محمد هاشم عبد السلام
من الأمور اللافتة للانتباه بخصوص الإنتاجات السينمائية اللبنانية، خلال السنوات الأخيرة تحديدًا، ازدياد وتيرة الأفلام الوثائقية على اختلافها. الأمر ليس معقودًا فحسب على كم الأعمال المُنتجة، إذ ثمة تميز كيفي أيضًا لا يمكن إغفاله، ناتج عن اجتهادات لافتة في تقديم الجديد والصادق والعميق، وبراعة صنعة وحرفية اشتغال. ما ينم عن وعي كبير بماهية السينما الوثائقية، وكيفية الاشتغال عليها، والخروج منها بجديد، متنوع واحترافي، يتوفر على أغلب عناصر الجذب والتشويق والصدق الفني.
الصدق الفني هنا لا ينفصل ولا يبتعد كثيرًا عن جرأة تناول نابعة أصلا من طرح ومعالجة موضوعات شائكة والاشتباك معها بعمق واحترافية فنية، وقبل كل شيء، بحرية وانفتاح وجسارة، بعيدًا عن أي قيود أو مسلمات أو تابوهات، سياسية كانت أو اجتماعية أو طائفية أو حتى دينية وشخصية. هذا، تحديدًا، هو سر تميز السينما اللبنانية إجمالا، والوثائقية بشكل خاص، المنفتحة على كافة الأشكال والمعالجات، والمحافظة على القدر الأكبر من الحرية والاستقلال والجرأة.
من بين الوثائقيات اللبنانية الأخيرة المتميزة فعلًا، سواء على مستوى الموضوع أو الإخراج، تلك الوثائقيات التي يمكننا أن نطلق عليها “أفلام الأسرة”. أفلام الأسرة، المعروفة والمنتشرة عالميًا، يقصد بها تلك الوثائقيات التي يعكف فيها المخرج أو المخرجة على رصد شخصية أو مجموعة شخصيات من أفراد أسرته، وتتبع سيرتهم أو ماضيهم أو حاضرهم، على مدى سنوات طويلة. برزت هذه النوعية في عدة وثائقيات لبنانية لمخرجين ومخرجات شباب. احترافية الاشتغال فيها تؤكد وبقوة على مدى وعي صناعها، وفهمهم العميق لماهية الفيلم الوثائقي، وكيفية الاشتغال عليه، وآليات النوع ومتطلباته. تجلى هذا عبر دقة وذكاء اختيار الموضوعات، واحترافية الاشتغال عليها، ومنحها الوقت اللازم حتى تنضج وتقطف ثمارها، حتى وإن تطلب تنفيذ وإكمال الفيلم سنوات وسنوات.
ورغم أن تلك الوثائقيات، المصنوعة بصبر ودأب كبيرين، ذاتية الطابع تمامًا في أغلبها، إلا أنها في النهاية ذات توجه عام، يخاطب البشر في أي مكان، نظرًا لحميمية وطبيعية الموضوعات والعلاقات بين الشخصيات والنقاشات والمساجلات المطروحة فيها، حتى وإن اتسم كل هذا بالقسوة أو الإيلام أحيانًا، أو تمحور حول رصد مشاكل العائلة أو رصد أمراض الشيخوخة، أو اكتسى بسمات الأسى والحزن والفراق.
“نحن في الداخل”
في جديدها، “نحن في الداخل” (2024)، لم تحد المخرجة اللبنانية فرح قاسم كثيرًا عن المعهود في أفلام الأسرة، حيث الاشتغال الاحترافي الدؤوب والمتمهل على موضوع ذاتي شديد الخصوصية يجمعها بوالدها خلال السنوات الأخيرة قبل رحيله. طبعًا ثمة جرأة في استعراض وكشف تفاصيل علاقتهما الشائكة، المتأرجحة بين شد وجذب وحب وحنان وصدام ورعاية واحتضان وتفهم. من دون أن تخلو من لحظات مرح وضحك. ثمة جرأة أيضًا في استعراض هذا على مدى 180 دقيقة هي زمن الفيلم. وهذا من الأمور غير المسبوقة ليس فقط في الوثائقيات العربية فحسب، بل في السينما العربية عامة. 3 ساعات كاملة خلاصة ما راكمته المخرجة من مواد فيلمية هائلة، على مدى سبع سنوات من التصوير المتواصل، أفرزت في النهاية عملًا شديد الذكاء والتشويق والفنية، وبالغ الإنسانية والرقة والإيلام. وفي الوقت ذاته، ينقل جانبًا مهمًا عن علاقات الأبناء/ الآباء في الكثير من الأسر العربية. من هنا، نرى أن الأمر ليس مرده فقط لصعوبة وجرأة تنفيذ وثائقي بهذا الطول، وعلى مدى سنوات طويلة، بقدر الرهان ذاته أو خوض المغامرة الفنية، وربما المقامرة، لإبداع عمل مشوق ومؤثر وقادر فعلًا على جذب اهتمام المشاهد، ودفعه لإكمال الفيلم، والاستمتاع بمشاهدته، والتأثر به طويلًا.
