهم في تجسيد وإبراز المحور الأهم في الفيلم، ألا وهو الحرية المطلقة، والتحرّر من كل ما يمت للعالم الحديث بصلة، ومعانقة الطبيعة أو البرية لدرجة عدم الخشية من أن تصيبهما بالجنون.
أما جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” وقيمتها 15 ألف دولار أميركي، فذهبت إلى الفيلم الإيراني “بي داد” للمخرج سهيل بيرقي. يعتبر الفيلم من بين أهم وأقوى وأنضج الأفلام التي عرضت مؤخرًا لمخرجين إيرانيين. كالعادة، يتناول فيه، بمنتهى الصراحة والوضوح والجرأة والصدق، مشاكل معاصرة، بالغة الحيوية والأهمية، في المجتمع الإيراني الحديث.
تدور الأحداث حول معاناة الشابة “سيتي” التي تحب الموسيقى والغناء، وتكافح من أجل أن يصل صوتها في محيط يحاول قمعه أو إسكاته. بداية من المنزل، وعلاقتها الشائكة بوالدتها، وليس انتهاء ببلد لا يزال يَحرِم النساء من الغناء في الأماكن العامة، حتى وإن كان هذا الغناء في الشوارع، أمام المارة.
أما جائزة أفضل إخراج فذهبت مناصفة إلى فيلمين من فرنسا وليتوانيا. الأول بعنوان “بدافع الحب” للمخرج الفرنسي ناثان أمبروسيوني. رغم بساطته، يطرح الفيلم سؤالًا مهمًا عن المسؤولية وتحملها، ومدى القدرة على التأقلم مع الظروف المفاجئة غير المرغوب فيها، وهل للحب أي دور في خلق هذا التأقلم. يتجلى هذا بعدما تتفاجأ جان بوصول شقيقتها سوزان وطفليها في زيارة أُسرية مفاجئة. يتضح بعد الزيارة غير البريئة أن جان ستضطلع بمسؤولية غير متوقعة.
الفيلم الثاني يحمل عنوان “الزائر” للمخرج الليتواني فيتوتاس كاتكوس. على نحو مؤثر وصادق، نتعرّف على دانيليوس الذي يترك زوجته في النرويج للعودة إلى بلده ليتوانيا لبيع شقة والده، لكن الزيارة التي كانت من المفترض أن تنجز سريعًا تمتد لأسباب متعلقة بالحنين للجذور وصعوبة التخلص من الماضي والذكريات.
ذهبت جائزة أحسن مُمثل إلى الألماني الإسباني أليكس برانديمول، بطل الفيلم الإسباني الطويل “عندما يصبح النهر بحرًا” للمخرج بيير فيلا إي بارسيلو. المثير في أمر الفيلم أن الممثلة كلود هيرنانديز، المؤدية لدور المراهقة جايا، ضحية الاغتصاب بواسطة صديقها، لم تفز بجائزة التمثيل، ونالها والدها (لم يذكر اسمه بالفيلم) الذي حاول على مدى الأحداث الممتدة لثلاث ساعات، امتصاص الصدمة التي تمر بها ابنته، رغم الصعوبة البالغة.
أما جائزة أحسن ممثلة فذهبت إلى النرويجية بيا تيلتا عن دورها في الفيلم النرويجي “لا تناديني ’ماما’” للمخرجة نينا كناج. رغم أن قصة المرأة الثرية المتحققة، ربة العائلة، التي تقع في غرام مراهق ليست جديدة أبدًا، حتى وإن كان المراهق هنا هو سوري لاجئ في النرويج، إلا أن الأداء المتميّز من جانب بيا تيلتا في دور إيفا، أنقذ الفيلم إلى حدّ كبير من فخ التكرار والملل، وربما لهذا استحقت الجائزة التي لم تنافسها فيها ممثلة أخرى.
ربما بدافع تشجيع الأداء الجيد والناضج للممثلة الشابة كاتاجينا فالبروفا قررت لجنة التحكيم حصولها على “تنويه خاص”، عن دورها في بطولة الفيلم التشيكي “أصوات متكسرة” للمخرج أوندريج بروفازنيك. ببراءة وعفوية وصدق، جسدت كاتاجينا دور المراهقة كارولينا، 13 عامًا، ذات الحنجرة الذهبية، التي يستدرجها قائد الفرقة الموسيقية إلى سريره، بعدما نسج شباكه حولها بمهارة ودهاء.
جوائز مُسابقة “بروكسيما”
كالعادة، ركزت النسخة الرابعة من مسابقة “بروكسيما”، على الاتجاهات التقدمية والأسلوبية والتجديدية في صناعة الأفلام. ضمت المسابقة هذا العام 12 فيلمًا تعرض للمرة الأولى عالميًا، إضافة إلى فيلم واحد فقط يعرض دوليًا لأول مرة.
