تكريم النجمة البريطانية تيلدا سوينتون في افتتاح المهرجان

برلين – محمد هاشم عبد السلام

شهدت خشبة مسرح “قصر البرليناله” مساء الخميس الماضي 13 فبراير/ شباط، في العاصمة الألمانية، انطلاق فعاليات الدورة الـ75 لـ”مهرجان برلين السينمائي الدولي“، المتواصلة حتى يوم 23 من الشهر نفسه.
رغم هذا الرقم المتميز من الدورات التي تحمل في طياتها كثيرًا، إلا أن إدارة المهرجان لم تشأ استغلال المناسبة لعقد أية احتفاليات، أو حتى إشارات من أي نوع احتفائي بانقضاء أكثر من سبعة عقود من عمر المهرجان. ربما باستثناء ملصق الدورة الذي جاء على نحو تجريدي بحت، مكون من رقمين يشيران إلى عدد دورات المهرجان الـ75. وذلك في جمع جامد بين مفهوم انقضاء الوقت وسنوات المهرجان، وعشق الألمان لمفهوم الانضباط وتقدير النظام والوقت. وهو أمر لم يتحقق للأسف في هذه الدورة، على الأقل حتى الآن. إذ بدأت كثير من العروض متأخرة عن موعدها، أحيانًا بـ15 دقيقة كاملة. وهو ما لم يحدث بالمرة خلال السنوات العشر الماضية.

ظروف عصيبة

للمرة الأولى في عمر المهرجان، على الأقل خلال هذا القرن، تنعقد الفعاليات والدولة الألمانية تمر بفترة جد عصبية في تاريخها الحديث، وصلت إلى ذروتها في نهاية السنة الماضية. الأمر في داخل ألمانيا، بلد الاقتصاد المزدهر والنظام الدقيق وقيادة الاتحاد الأوروبي لسنوات، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، تمر بمرحلة بالغة الاحتدام. فالمستشار الألماني أولاف شولتز سحبت منه الثقة نهاية العام الماضي، ما أدى إلى انتهاء الحكومة الائتلافية رسميًا. وبدوره، قرر شولتز حجب الثقة عن الحكومة، والدعوة إلى انتخابات مبكرة يوم 23 من فبراير/ شباط. أي أن اليوم الأخير في المهرجان سيشهد انهماك الشعب الألماني في الاقتراع، منذ الصباح الباكر، لحسم مستقبله ومصيره، بعدما باتت صورة ألمانيا المزدهرة اقتصاديًا، والمتماسكة اجتماعيًا، والمستقرة سياسيًا، على المحك. وكما تجلى هذا جزئيًا في انتشار وتعدّد اللوحات الإعلانية الانتخابية للمرشحين من الأحزاب المختلفة في شوارع برلين، تجلى أيضًا، وبقوة، في الفيلم الألماني الذي شهد افتتاح هذه الدورة، وكان بعنوان “ضوء” للألماني توم توكفار.

الأميركية تريشيا تاتل مديرة جديدة لمهرجان برلين لأربع سنوات.

قبل اندلاع العواصف المؤدية للانتخابات الحالية، كانت المشاكل السياسية قد ألقت بظلالها مسبقًا. وذلك بعدما تأثر المهرجان تأثرًا جزئيًا جراء الحرب الروسية الأوكرانية أولًا، ومشاكل التضخم المالي ثانيًا، ثم تفجرت المشاكل أكثر، وأطلت السياسية بوجهها السافر في حفل ختام المهرجان العام الماضي، لدرجة وصم بعض السياسيين ما حدث أثناء توزيع الجوائز في حفل الختام بالعنصرية، ومعاداة السامية، ومحاباة فلسطين، وغيرها. ما ألقى بظلال شك على حرية التعبير، وسمعة المهرجان، المعروف عنه غرقه التام في مستنقع السياسة أصلًا، ومن ثم تأثره بتوجيهات وزارة الثقافة والجهات المانحة. من هنا، مثلًا، كانت معاناة المهرجان خلال السنوات الماضية من ضعف الميزانية، وصعوبة التحصل على أموال ورعاة في ظل تجاهل من الحكومة، وبلدية برلين، وغيرهما من الجهات. تراكم المشاكل المادية واللوجيستية والإدارية دفع المديرة التنفيذية الألمانية، ماريت روزينبيك، إلى الاستقالة العام الماضي. وتبعها المدير الفني الإيطالي، كارلو شاتريان، بعد اصطدامه بعراقيل وصعوبات أخرى بيروقراطية من قبل الوزارة. ناهيك بعوامل كثيرة أجهضت القيادة الفنية للمهرجان، وجعلت فترتها من أسوأ فترات المهرجان.