أيضًا، لم تشأ فرح قاسم حصر فيلمها ضمن نطاق أُسري درامي ضيق، ولا صبغه بصبغة ذاتية بحتة بحيث لا يتجاوز حدود جدران شقتهما في مدينة طرابلس. بالعكس، يرصد فيلمها، بدون تعمد أو إقحام أو افتعال، السياسي والاجتماعي والديني والوجودي، وفي القلب من هذا يحضر العائلي. حيث ترصد المخرجة السنوات الثلاث الأخيرة في حياة والدها مصطفى قاسم، رئيس البلدية المتقاعد، والشاعر العاشق للغة العربية والشعر العربي القديم. والعلاقة بينهما خلال تلك السنوات، التي شهدت تدهور صحته، وفي الوقت نفسه، تمتين علاقتهما لأقصى درجة. وذلك، رغم فارق العمر بينهما، والمتجاوز لخمسين سنة. الأمر الذي ظل مصطفى يذكر ابنته به ويلفت نظرها إليه في أكثر من موقف. وكيف أنه أنجبها بعدما تجاوز الخمسين، وفعل كل ما يحلو له في الحياة، وعركته السنون، فكيف لابنته الثلاثينية مناقشته ومجادلته ومحاججته، بل وتوجيهه أحيانًا. هي الغريبة القادمة للإقامة معه ورعايته بعد سنوات غربة طويلة، تناهز الـ15 عامًا، قضتها بين ألمانيا وفرنسا.

وهذا أحد جوانب الحميمية والعفوية والطبيعية الكثيرة الموجودة في الفيلم، والممتدة أيضًا إلى الاشتغال البصري، حيث الكادرات المُحكمة أو حتى النصفية، ومَوضَعَة الكاميرا وزوايا الالتقاط أو مواقع التصوير، سواء في الخارج أو في الأماكن المغلقة، وخاصة الشقة المحدودة المساحة. ولذا، نشعر دائمًا أننا في الداخل، نعيش معهما فعلًا، ولسنا مجرد متفرجين نعاين ببرود ما يحدث من خلال الكاميرا. أسهم في تحقيق هذا دفء المكان من ناحية، ومن ناحية أخرى شخصية الراحل مصطفى قاسم، الشديدة العذوبة والرقة والمرح والمشاكسة، والمفعمة بالحيوية حتى وقت مرضها. لحظات الحميمية والدفء والصحبة، أو الألفة وانتفاء أي غربة، تبرز أكثر من مرة على امتداد الفيلم. تتجلى مثلًا عندما تزور فرح نادي والدها الشعري، حيث يجتمع وزمرة من أصدقاء الحياة والشعر والشيخوخة، وتستمتع بصحبتهم. وذلك رغم أن جميعهم قد تجاوزوا السبعين أو الثمانين من العمر، ويعانون من أمراض مختلفة، ولديهم أذواقهم وآرائهم المتباينة والصادمة، شعريًا أو سياسيًا أو حياتيًا. تجلى هذا عندما راحو يثرثرون حول الواقع والسياسة والبلد، والقلق من تدهور الأوضاع السياسية، أو فلتان الأمور، أو الإعراب عن فقدان الأمل بكل صراحة، قبل انخراطهم الصادق في قراءة الشعر وسماع القصائد والنقاش بشأنها.
