محمد هاشم عبد السلام
كثيرًا ما ألهمت الأعمال الأدبية الخالدة في التراث الإنساني خيال الفنانين في مُختلف أنحاء العالم، لاستلهامها أو النسج على منوالها أو إعادة مُعالجتها برؤى مُعاصرة أو مُجرد تقديمها في أعمالهم وبلغاتهم الخاصة. وبطبيعة الحال، لم يشذ الفن السينمائي عن هذا السياق أو النهج الذي انتهجته بقية الفنون، إذ تصدى العديد من عمالقة الإخراج السينمائي لتناول الكثير مثل هذه الأعمال والنهل منها، وذلك منذ اختراع فن السينما وحتى يومنا هذا. ومن اللافت أنه من بين الكثير من المخرجين الذين تصدوا لتقديم تلك الروائع سينمائيًا، كان للمخرجين الإيطاليين النصيب الأكبر، على الأقل مقارنة بأقرانهم من المخرجين الأوروبيين.
وقد كان على رأس تلك الأعمال الخالدة التي ألهمت وألهبت خيال المخرجين السينمائيين قديمًا وحديثًا، ذلك العمل الإبداعي الخالد الذي يحمل عنوان “الديكاميرون أو الأيام العشر” للأديب الإيطالي الشهير جيوفاني بوكاتشيو (1313 – 1375). ومن بين من قاموا بتقديم “الديكاميرون” في تاريخ السينما الإيطالية على وجه التحديد، عظماء بحق في مجال الإخراج السينمائي مثل فيتوريو دي سيكا، وفيدريكو فيلليني، وماريو مونتشيلي، ولوكينو فيسكونتي، وذلك في عام 1962، في فيلم حمل عنوان “بوكاتشيو 70”. وبعد ذلك قدَّمَ اسم لا يقل أهيمة عن تلك الأسماء في تاريخ السينما الإيطالي، وهو بييرو باولو بازوليني، نسخته الخاصة في عام 1971، والتي حملت عنوان “الديكاميرون”. ومؤخرًا، تحديدًا في صيف عام 2015، عاد الأخوان باولو وفيتوريو تافاياني، من أهم الأسماء المعاصرة في تاريخ الإخراجي السينمائي الإيطالي والعالمي، لتقديم الديكاميرون، وذلك في فيلمهما الأخير المتميز الذي حمل عنوان “بوكاتشيو الرائع“.
ولأنه من نسل هذه السلالة، وابن نفس الثقافة وذلك الموروث وتلك اللغة، وتتلمذ على يد هؤلاء العمالقة وإن لم يكن هذا بالمعنى الحرفي للكلمة، فلم يكن مُستبعدًا أن يتصدى المخرج الإيطالي المتألق “ماتيو جاروني“، أحد الأسماء التي لمعت منذ سنوات ليست بالبعيدة في سماء الإخراج السينمائي الإيطالي والعالمي لتقديم عملا غير معاصر، يستلهم فيه أحد أهم الكتب التراثية الخالدة التي أثرت في تاريخ ووجدان الشعب الإيطالي، والتي تركت بصمتها التي لا تمحي على العديد من الأدباء العالميين والكثير من الأعمال التي باتت خالدة، مثل “الجميلة النائمة” و”سندريلا”. وقد آثر “ماتيو جاروني”، العودة إلى كتاب لا يقل أهمية عن “الديكاميرون”، ولاسم لا يقل شهرة عن اسم “بوكاشيو”، وهو كتاب “حكاية الحكايات أو تسلية الصغار”، والتي قام بجمعها وصياغتها الأديب الإيطالي “جيامباتيستا باسيلي” (1566 – 1632). وقد حمل فيلم “جاروني” عنوان “حكاية الحكايات”، وهو الثالث له على التوالي الذي اشترك في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان”، وذلك بعد فيلميه “جومورا” (2008) الفائز بالجائزة الكبرى، و”واقعية” (2012).
في بعض الأحيان يجد المبدع نفسه مُحاصرًا ومُثقلا بالواقع وبكل ما يحدث فيه، وعندما يرغب في تناوله إبداعيًا يعجز أحيانًا عن التناول الواقعي لأسباب عدة، ومرات يخونه الخيال وتفارقه الاستعارة ويتخلى عنه الرمز، فلا يجد من سبيل أمامه لتقديم الواقع أو نقل المشاعر والرغبات سوى الإيهام بالسباحة بعيدًا عن الواقع والإغراق في الخيال المفارق له، والتحليق في سماء الخرافات والأساطير والأمثولات القديمة بعوالمها وكائناتها ومخلوقاتها وشطحها المتجاوز للواقع، بغية إيصال رسالته أو ما يؤرقه ويرغب في تناوله، حتى وإن كان ما يرغب في تقديمه، في النهاية، هو مجرد عمل يثير في المتفرج الإعجاب والمتعة والدهشة. وهذا على وجه التحديد هو ما فعله المخرج “ماتيو جاروني” في فيلمه “حكاية الحكايات”، الذي اشترك في كتابة السيناريو له مع كتاب السيناريو “إدواردو ألبيناتي” و”أوجو تشيتي” و”ماسيمو جوديوسو”. وقد اختار كُتّاب السيناريو أن يتناول الفيلم ثلاث حكايات فقط، من بين الحكايات العديدة التي تم جمعها في خمسة مُجلدات.