في خضم هذا المعترك، خارج محيط المهرجان وداخله، يعقد السينمائيون الألمان آمالهم على الأميركية تريشيا تاتل، المديرة الفنية الجديدة للمهرجان لأربع سنوات قادمة، وهي خبيرة، ومديرة مهرجانات، ومبرمجة معروفة. تقود تريشيا دورة هذا العام رغم الصعوبات الكثيرة التي ورثتها من الدورات السابقة، فنيًا ولوجيستيًا، أو في ما يتعلق بتوجهات المهرجان وخطه السياسي، أو علاقته مع الحكومة والتمويل. والمطلوب من المديرة الجديدة نفض الغبار، وتسيير أمور المهرجان على أفضل وجه ممكن، وبطريقة تعيد إليه سمعته المفقودة على مدى السنوات الماضية، وهزال دوراته وأفلامه وجوائزه المثيرة للجدال خلال السنوات الخمس الماضية، على الأقل.
الغريب في الأمر أن تريشيا، بعد إعلان البرنامج النهائي ومختلف الفعاليات، ومنذ انطلاق المهرجان فعليًا، لم تقدم على أية تغييرات لافتة، أو ملحوظة، جذرية كانت، أو مبدئية، توحي بخطط استراتيجية ذات مدى طويل يمكن التعويل عليها والبناء، ومن ثم الانطلاق نحو المغاير. فالحضور الأميركي يطغى على مختلف جوانب المهرجان. كذلك التواجد النسائي وفقًا لسياسة المحاصصة، ومراعاة أقصى معايير الصوابية السياسية أيضًا ومحاباة إسرائيل، وغيرها من أمور لم تعد فقط ممجوجة، بل مُضعفة فعلًا لجودة وفنيات وحيوية المهرجان، وربما مُعطلة ومُهدرة لطاقات غير مستغلة، أو لم تتح لها الفرصة للظهور في المهرجان وأروقته.

تساؤلات حول البرمجة

أما الجديد فعلًا الذي جاء الذي جاءت به تريشيا، بخلاف رهانها على خبرتها وحسن اختياراتها الفنية، فهو قسم استحدثته هذا العام بعنوان “وجهات نظر”. وهو لا يختلف كثيرًا عن قسم “لقاءات”، الذي كان قد أطلقه المدير الفني الإيطالي السابق فور قدومه، بخلاف أن القسم الجديد جرى تخصيصه للأفلام الأولى للمخرجين الشباب. وهذا يؤدي للتساؤل حول مدى وجاهة الأمر. فعروض الأفلام الأولى لم تعد قاصرة على قسم بعينه. إذ باتت كل أقسام المهرجان تتبنى العروض الأولى للمخرجين والمخرجات، بما فيها “المسابقة الرئيسية” ذاتها. فما الداعي أصلًا لتخصيص هذا القسم الذي يشهد تنافس 14 فيلمًا؟ هل لأن الأمر يتعلق بجائزته المالية (50 آلف يورو من أحد الرعاة) ويخشى المهرجان التفريط في قيمتها؟! وبعيدًا عن أسباب إلغاء القسم السابق، فلم يتساءل أحد من قبل لماذا أطلق شاتريان هذا القسم، ولم يتساءل أحد الآن عن أسباب الإلغاء. وأيضًا لن يناقش أحد جدوى القسم الجديد والفكرة الكامنة خلفه ومدى ضمان استمراريته؟!

بخلاف هذا، وبناء على بعض الأفلام المعروضة حتى الآن في “المسابقة الرئيسية” هذا العام، وغيره من الأقسام الأخرى، يمكن القول إن المستوى الفني لا بأس به أبدًا حتى اللحظة. وإن الاختيارات أغلبها متوسطة، وأحيانًا جيدة. في حين يعتبر أن بعضها يشكل مفاجأة أصلًا من حيث فلسفة برمجتها. إذ يعرض مثلًا فيلم المخرج الكوري الجنوبي المعروف بونج جون هو “ميكي 17″، وهو جديده المنتظر منذ 5 سنوات في قسم “برليناله الخاص”، أي ليس في “المسابقة الرئيسية”! ربما لكون الفيلم يحمل الصبغة التجارية من ناحية. ومن ناحية أخرى، كونه يتسم بصبغة سياسية تضرب وبقوة في صميم التوحش الرأسمالي، والسيطرة على العلم وتسخيره لخدمة وأغراض أنانية سياسية بامتياز، تهدف للهيمنة والسيطرة ليس فقط على البشر بكل الكواكب الأخرى وحتى حيوانات مغايرة. وذلك في دلالات جد واضحة وأحيانًا مباشرة جدًا تحيل للواقع الراهن بحذافيره.

ملصق فيلم الخيال الكوري الجنوبي “ميكي 17”.

