حوار وتقديم: دون بيل
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
“… حاولت منذ سنوات خلت أن أحرر نفسي منه
فتحولت عن أساطير ضواحي المدينة
إلى اللعب بالزمن والأبدية”.
خورخي لويس بورخس، ولد في الأرجنتين قبل مائة عام من هذا اليوم، ربما هو الكاتب الأمريكي اللاتيني الأكثر تأثيرًا في القرن الماضي. معروف بقصصه القصيرة المحيرة ، التي يدعوها قصيصات ficcione، بالإضافة إلى مقالاته، وأشعاره، وأمثولاته، ومحادثاته، كان مرور بورخس بمونترال في عام 1968، أثناء مدة خدمته كأستاذ زائر في هارفارد، لإلقاء محاضرة في جامعة “السير جورج وليامز” (الآن كونكورديا)، عن “الأدب الإنجليزي والأحلام”.
بفضل سعي قنصل الأرجنتين وقتئذ “هوجو ألفاريز”، أتيحت لي فرصة طيبة للاجتماع ببورخس وأخيرًا عقد محادثة مطولة معه في جناحه في “ريتز كارلتون” لصالح برنامج هيئة الإذاعة الكندية “ليلة الثلاثاء”. تمخضت المادة عن برنامج وثائقي في خمسين دقيقة، قدمه “جلز كوتشر”، تحت اسم “بورخس وأنا”، وهو عنوان قصيدة من أشهر قصائد بورخس، والتي منها اقتطعت أيضًا الأبيات السابقة عاليه. كان بورخس وقتها محاصرًا بفقدان البصر، وإن كانت به بقية من قدرته على التعرف بصعوبة نوعًا على اللون الأصفر والضوء والظلال، في غضون سنوات قليلة، حتى هذه القدرة راحت تتلاشى ليعيش خريف غروب حياته تقريبًا في ظلام كلي.
كان رجلاً نحيلاً وهزيلاً، مرتديًا حلة رمادية، يبدو كجنتلمان أنيق، محافظ، تمامًا كما هو متوقع من سيد أمريكي لاتيني موسوعي، وله جذوره الأوربية، كان لطيفًا وساحرًا. كنت أتمنى لو كان بإمكاني تذكر ما هو أكثر عن الوضع الحقيقي الذي كان عليه.
أكانت هناك لوحة في الجناح؟ هل مالت الشمس عبر النافذة؟ أو ما كان عليه مظهره العام؟ (آه، نعم، كانت لديه عصًا متكئًا عليها، منحيًا إلى الأمام، أثناء جلوسه على الفوتيل في “ريتز”) لكن مع بورخس هناك دائمًا كلمات رشيقة منمقة، إيقاع الحديث، الأفكار التي تقطن حية في العقل، أكثر من أن تكون مجرد ستار خلفي.
دون بيل: سيد بورخس، لو كنت تعد برنامجًا إذاعيًا عن نفسك وأردت التعريف بنفسك وبعملك، ما الذي ستقوله؟
بورخس: حسنًا، أعتقد أنني أفكر في نفسي ككاتب، وأيضًا أعتبر نفسي أستاذًا للأدب الإنجليزي و- لكن هذا، بالطبع، سرًا من الأسرار- تلميذ اللغة الإنجليزية القديمة، الأنجلوساكسونية. وأحيانًا أعتبر نفسي رجلاً ملغزًا، أما الآن، ربما لأنني في كندا، أفكر في نفسي كرجل سعيد إلى حد بعيد ومفعم بالأمل فيما يتعلق بالمستقبل.
دون بيل: في كتاباتك، تولي أهمية كبيرة لجذور الشخصيات. يحضرني بالتحديد “يوهانس داهلمان”، بطل قصتك “الجنوب”. كان نصف ألماني نصف أرجنتيني، وبالتحديد، دارت أحداث القصة في عام 1939. هل سبق لك أن حاولت من قبل تحليل مدى أهمية جذورك في تطوير إبداعاتك؟
بورخس: حسنًا، أنحدر من إسبانيا، والبرتغال، بقدر ما، من سلالة إنجليزية أيضًا. لكنني أحب أن أشعر بقليل من الدماء الإنجليزية تسري داخلي. عندما كنت صبيًا، اعتبرت نفسي أكثر أرجنتينية. هذا شيء يصعب تعريفه، لكنني أعرف ونحن الأرجنتينيون ندرك ما نعنيه بهذا. الآن بمرور الزمن، يبدو أنني أتراجع، أفكر في أسلافي الإنجليز، الناس الذين جاؤوا من “نورثمبرلاند”. لكن بالطبع كل تلك الأشياء لا تناقض بعضها البعض. أقصد، أنني لا أعتبر نفسي شخصًا ذو دماء إنجليزية، بل ولا اعتبر نفسي شخص ذو دماء إسبانية. أعتقد أن ما هو مهم جدًا هو ما عليه المرء الآن.