تتمحور الحكايات الثلاث التي اختارها “جاروني” لتشكل المادة الأساسية لفيلمه حول موضوعات عدة متعلقة بالرغبات والشهوات الإنسانية، الحب والكراهية، الطموح والغيرة، عدم القناعة والرضا بالقدر، التوق لتحقيق الكمال والتطلع للمستحيل، وأخيرًا الموت مقابل الحياة والأخذ مقابل العطاء. كل تلك الرغبات الإنسانية الحميدة والذميمة نستطيع تلمسها ورصدها بدقة في ثنايا القصص الثلاث، عندما نزيل عنها كل ما هو غرائبي وأسطوري، ونرد الأبطال أو الشخصيات إلى حالتها الإنسانية، وقبل كل هذا، محاولة التجرد من متعة المُشاهدة التي نستمدها من حكايات الفيلم، وطبيعة الشخصيات والأجواء، والمناظر الطبيعية الخلابة للأنهار والجبال والقلاع، والاكسسوارات الباروكية البارزة في كل مشهد، ناهيك عن جمال التصوير من جانب مدير التصوير الساحر “بيتر سوشيتسكي” والألوان والموسيقا، وتعمد “جاروني” التصوير للشاشة العريضة، إضافة لتقنية تقاطع القصص مع بعضها البعض، لإضفاء الكثير من الإثارة والتشويق والمتعة.
في النهاية، ليس ثمة شك في أن كل تلك العناصر التي تحدثنا عنها، إلى جانب تعمد المخرج عدم اللجوء إلى أو الاستعانة، باستثناء مشهد واحد، بأي تقنية من تقنيات الكمبيوتر الحديثة لخلق الأجواء والمناظر والديكورات والمواقع بالفيلم، إضافة إلى خيال القائمين على كتابة السيناريو، الذي تجاوز كثيرًا في شطحه الخيال الذي حلقت فيه القصص، وإن كان قد وقع في النهاية في فخ النفس القصير، وصعوبة إغلاق الحكايات على نحو قوي وجذاب ومقتنع يتماشي مع غرائبيتها وعجائبيتها طوال الفيلم، استطاعت كلها في النهاية أن تُقنِعنا بما لا يدع أي مجال للشك أننا بالفعل في بصدد معايشة أحداث حقيقية، وأن كل ما نراه أمامنا من ممالك وشخصيات غريبة ومخلوقات خرافية تمت للواقع بصلة.
على امتداد ما يزيد عن الساعتين قليلا، تدور القصص الثلاث في وحول ملوك ثلاث ممالك مختلفة متخيلة في فترات زمنية غير محددة، مملكة “لونجتريليز” وملكها (جون رايلي) وزوجته (سلمى حايك)، ومعاناتهما من العقم وعدم وجود خليفة للملك. ولفرط بحثهما المحموم عن طريقة تلبي رغبتيهما، يأتيهما ما يبدو أنه شخص خرافي ليخبرهما بالوصفة الناجعة، والتي تتمثل في ضرورة إتيان الملك بقلب وحش البحر، لتأكله الملكة بعدما تطبخه طاهية عذراء. كلتا المرأتين ستحملان وتلدان، الأولى فور انتهاء الطبخ والأخرى بعد تناول القلب مباشرة، وبالفعل يولد توأم، ابن الملكة “إلياس” وابن الطاهية “جوناه”، ويتربى التوأم وقد ارتبط أحدهما بالآخر، وهذا بدوره يولد صراعًا في القصة. وفي مقابل الحياة الجديدة التي تدب في جنبات القصر، يفارق الملك الحياة جراء تلك المغامرة المُهلكة، وذلك في تحقق لنبؤة الرجل الخرافي الناصح لهما.
وفي مملكة “سترونجكليف” وملكها (فينسينت كاسيل)، حيث ملكها الغارق في الملذات والشهوات الماجنة، ذات ليلة أن يتناهى لسمعه من منازل ما أحد الأصوات الشديدة العذوبة، فيحاول بشى السبل من وراء الباب أن يدعو صاحبة الصوت إلى مخدعه، دون أن يدري أن صاحبة الصوت محض عجوز شمطاء تكاد تكون قد فارقت الحياة لفرط نحولها وذبول جلدها. وتحت ضغط وتحايل من شقيقتها التي لا تقل عنها بشاعة تذهب خلسة للقصر، وعندما يكتشف الملك الخدعة يأمر بإلقائها من النافذة فتهوى، لكن تحميها فروع الأشجار فلا يمسها أذى. يأتيها أحد المخلوقات الذي يحولها إلى شابة غاية في الحسن والجمال تسلب عقل ذلك الملك، فيتزوجها على الفور، لكن شقيقتها تأبى التنازل عن نفس ما تحصلت عليه شقيقتها الشابة، فتكون المأساة.
أما مملكة “هايهيلز”، والتي يحكمها (توبي جونز)، الذي يُدلل ابنته غاية التدليل، والتي تظن بدورها أنها جميلة الجميلات، فتضع شروطًا مُستحيلة لمن يرغب في الزواج بها، فتقع بالتالي في شر أعمالها. وذات يوم، بعدما لدغ والدها أحد البراغيث، يفتتن به الملك أيما افتتان، فيقوم بتربيته والسهر على راحته، حتى يكبر ويتضخم على نحو بشع، لكنه يلهو الملك ويسليه، ولذا يهتم به أكثر حتى من ابنته. يموت البرغوث، فيُعلِّقُ الملك جلده في قاعة العرش ويدعو جميع أهل المملكة للتعرف عليه، ويمنح يد ابنته كجائزة لمن يتعرف على ماهية ذلك الجلد، وإذ بأحد العمالقة الأقرب للمسوخ يتعرف عليه، فيُسقط في يد الملك. تحاول الابنة الانتحار، وبدوره يحاول الملك الوفاء بكلمته التي قطعها على نفسه أمام أهل مملكته.