كذلك، يشارك مثلًا المخرج الأوكراني فيتالي مانسكي، الشهير بأفلامه الوثائقية الفنية البارزة والجوائز العديدة، في قسم “المنتدى”، وليس “المسابقة الرئيسية”. وذلك بفيلمه “تشاس الطيران/ Chas pidlotu” عن معاناة أهل مدينة لفيف من ويلات الحرب. في حين تشارك مواطنته المخرجة الوثائقية كاترينا جورنوستاي بالفيلم التسجيلي الوحيد في “المسابقة الرئيسية”، وهو بعنوان “بصمة الزمن”، ويتناول أحوال المعلمين والمدارس في أوكرانيا في زمن الحرب. وهو أمر غريب ولافت فعلًا، بعيدًا عن تكرار وكثرة المشاركة الأوكرانية والمستوى الفني للأفلام.

فيلم الافتتاح

تسلمت النجمة البريطانية تيلدا سوينتون جائزة “الدب الذهبي الفخري” تكريمًا لمسيرتها الفنية الحافلة، وعلاقتها الوطيدة والعميقة مع مهرجان برلين على مدى 20 مشاركة تقريبًا. وبعد تسليمها الجائزة بواسطة المخرج الألماني المعروف إدوارد بيرجر (المتألق مؤخرًا بفيلمه “الاجتماع الباباوي” (2024) وقبله “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” 2022)، وإلقاء سوينتون لكلمة إنسانية رائعة نالت استحسان الجميع، عُرض فيلم الافتتاح “ضوء” للمخرج توم توكفار (59 عامًا).

لقطة من فيلم الافتتاح الألماني “ضوء”.

الفيلم الألماني الذي وقع عليه الاختيار هذا العام، في خطوة لم تحدث منذ فترة طويلة، يعرض أصلًا في قسم “عروض خاصة”، من بطولة أحد نجوم السينما الألمانية المعاصرة، لارس إيدنجر، في دور “تيم”، وتشاركه البطولة الممثلة الألمانية العربية الأصول تالا الدين في دور المهاجرة السورية “فرح”. تدور الأحداث في العاصمة برلين، في الوقت الحاضر، حيث يعيش تيم وزوجته وثلاثة أبناء حياة أسرية منفصلة ومعزولة ومحطمة. يتغير هذا عندما تحصل المهاجرة السورية فرح على وظيفة كمدبرة منزل لديهم. تحت تأثيرهم القوي والناعم والمتفهم تجد العائلة بعضها البعض مرة أخرى. ورغم عدم حياد الفيلم عن الأسلوب المعهود للمخرج إلا أن محاولاته فلسفة الأمور وتصوير العلاقات وحلول المشاكل على نحو روحي، يتسم بالصوفية، أو الشطح الفانتازي، أحيانًا، أخل بقوة وفنية ما أراد المخرج تقديمه.
مشاركات عربية

تشارك الدول العربية هذا العام بـ8 أفلام من مختلف الأنواع، وفي أكثر من قسم. وذلك بواقع 4 أفلام روائية طويلة، وروائي قصير واحد، و3 أفلام وثائقية، من سورية، ومصر، والسودان، والعراق، وفلسطين، وتونس. ورغم المشاركة المعقولة كمًا، إلا أن “المسابقة الرئيسية” لا ينافس فيها إلا الفيلم السوري “يونان” للمخرج أمير فخر الدين. وفي القسم الجديد “وجهات نظر”، المخصص لعروض الأعمال الروائية الأولى، يشارك فيلم “المُستعمرة” للمصري محمد رشاد. وفي قسم “البانوراما”، يشارك الوثائقي “يلا باركور” للفلسطينية عريب زعيتر.

تشارك في المهرجان 8 أفلام عربية، من بينها “يونان”.

كذلك، يُعرض في ذات القسم الوثائقي “الخرطوم”، بتوقيع خمسة مخرجين، هم: أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي أحمد، وتيميا محمد أحمد، وفيليب كوكس. في حين يشارك الوثائقي “آخر زيارة”، سيناريو وإخراج وإنتاج وتصوير المصري محمود إبراهيم، في قسم “امتداد المنتدى”. أما قسم “جيل 14 بلس”، فيشارك فيه الروائي الطويل “ضي… سيرة أهل الضي” للمصري كريم الشناوي. كما يشارك في القسم نفسه الروائي القصير “تحتها تجري الأنهار” للعراقيين على يحيى، وإبراهيم حليم. أخيرًا، يعرض في القسم نفسه فيلم “المتهورون”، أو “الرؤوس الساخنة”، للتونسية البلجيكية مايا عجمي، وهو روائي طويل أول.
يذكر أنه بسبب برمجة أقسام المهرجان لم يعرض أي فيلم عربي خلال النصف الأول، وسوف تتوالى عروض الأفلام العربية حتى اليوم الأخير في المهرجان.