دون بيل: أدرك أنك هوجمت داخل وطنك الأرجنتين بسبب كونك كاتبًا متخطيًا أو متجاوزًا لإقليميتك. ما هو رد فعلك إزاء هذا النقد؟
بورخس: حسنًا، فلأحدد هذا بصراحة. أعتقد أنه حماقة صرفة. إضافة لكوني أرجنتينيًا، كان والدي أرجنتينيًا من قبلي، وأيضًا جدي، رغم إنجليزية جدتي لأمي. لا أدري لماذا يتوجب عليَّ أن أقدم دائمًا إثباتًا على أنني أرجنتيني؛ بما أنني أرجنتيني. لن أقلق فيما يتعلق بهذا. أحاول أن أكون معاصرًا قدر الإمكان. عندما نشرت كتابي الأول، “دفء بوينس أيرس”، أشعار، وذلك يرجع إلى 1923، كتبت عن مناظر الأرجنتين الطبيعية. لا يمكنني أبدًا الابتعاد عنها أو الفرار منها. حتى في “آيوا” قبل أسابيع قليلة، فجأة شعرت بعاطفة جياشة ليس مردها على وجه الإجمال كوني سعيدًا في “آيوا”، لكن أيضًا لأن البراري الغربية الوسطى بالضبط بدت كسهول البمباس الأرجنتينية[1]. ولذا شعرت أنني على ما يرام فأنا في أمريكا، لكنني أيضًا عدت إلى بلدي. وشعرت أنها كانت توليفة سعيدة جدًا.
دون بيل: من المحير نوعًا أنك لم تكتب شيئًا يزيد عن عشر أو أثنتا عشرة صفحة. رصيدك الذي تطلق عليه “قصيصات” ficciones، أو قصص، هل يختلف عن القصة القصيرة؟ كيف تصف القصيصات؟
بورخس: أعتقد أنني سأصفها كقصة قصيرة، نعم. لكن فيما يتعلق بكتابتي للنصوص القصيرة، يمكنني إعطاؤك سببين. الأول هو كسلي المنيع الذي لا يقهر. والثاني هو أنني مغرم دائمًا بالقصص القصيرة، ودائمًا ما تعترضني بعض المشاكل في إتمام قراءة رواية، باستثناء حالة بعض كتب مثل، حسنًا، “أوراق بيكويك”، “الفنلندي هوكليبيري”، “دون كيخوته”، “لورد جيم لكونراد”، وأمثال ذلك. إضافة إلى أنني، مهتم جدًا “بكيبلنج”، واكتشفت أنه في نهاية حياته كان قادرًا على العودة إلى القصة القصيرة، كالعديد من الناس، أو في الحقيقة، أكثر مما يكون عليه الأمر بالنسبة للرواية. وأعتقد، أنني ربما سأجرب يدي مستعينًا بهذه الحيلة، كتابة مجموعة من القصص القصيرة بعناية شديدة. على الرغم من أنني كسول جدًا عندما أكتب، إلا أنني لست بهذا الكسل عندما أفكر فيها. أحب تطوير حبكة القصة القصيرة، ثم أعمل على اختزالها قدر الإمكان، محاولاً ابتكار وتطوير كل التفاصيل الضرورية. أعرف عن الشخصيات ما يفوق بكثير ما هي عليه من حقيقة على الورق.
دون بيل: عندما يتحدث الناس عن بورخس، دائمًا ما يتحدثون عن معرفتك الموسوعية، الآلاف والآلاف من الكتب التي اطلعت عليها. هذا يقودنا الآن إلى سؤال ذي شقين. الشق الأول، وفرة الأشياء التي قرأتها، والثاني، ما هو الكتاب بالذات الذي كان له التأثير الأعمق عليك؟
بورخس: حسنًا، أخشى أنني لم أقرأ هذا الكم الكبير، لكنني دائمًا ما كنت أقرأ أعمالاً لا يتوقعها أحد لي، قرأت هذه بغرض الاستمتاع، وذلك يؤدي إلى إعادة القراءة. سألتني عن كتاب كان له أبلغ الأثر عندي، وأقول لك أنه دائمًا ما يفكر الناس في روبنسن كروزو بنزعة أدبية، أليس كذلك؟
أعتقد أنك لن تصدقني وستعتقد أنها خدعة لو قلت لك أن الكتاب الذي تسألني عنه هو الموسوعة البريطانية، حقًا إنها مكتبة في ذاتها. لكن ربما لو يمكن لي أن أقول مجلدات “ديك وينسي” الأربعة عشر – لكنني أتساءل إن كان يجوز لي هذا الكم الكبير؟ ربما سيكون اختيار كتاب في تاريخ الفلسفة اختيارًا حكيمًا أو معقولاً تمامًا. تاريخ “برتراند راسل” للفلسفة الغربية، ذلك الكتاب ذي المجلد الواحد، والمكون من ثمانمائة أو تسعمائة صفحة. نعم، أعتقد، أنني سأتمسك به لأغراض هذه الأيام في كندا.
