محمد هاشم عبد السلام

لسنوات طويلة، تمحورت موضوعات الأفلام الفنية القادمة من منطقة أوروبا الشرقية تحديدًا حول الحروب وتبعاتها. وحول رصد ما جرى لهذه الدول في ظل الحكمين النازي والشيوعي، وغيرها من تطورات سياسية عاصفة، أفضت إلى دخول منطقة جنوب شرق أوروبا في صراعات دموية، عرقية وإثنية ودينية، دامت لسنوات، أسفرت في النهاية عن مجازر ترقى للتطهير العرقي. ناهيك عن انقسامات وفواجع لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.

منذ سنوات تناهز العقد تقريبًا، أخذت الموضوعات الراصدة للحروب وتبعاتها، والماضي الدموي الأليم، في التواري. أو، على الأقل، خفت وتيرتها كثيرًا. “الحمولة” (2018) للصربي أوجنين جلافونيك، و”إلى أين تذهبين يا عايدة؟” (2020) للبوسنية ياسميلا زبانيتش، كانا من أهم وآخر الأفلام الروائية الطويلة اللافتة في هذا الصدد، ليتكرس بعدهما العزوف اللافت عن تناول موضوعات الحروب وتبعاتها، والتركيز أكثر على تناول موضوعات أخرى، يغلب عليها أيضًا الابتعاد عن تناول اليومي، والحاضر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في تلك البلدان. إذ تتمحور موضوعات الأفلام حاليًا حول الهجرة أو الاضطرار للعيش في المهجر، والحنين إلى الماضي، والعودة إلى الجذور.
بات من اللافت جدًا أن موضوعات الهجرة والمهجر، أو الحنين أو العودة إلى الجذور، بمختلف تنويعاتها، والناجمة عن أسباب مختلفة منها الهروب من قسوة الحاضر وضيق الحال، أو الضياع الوجودي، من أكثر الثيمات الفنية المتكررة في أفلام شرق وجنوب شرق أوروبا، المعروضة خلال السنوات الأخيرة في مسابقات أو على هامش “مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي“، المهتم أساسًا بعرض الأفلام القادمة من تلك المناطق الجغرافية، والتي عادة ما لا تجد لها مساحة في المهرجانات الأخرى الكبرى، الخاضعة أكثر لأذواق واختيارات وتوجهات مختلفة من ناحية، وسطوة وحسابات ومصالح استوديوهات وشبكات وشركات إنتاج وتوزيع من ناحية أخرى.

العام الماضي مثلًا، كانت هذه الثيمة حاضرة عبر أكثر من فيلم في المهرجان ومسابقاته، وكان أبرزها فيلم “بدون رياح” (2024) للبلغاري بافل جي. فيسناكوف. تمحورت أحداثه بالأساس حول عودة شاب بلغاري إلى بلده لبيع شقة والده، ليجد نفسه في النهاية وقد تصالح مع ماضيه. خاصة ذكرياته الأليمة مع والده الراحل. هذا العام، حضرت ثيمة العودة أيضًا عبر أكثر من فيلم وفي أكثر من مسابقة. وإن تجلت في ثلاثة أفلام تحديدًا، “الزائر”، و”كيف أصبح كل شيء أخضر هنا؟”، و”المدرسة الصيفية، عام 2001”. ثلاثة أفلام من بقع جغرافية ومجتمعات ولغات مختلفة، يجمع بينها نفس الهم الإنساني المتمحور حول المهجر والغربة والابتعاد، الطوعي أو القسري، عن بلد المرء ولغته ومجتمعه، لأسباب مختلفة ومتعددة.

“الزائر”

“الزائر”، الروائي الأول الطويل للمخرج الليتواني فيتوتاس كاتكوس، (الفائز مناصفة بجائزة “أفضل إخراج” في “كارلوفي فاري” الـ59). المعروف أيضًا بعمله كمصور سينمائي بارع، وبإدارته لتصوير الفيلم الليتواني الرائع “سام” (Toxic)، الحائز على جائزة “الفهد الذهبي” في “مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي”، عام 2024.
يجد فيتوتاس زاوية جديدة لتناول فني مغاير لموضوعه. إذ يسلط السيناريو، الذي شاركت ماريا كافتارادزي في كتابته، الضوء أكثر على الشعور المُربك الناجم عن العودة إلى مكان كان يومًا ما موطنًا للمرء. ومدى اكتشاف المرء لنفسه كغريب في هذا الموطن، بدون أن يفطن لهذا من قبل.