بعد عرض الفيلم البنغلاديشي “مدينة الرمل” لمهدي حسن، كان في صدارة الترشيحات، والأفلام المؤهلة للمنافسة بقوة داخل القسم، نظرًا لموضوعه الجديد ومستواه الجيد، وبساطته أيضًا. صحيح أن الفيلم شهد منافسة قوية من جانب فيلمين أو أكثر، تحديدًا “تشريح الأحصنة” للمخرج البيروفي دانيال فيدال توشي، و”المستقبل المستقبل” للبرازيلي دافي بريتو، لكنه في النهاية انتزع، عن جدارة، “الجائزة الكبرى” وقيمتها 15 ألف دولار أميركي.

تدور الأحداث حول رجل وامرأة في منتصف العمر، إيما وحسن. بخلاف سكنهما في نفس البناية، إلا أن ما يجمع بينهما هو هواية غريبة جدًا تتمثل في الولع باقتناء الرمل بمختلف أنواعه، وذلك لأغراض واستخدامات مختلفة. رغم وحدة المكان والزمان، والعوالم المشتركة بينهما، إلا أن المخرج قدّم من خلال الشخصيتين عملًا مكثفًا للغاية، يحمل الكثير من الدلالات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، في مدينة تعج بشخصيات يطحنها الواقع بلا رحمة.
منحت “الجائزة الخاصة للجنة التحكيم” البالغة 10 آلاف دولار أميركي، للوثائقي “الطب الشرعي” للكولومبي فيديريكو أتيهورتوا أورتيجا. المخرج الذي حاول تقصي جذوره السينمائية في فيلمه الأول “حريق مكتوم”، يعود في جديده للنبش في ذاكرة بلده، وتاريخها وحاضرها، من خلال 3 حكايات متقاطعة عن الاختفاء، وفقدان أثر أو مصير الأحباء أو الأقارب أو الأصدقاء. وذلك من خلال استعادة ذكريات بعض الأصدقاء عن مفقودين لهم. أو لجوء أفراد الطب الشرعي لفحص المواقع أو ما يعتقد أنها مقابر جماعية. أو عبر الاعتماد على الذاكرة والتخيل والفن، لملء الفجوات ومحاولة تخيل مصائر من لا أثر لهم. ورغم أن الفيلم لم يكن الأفضل، واستحق غيره هذه الجائزة لأسباب عديدة، إلا أن موضوع الفيلم الشائك سياسيًا واجتماعيًا، يبدو أن تأثيره كان قويًا على لجنة التحكيم.
أما الفيلم البلجيكي “قبل/ بعد” للمخرج مانويل ديبون فقد حصل على “تنويه خاص” من لجنة التحكيم. حصول الفيلم المتواضع جدًا على هذه الجائزة يثير الدهشة فعلًا، نظرًا لكون الفيلم لا يستحقها بالمرة، بل ربما لم يكن يستحق المشاركة في المسابقة أصلًا. تدور أحداث الفيلم البسيط على كافة المستويات، فكريًا وإنسانيًا وفنيًا، حول الرغبة في الشعور بالرضى عن النفس، والبحث عن الهوية، والتواصل الإنساني. حاول المخرج أن يجسد هذا من خلال توطيد التواصل الإنساني والصداقة بين جيريمي وبابتيست، اللذين جمعت بينهما الرغبة في محاربة الصلع في رأسيهما، والذهاب معًا إلى تركيا لزراعة الشعر.
يُذكر أن “جائزة الجمهور”، والتي تمنح بناء على تصويت الجمهور إلى أفضل فيلم عرض خلال أيام المهرجان، نالها الفيلم الوثائقي “علينا أن نؤطره: محادثة مع يري بارتوشكا”، للتشيكيين ميلان كوشينكا وجاكوب جوراسيك. يتوقف الفيلم الوثائقي أمام محطات فارقة في تاريخ الممثل التشيكي الأسطوري يري بارتوشكا. وتحديدًا، العقود الثلاثة التي ترأس خلالها “مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي”، وأسهم في تطويره ونجاحه، وفرض وجوده على ساحة المهرجانات الدولية. وقد عرض الفيلم بمناسبة وفاة بارتوشكا في مايو/ أيار الماضي، قبل أسابيع قليلة من انطلاق دورة هذا العام.
أخيرًا، وبخلاف مهرجانات كبرى عديدة لا تعلن عن مواعيد دوراتها القادمة إلا بعد فترة طويلة، أعلنت الإدارة الفنية للمهرجان، قبل انقضاء 24 ساعة على حفل الختام وتوزيع الجوائز، عن مواعيد الدورة القادمة الـ60، والتي من المقرر أن تنعقد فعالياتها في الفترة بين 3 – 11 يوليو/ تموز 2026.