دون بيل: حقيقة، الشق الثاني من سؤالي لم أفرغ منه بعد. وهو الذي سيأتي الآن –
بورخس: آه، هو إذن سؤال ذو ست طلقات، أليس كذلك؟
دون بيل: من طلقتين فحسب. هاهو الوابل الثاني. هل هناك أية صفحة من الصفحات أو عبارة أو جملة تلك التي تتذكرها بقوة أكثر من غيرها؟
بورخس: حسنًا، هذا سؤال غاية في الصعوبة. لو فكرت في واحدة، إذن فسأكون غير منصف لغيرها الكثير. تحدثت عن كيبلينج منذ لحظة. أفكر في واحدة من أجود (أفضل) قصائده، تدعى “أغنية قيثارية لنساء دنمركيات”، عن زوجات الفايكنج والاسكندنافيين، وأزواجهن الذي أصبحوا شاردي الذهن وخارجين للقتال محملين بأحلام النصر المجيد على إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا – العالم كله في واقع الأمر – ويمضي الشعر قائلاً: تعود سنويًا من جانبنا إلى الاشمئزاز. إلى الاشمئزاز ثانية من الصرخات والمذابح/ تنسل بعيدًا نحو المياه المرتطمة بالصخور/ وتتطلع إلى سفينتك في مرساها الشتوي.
وبعد ذلك، بالطبع، عندما يبدأ المرء بالاقتباسات، يفرض شكسبير المثير للجدل نفسه دائمًا، أليس كذلك؟ بدأت أتذكر إلى حد بعيد العديد من الأشياء، لكنني أعتقد أن بيتين من شعره كافيان، وهما اللذان معناهما غير مهم. بالطبع، أنا لا أعتقد أن المعنى مهم في الشعر. المهم هو الموسيقا:
الموسيقا للسماع، لِمَ تستمع للموسيقا حزينًا؟ / عذوبة بعذوبة لا للحرب، المرح يعني المرح…
ثم، فجأة، يبرق في الذهن بيتان من “تشيسترتون” عن الليل دائمًا ما أتذكرهما: غمامة تفوق العالم حجمًا/ ووحش مُشكَّل من النجوم.
الوحش المشكل من النجوم يستدعي إلى الذهن صورة غاية في الجمال لفكتور هيجو: كوكبة الشجاع (الهيدرا) تتلوى بجسدها المرسوم من توزيعات من النجوم. وحتى هذه أكثر قوة وجمالاً من صورة تشيسترتون. والآن أعتقد أننا لدينا ما يكفي من المقتطفات، وسنعود إلى محادثتنا العادية الهادئة. لكنني أجد أسئلتك حيوية ومثيرة جدًا. ليست من الأسئلة التقليدية المتلاحقة التي نتلقاها عادة، أليس كذلك؟ تلك التي من نوع: “ما رأيك في القهوة الأمريكية؟”، “ما الذي تصنعه بالأدوات الجديدة المبتكرة؟”
دون بيل: أود التطرق إلى الدور الذي لعبته السكاكين في أدبك وقصائدك. يقول أحد مترجميك إنك مهووس بالسكاكين، ذلك لأنك تتحرك والسكين في خاطرك. وفي العديد من قصصك، يموت بطلك إما بالسكين، أو يَقتُل مستخدمًا إياه –
بورخس: حسنًا، أعتقد أن السبب هو أنه في بلادي كانت الأسلحة النارية نادرة بالفعل حتى بعد دخول القرن العشرين، لذا دائمًا ما اعتبر الناس القتال هو قتال بين رجال لديهم سكاكين. عندئذ، بالطبع، كانت تختبر شجاعة الرجل. وعندما يتعلق الأمر بالتعرض لك بالتحام قتالي، يكون عليك أن تتحلى بالشجاعة. وبالطبع، كان أجدادي عسكريين. برغم اعتقادي بأنهم لم يكونوا يستخدمون السكاكين، إلا أنني رأيت سيوفًا في البيت، وهذه السيوف، فيما أعتقد، لم تكن لمجرد الزينة، أليس كذلك؟
حارب جدي في الحرب الحدودية مع أرجواي، وقاتل والدي الإسبان والبرازيليين، في الواقع، أما منحدر من أصل عسكري. ربما يوضح هذا العديد من الأشياء في قصصي. أعتقد أنني كنت سأصبح جنديًا بائسًا جدًا، لكنني بطريقة ما أجد نفسي غير مرتاح ودائمًا ما شعرت بنوع من الحزن الكآبة بشأن عدم دخولي الحياة العسكرية، وهذا سبب تعلقي الشديد بالملحمة، حيث، على سبيل المثال، تراني عندما اخترت لك اقتباسات، كان أول اقتباس هو من ملحمة “كيبلينج” عن زوجات الفايكنج الاسكندنافيين. دائمًا ما أحس كما لو أنني مفتقدًا لهذا الجزء من حياتي، وعليه كان عليَّ أن أحلم بحياتي هذه بين الكتب. بالطبع، أدرك كوني غير منصف بالنسبة للكتب لأنها، رغم كل شيء وفي النهاية، هي كالواقع تمامًا، هذا إن لم تكن أكثر واقعية منه، من السكاكين أو السيوف.