من فيلم “الزائر” حيث دانيلوس يقضي الوقت مع جاره.

تتناول الأحداث قصة دانيلوس (داريوس سيليناس) البالغ من العمر 30 عامًا، وهو مهاجر ليتواني يقيم في النرويج مع زوجته النرويجية ورضيعه. يقرر دانيلوس العودة إلى مسقط رأسه، بعد وفاة والده، لبيع شقة والديه. لكن، بمجرد وصوله إلى هناك، وبدلًا من العودة مسرعًا إلى عائلته الصغيرة للهروب من الوحدة والعزلة والغربة، لا يستطيع إجبار نفسه على المغادرة. يعلق هناك طواعية، ويسمح لنفسه بمعانقة وحدته، والاقتراب من نفسه، والتعرف على ذاته، وإعادة تأمل حياته وذكرياته المبكرة. هل عاد دانيلوس، بذريعة بيع شقة والديه، ليطوي للأبد صفحة حياة تركها خلفه ولم يستطع التخلي عنها تمامًا؟ أو لأسباب أخرى، مثل الرغبة في استعادة خفة أو سعادة الأيام الخالية وراحة البال؟
عبر شظايا قصة بسيطة أو حتى متواضعة، لا تنطوي على أحداث ضخمة، وبلا ارتباط صارم بإيقاع زمني متطور ومتسارع، تتراكم الأحداث تدريجيًا، بعمق وهدوء وتركيز، وباستخدام حوارات موجزة ومقتضبة على نحو متعمد أحيانًا، ينقل المخرج محاولة شاب إيقاف مرور الزمن، واستعادة الماضي، دون جدوى. يحاول دانيلوس عبثًا إعادة التواصل مع الأصدقاء القدامى، والاستمتاع بترحيب مُتوهم. لكن تقطعت الروابط القوية التي كانت تصله بالجميع. لدرجة أنه لم يعد يعرف كيف يتنقل بأريحية في الأماكن التي كانت مألوفة في طفولته. ورغم أن عائلته الجديدة تنتظره بفارغ الصبر في وطنه المُتبنّى، إلا أن الزيارة تستمر وتمتد لفترة أطول، لانغماسه المتوهم في إعادة التواصل مع الناس وماضيه، في مدينة لم يعد يشعر أنها تخصه.
في “الزائر” يعمد المخرج كاتكوس إلى توظيف الكاميرا بحيث تلتقط زوايا وكادرات غير مألوفة. تحديدًا، الابتعاد قدر الإمكان عن اللقطات المقربة، والإكثار من اللقطات المتوسطة أو الواسعة. والمحافظة الدائمة تقريبًا على ثبات الكاميرا، ورصدها الثابت للأحداث، للإمعان في رصد الغربة والاغتراب، رغم رحابة الأفق وجماليات وحميمية الأجواء المحيطة.

“كيف أصبح كل شيء أخضر هنا؟”

في “كيف أصبح كل شيء أخضر هنا؟” للصربي نيكولا ليزيتش، يعود المخرج بعد خمسة عشر عامًا، بفيلمه الروائي الثاني القوي كسابقه، لكن بموضوع ذاتي تأملي عميق، حزين وساخر، ينتمي مجازًا لنوعية أفلام الطريق، أو يمكن اعتباره رحلة تحاول رصد ضياع ذاكرة وتبدد هوية.
تتكشف أحداث الفيلم خلال رحلة نهاية أسبوع إلى دالماتيا. تتتبع القصة مخرجًا تجاريًا في الثلاثينات من عمره، يحمل اسم نيكولا ليزيتش (فيليب دوريتش)، على وشك أن يصبح أبًا لأول مرة. رغم زواجه الذي يبدو ناجحًا، وحالته المادية الممتازة، لكن يبدو أن نيكولا ليس سعيدًا بمسيرته المهنية، وابتعاده عن السينما، وغرقه في الإعلانات التجارية. وانتظاره اليائس لفرصة إخراج فيلم روائي طويل جديد.

