محمد هاشم عبد السلام

مُجدّداً، يؤكّد التشيلي سيباستيان ليليو، في “الموجة”، أنّه مخرج قضايا المرأة بامتياز. فيلمه التاسع هذا لا يحيد عن الخط الفكري الذي انتهجه في مسيرته السينمائية، مُركّزاً فيه، بوعي وتصميم وصدق، على تناول تلك القضايا وتنوّعها، بأنواع سينمائية تختلف بين فيلم وآخر.

للتنوّع السينمائي أهميته في نتاجاته. فهو، بجرأة شديدة، يُقدّم للمرة الأولى دراما موسيقية غنائية استعراضية طويلة، اتّسمت بالفنيّة والحيوية والإمتاع، بشكل فريد في سينماه، وسينما أميركا اللاتينية، والسينما عامة، العازفة منذ عقود عن تقديم النوع الاستعراضي الغنائي، إلّا نادراً.

لا مبالغة في أنّ “الموجة”، المعروض في قسم “عروض أولى” في الدورة الأخيرة الـ78 لـ”مهرجان كانّ السينمائي الدولي“، يكاد يكون الغنائي الموسيقي الاستعراضي الأكبر والأضخم والأهمّ منذ عقود، نظراً إلى طرحه قضايا حقيقية مُلحّة، عن الاغتصاب والعنف ضد المرأة، بصدق وعدم افتعال، وبقدر كبير من الإحكام والجدّة والتوازن بين عناصره. وأيضاً، لقدرته على تجاوز تقاليد هذا النوع السينمائي العريق وحدوده، وتقديم الجديد والفريد، مُتجنّباً الوقوع في صعوباته ومشكلاته المعهودة.

يسهل رصد الجهدين الفني والفكري، والتفاعل معهما، في “الموجة”. ليس فقط لاستعانة ليليو، بتقديمه تابلوهات استعراضية مُدهشة، بـ17 موسيقيّة وموسيقيّ، وبالمُصمّم الاستعراضي المعروف ريان هيفينغتون، وتركهم بصمات واضحة، وأساساً لقدرته الساحرة على ضبط أغلب عناصره. تجلّى هذا في التناغم بين حركة المجاميع الضخمة والكاميرا وزوايا التصوير، خاصة في الأماكن المغلقة الضيقة، وفي الحرم الجامعي المفتوح، واعتماد لقطات علوية وتتبّع، وزوايا عريضة تُبرز جماليات الانسجام البشري الراقص، بألوانه المبهجة المتنوّعة، وأصواته الثائرة الصادحة، في ما يشبه حركة الموج، برقّتها وعنفوانها.

من الجماليات الفنية الأخرى في “الموجة”، اختراق ليليو عمداً الجدار الرابع، إذْ يوجّه انتقادات إلى نفسه ودوره. هناك شخصية تسأله عن سبب تصدّيه بوصفه مخرجاً ذكراً لإنجاز الفيلم. بعيداً عن طرافة الأمر، ومفاجأته وجرأته، هذا يطرح الكثير عن مدى المغالاة النسوية أحياناً، الضارّة بقضايا المرأة. كما عَمَد، في النصف الثاني مثلاً، إلى مزج ساحر بين الواقع والخيال والذكريات والأحلام، بتجلّ مُبتكر ومربك لتداخل الزمان والمكان وسيولتهما. مفارقة الواقع الصارم والسرد المنطقي ولّدا إيقاعات جمالية أنعشت الفيلم، وأكسبته غموضاً.

اللافت للانتباه أنّه ـ فكرياً مَصوغٌ بحرفية في صميم الدراما، ومن دون غرق في السياسة والمباشرة والتنفير من حركة “مي تو” وشاكلتها ـ يفتح آفاقاً جديدة لفضح مدى استغلال حركات المقاومة، وتقويضها من الداخل، ومحاولة تهدئتها بإصلاحات فارغة لا تُحدث تغييرات جوهرية. أيضاً، مهاجمة النظام البطريركي، والقوانين الذكورية، والتميّز الطبقي، إلى إدانة بالغة للدور الخاطئ للأم في تربية الذكور تحديداً، فضلاً عن نهج الشرطة غير الفعّال، الذي يلوم الضحايا، وكيف أنّ كلّ هذا يُقوّض أي جهد مبذول.

اللافت أكثر أنّ نوع الأفلام الموسيقية الاستعراضية يكون غالباً ذا طبيعة ومواضيع خاصة، بطبيعة ناعمة أو هادئة أو رومانسية أو استهلاكية. لكنّ ليليو يُسَخِّر الموسيقى والرقص الاستعراضي والغناء، إلى حركات المجاميع الهائلة، لخدمة حبكة قائمة أساساً على الاحتجاج والتمرّد والثورة والاعتصامات والعصيان المدني والخطابات التحريضية. لذا، تُلاحَظ النبرة الحماسية، الحادة أو العالية أو الزاعقة أو المزعجة، في الموسيقى والغناء والكلمات المستلْهَمَة من هتافات المظاهرات. هناك أيضاً العنفوان والخشونة والحدّة في تصميم الرقصات، والتوظيف المُكثّف والمُتعمّد للآلات الخشبية والنحاسية والإيقاعية الصادحة، ما أكسب “الموجة” فرادة لأنّه الأبرز، وربما الأوحد، في تطويع هذا النوع لخدمة دراما ثورية سياسية اجتماعية، نسائية الطابع.

درامياً، يسلط “الموجة” الضوء على شجاعة النساء اللواتي حطّمن القيود التقليدية في أميركا اللاتينية، تشيلي تحديداً، وكيف قرّرن، بجرأة وشراسة، التمرّد وفضح المسكوت عنه في التحرّش والاستغلال الجنسي والاغتصاب والإساءة إلى النساء. يستلهم ليليو (كاتب السيناريو مع مانويلا إنفانتي وجوزفينا فرنانديز وبالوما سالاس) وقائع الاحتجاجات والتجمّعات الطالبية، التي اجتاحت الجامعات في ما يُعرف بـ”مايو النسوي” (2018)، وهذه محطة بارزة في تاريخ تشيلي الحديث.

تدور الأحداث حول جوليا (دانييلا لوبيز) طالبة جامعية في قسم الموسيقى، تُدفَع إلى مشاركة زميلاتها الثائرات لتحديد هوية الطلاب الذكور الذين اغتصبوهن. تدريجياً، يُعرف أنّ جوليا كانت ضحية ماكس (نيستور كانتيانا)، المُدرّس الشاب الوسيم والثري، الذي لا يعتقد أنّه اغتصبها، لأنّها لم تكن ثملة للغاية حين جاءت إلى شقته، ونامت في فراشه بإرادتها. لكنّها فوجئت بالأمر صباحاً، وأدركت لاحقاً أنّ الأمر لم يَرُقْها. هنا، يغوص “الموجة” أكثر في طرح أسئلة شائكة ومُربكة عن ماهية التراضي، وعن أين تبدأ وتنتهي، وإلقاء اللوم على الضحية، والتشهير، وافتراض البراءة أو حسن النية، من بين أمور أخرى عدّة.