صحيح أن ثمة بعض البطء أو التكرار لمشاهد من الحياة اليومية في الفيلم، أو بعض المشاهد الزائدة وغير الضرورية قبل الختام، لكن هذا يتناسب وأسلوب الرصد المتمهل على امتداد الفيلم لروتين الحياة اليومية العادية، ومنه الحوارات المتكررة، أو آلية مشاهدة التلفزيون وسماع الأخبار، أو المداومة على تناول الأدوية، وبالطبع قراءة وكتابة الشعر والتناقش حوله، وبخصوص مختلف المفردات. في هذا الروتين الداخلي المتكرر لا نعاين الخارج كثيرًا. وإن كانت برزت ثنائية الداخل والخارج وحضرت في مشاهد كثيرة. نعاين الخارج عبر النافذة المواربة أو نصف المشرعة في حجرة فرح، وعبر الأخبار المبثوثة عن الانتخابات أو الثورة الجارية، إلى أن نخرج إلى الشارع، فقط للإمساك بروح ثورة 2019، من دون رصدها بالتفصيل. ما يخلق ثنائية أخرى بين الجيل القديم في مقابل فرح، ممثلة الأجيال الشابة التي لا تزال تؤمن بإمكانية التغيير، والحاملة للقدر الأكبر من التفاؤل والثورية، على عكس البقية.
كما ننتقل غير مرة إلى مكتب انعقاد اللقاءات الدورية لجماعة الشعر أو محافل إلقاء الشعر في أكثر من مناسبة أو ندوة شعرية أو لعيادات الأطباء. للتواجد بالسيارة حضوره أيضًا، وذلك لرغبة المخرجة في قول وإظهار المزيد عن شخصية والدها وردود أفعاله في مختلف المواقف الحياتية. تجلى هذا في مشهد الشراء من أحد باعة الخضار ومساومته على تخفيض المبلغ. أو عندما احتدت على سائق كاد يصدم سيارتهما فنهرها والدها، وتشاجر معها لتصرفها الأرعن، مطالبًا إياها بعدم التصرف بهذه الكيفية في وجوده لكونه شيخًا لم يعد يقوى على الدفاع عنها لو حصل لها أي مكروه أو حدث تطاول عليها أثناء الشجار.
وفقًا لمصطفى، يجب أن يكون الشعر عربيًا كلاسيكيًا منظومًا باحترافية وله إيقاع، إذ رغم حرصه البالغ على القافية إلا أنها بنظره غير كافية. عندما تُجرب فرح كتابة الشعر، يُسميه نثرًا، ويستهجنه، وأحيانًا يرفض إبداء أي رأي صريح. لاحقًا، نرى أنه يُبدي رأيه لأعضاء نادي الشعر من الأصدقاء. تكتب فرح عن الحمائم وهي مُصممة على إنهاء قصيدتها. تلجأ إلى عضو آخر في نادي الشعر، فيُعطيها الدعم المطلوب، والنقد البنّاء. تُلقي قصيدتها في اجتماع نادي الشعر التالي، وتتلقى ردود فعل إيجابية، حتى من والدها. ومع هذا، عندما يكونان بمفردهما لاحقًا، يتمسك برأيه الأولي بأن عملها مجرد نثر. موقف كهذا، لا يقل أهمية عن الموقف في مشهد افتتاح الفيلم، والمتناول لإهداء مصطفى ديوانه إلى ابنه وابنته، والنقاش بشأن عدم زواجها، وتبريره لموقفه ووجهة نظره ونيته بخصوص ما كتبه. ما يلخص الكثير ليس فقط عن علاقة فرح بوالدها، بل أيضًا عن شخصية درامية غاية في الإمتاع والثراء والتشويق. ورغم رحيلها، إلا أن شخصية مصطفى قاسم الدرامية في “نحن في الداخل”، ستظل من الشخصيات النادرة التي يصعب نسيانها في الوثائقيات العربية.
“المرجوحة”
يُذكر أنه من بين أبرز الأفلام اللبنانية المتناولة لموضوع أو تيمة أفلام الأسرة، فيلم “المرجوحة” (2018) للمخرج سيريل عريس. وفيه اقترب سيريل كثيرًا من الموت، نظرًا لحضوره في كل دقيقة على امتداد الفيلم. ولذا، كان “المرجوحة” شديد الثقل على النفس والمشاعر فعلا. إذ إنه بخلاف المرض والشيخوخة والاحتضار التدريجي والموت في حياة الوالدين أنطوان وفيفيان، هناك العجز، وفوق هذا الألزهايمر، وغيرهما من الأمور. وبالرغم من هذا، نجدنا إزاء سرد وثائقي أخاذ لوقائع يومية لزوجين عجوزين حتى في ظل أجواء معبقة بالشيخوخة والمرض والتعب، وموت ابنتهما الصادم جدًا.