نيكولا يتفقد القرية صحبة والده ميركو .

ذات يوم، يخبره والده ميركو (إيزودين بايروفيتش) أن ثمة فرصة سانحة لإعادة رفات جدته الراحلة بيرا، التي فرت من كرواتيا في أثناء الحرب في التسعينيات، وتوفيت في صربيا، إلى قريتها الأصلية في دالماتيا. ولأن نيكولا لم ير منزل جدته منذ 25 عامًا، ينطلق بحماس في هذه الرحلة مع والده وبعض أفراد عائلته، الذين يلتحقون بهما، لإعادة دفن رفات جدته الراحلة في قريتها. ظاهريًا، لا يحدث الكثير، لكن تحت السطح يكمن الكثير المتجاوز لمجرد سرد بسيط عن واجب عائلي، ليلامس الفيلم السياسي أيضًا، رغم تمحوره بالأساس حول الهوية والغربة والاغتراب وسطوة الماضي على الحاضر، ومحاولة التصالح معه. وذلك، دون مباشرة أو التورط في الافتعال.
من هنا، تعتمد حبكة فيلم “كيف أصبح كل شيء أخضر هنا؟” على تجميع لحظات قصيرة، عوضًا عن تقديم وقائع كبيرة. وبينما يعبرون الحدود ويصلون إلى القرية النائية، يجد نيكولا نفسه إزاء إعادة تقييم هادئة لهويته. ويصبح الفيلم سهلًا وممتعًا، ومعظم نقاطه التي تبدو غامضة تترسخ في الذهن وبقوة بعد نهايته.
رغم طبيعة الموت والذكريات والحنين المخيمة على الأجواء الشتوية الباردة، إلا أن المخرج يبرع في نقل لحظات من الجمال الهادئ عبر ألوان دافئة، لا تعكس كثيرًا القتامة الجاثمة في الأجواء. كما أن دفء المحيط الأسري، والحوارات الخالية من المعنى تقريبًا، خلا الحفاظ على التواصل الإنساني، تبدّد برودة الطقس والمشاعر والأطلال والقبور.

دردشة عائلية، لقطة من “كيف أصبح كل شيء أخضر هنا؟”

أما الجديد الذي يستكشفه المخرج في فيلمه فمتعلق أساسًا بالذاكرة والتذكر. وكيف أن ذكريات المرء قد تكون محض خيالات أو تصورات أو أوهام لا تمت للواقع بصلة. يتجلى هذا بوضوح بعد زيارة نيكولا إلى القرية، ومعاينة منازل وأماكن لم تبق في الذاكرة، أو بقاياها مشوشة وممزوجة بتخيلات وتوهمات. ينطبق هذا أيضًا على بشر تعجز ذاكرته عن تذكر وجوههم أو أسمائهم، رغم تذكرهم له. وربما لهذا، وليس لأسباب لها علاقة بطبيعة مهنته كمخرج، يقوم نيكولا بتصوير كل شيء بكاميرته. بما في ذلك الطقوس في الكنيسة، ومراسم الدفن. ربما لتثبيت أبدي أخير للتفاصيل الدقيقة في كل لفتة عابرة، أو تعليق أو ضحكة أو رد فعل عرضي من أفراد العائلة من حوله.

“المدرسة الصيفية، عام 2001”

أيضًا، في فيلم “المدرسة الصيفية، عام 2001” للتشيكي الفيتنامي دوزان دوونج، وهو الروائي الأول الطويل له بعد عدة أفلام قصيرة، يرصد المخرج شخصية فيتنامية تعود إلى “وطنها” أو “أرض الميلاد” في جمهورية التشيك. ترجع فرادة الفيلم لكون المخرج أول من يسلط الضوء على الحضور القوي والمؤثر والمجهول تقريبًا للجالية الفيتنامية في ربوع جمهورية التشيك. وكون الفيلم هو أول فيلم فيتنامي تشيكي خالص تقريبًا.
تاريخيًا، بدأ الوجود الفيتنامي في جمهورية التشيك بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه ازداد خلال الحرب الباردة. خاصة خلال سنوات الستينيات والسبعينيات، لتصير الجالية الفيتنامية من أكبر الجاليات المعترف رسميًا بوجودها كأقلية قومية في جمهورية التشيك. ورغم محافظة الجيل الأول على العادات والتقاليد والثقافة واللغة، إلا أن الجيل الثاني اندمج سريعًا في المجتمع، وباتت التشيكية هي الهوية الأم، لغة وجنسية وثقافة. ما خلق، من حين إلى آخر، صراعات مكبوتة أو علنية حول ازدواج الهوية، ومشكلة الانتماء، والجذور، والوطن الأم، وغيرها الكثير.

لقطة أثناء الاحتفال بعيد ميلاد الابن الوافد كين.

في فيلمه، “المدرسة الصيفية، عام 2001″، يحاول دوزان دوونج، الذي ولد في فيتنام وانتقل وهو في الرابعة إلى جمهورية التشيك، رصد الكثير من هذه المعضلات، حتى لدى أبناء الجيل الثاني من الفيتناميين. وربما لأول مرة في السينما التشيكية، يقترب المخرج وبعمق من رصد هذه الجالية، وتقديم صورة متعددة الأوجه للشتات الفيتنامي في التشيك. وذلك عبر سرد يركز على عائلة فيتنامية فقيرة، يستكشف من خلالها التوترات بين الأجيال، والنزوح الثقافي، وقضايا الهوية في تجربة المهاجرين. أيضًا، تسليط الضوء على هذا الغيتو الفيتنامي، داخل ما يطلق عليه “الحي الصيني الفيتنامي”، أو ما يعرف رسميًا باسم السوق الفيتنامية الكبيرة في براغ. وانطلاقًا منه، يفتتح المخرج فيلمه بلقطات لباعة جد بسطاء، يبيعون للسياح الألمان وغيرهم، بضائعهم المزورة والمُهربة، بأبخس الأثمان.

لقطة من “المدرسة الصيفية عام 2001”: العائلة الفيتنامية تجتمع معًا.

يتتبع الفيلم أسرة دونج (دوان هوانج آنه)، صاحب كشك الملابس الصغير في السوق الفيتنامية، الذي تدفعه الديون إلى الاعتماد على كبير الجالية الفيتنامية، زونج (آن دوان هوانج)، المتورط في أعمال قذرة، وله سلطة ونفوذ لدى السلطات التشيكية. المشكلة الأكبر أن دونج يدين له باهتمامه بابنيه. إذ يعمل زونج على مساعدته في تعليم ابنه الأصغر، تاي (إلي تيان تاي). كما تمكن من تدبير أوراق الإقامة لابنه الأكبر كين (بوي ذا دوونج)، المراهق صاحب الشعر الأحمر، وإحضاره إلى التشيك.
تدريجيًا، نكتشف أن كين كان قد أرسل، لأسباب نكتشفها في نهاية الفيلم، للعيش مع جدته في فيتنام وهو في السابعة من عمره، ولم ير حتى شقيقه الأصغر. بدون رغبته، يعود كين إلى التشيك، ليتعين عليه التكيف في بلد جديد، والعمل والدراسة وتعلم اللغة ومخالطة المجتمع، والاندماج مع أسرته الفيتنامية الكبيرة، وأسرته الصغيرة، رغمًا عنه.
رغم أن الفيلم يقترب تقنيًا وتنفيذيًا من الأفلام التلفزيونية أو من طبيعة المسلسلات الكلاسيكية، ويعاني السيناريو من بعض الضعف وعدم إحكام خيوط سير الأحداث، لكن المهم أنه يعكس، إلى حد بعيد وصادق، صراع كين مع الغربة والتفكك الثقافي والعزلة، والصدمة العاطفية الناجمة عن الغربة والاغتراب. والأهم، إبراز أن عودة كين، الراغب بشدة في الرجوع للعيش مع جدته في فيتنام، سرعان ما تنقلب إلى وبال على الجميع. إذ يصير مصدرًا للكثير من المتاعب، ليس فقط داخل أسرته الصغيرة، بل بين أفراد الجالية، لأسباب متعددة، أغلبها غير متعمدة أو خارجة عن إرادته.