دون بيل: حسنًا، دعنا نغير الموضوع الآن و…
بورخس: نعم، ابتعد عن السلاح الأبيض، هه؟
دون بيل: نعم، لنتحدث عن هوس آخر مستحوذ عليك ومتملك منك، إنه التأثير المتبادل بين أو تفاعل الزمان والمكان: دعني أسميه سحرًا. هل تعتبر نفسك فوق طبيعي (خارقًا)؟
بورخس: حسنًا، أود أن أجيب بنعم، لكنني لست متأكدًا تمامًا من هذا. كنت أقول لصديقي السيد ألفاريز هنا أنه فيما يتعلق بمسألة الآخرة والخلود، والعيش بأجساد أخرى وعقول أخرى، فأنا، كما كان سبنسر، من أتباع مذهب اللا أدرية[2]. لا أعتقد أننا قادرين على المعرفة، لكنني أحب عدم الانغلاق العقلي. إذن، لو سألتني سواء إن كنت أؤمن بالآخرة أم لا، إن كنت أؤمن بالله أم لا، فقط يمكنني أن أجيبك بأن كل الأشياء ممكنة. وإذا كانت كل الأشياء ممكنة، فإن الجنة والنار والملائكة أيضًا هي كيانات ممكنة. ليست مستحيلة أو مستبعدة. أعني، أنني أعتقد أنه غريب جدًا أنني مفترض عليَّ العيش داخل جسدي، وأنني ينبغي عليَّ النظر إليك عن طريق عينيَّ، وأنني يجب أن أتحدث بلسان آدمي وعبر فمي، إذا كان هذا قد حدث فعلاً، فلِمَ لا تحدث أشياء أخرى عديدة رائعة؟ لِمَ لا أكون خالدًا؟ لِمَ لا أكون إلهًا، كائنًا أبديًا؟ أقصد، كل الأشياء ممكنة، لذلك لا يتحتم الجزم بشيء، ولا نفي شيء.
دون بيل: وأنت تبين هذا بوضوح وبكل حيوية في اثنتين من قصصك، على وجه التحديد، “ذاكرة فونس [3]“، و”الألِف” –
بورخس: نعم، بالنسبة لحالة “فونس”، فقد جاءت ضمن نوبة أرق. وفي إسبانية الأرجنتين، على الأقل، هناك كلمة راقية ورائعة جدًا. بدلاً من أن تقول “إنهض من النوم”، نقول “ريكاردارس” (فلتفق إلى نفسك) – ليذكِّر المرء نفسه بواقعه. وهذا حرفيًا صحيح، لأنه على سبيل المثال، هذا الصباح، عندما استيقظت، شعرت أنني على ما يرام، كنت أعيش في نوع من الفضاء اللانهائي، وفجأة أنا بورخس، أنا في كامبريدج، يجب ينبغي عليَّ الذهاب إلى كندا،… إلخ. وعليه عليَّ أن أتذكر ظروفي وأوضاعي في العالم كله، وفي حالة “فونس” أعتقدت أن الرجل الذي ينوء تحت وطأة العديد من الذكريات لا يهنأ بأي نوم. وعلى النحو المشار إليه فكرت فيه باعتباره في نهاية الأمر ميتًا تحت ثقل ذكرياته. لو تتذكر، وقت وفاته كان في ريعان الشباب، ولديه العديد والعديد من الذكريات التي كان عاجزًا بسببها عن التصريح بها أو بغيرها على الملأ، ثم أصيب بالانهيار التام.
دون بيل: القصة الأخرى كانت “الألِف”.
بورخس: حسنًا، في “الألِف” كانت عندي فكرتان في ذهني. الأولى كانت الفكرة القديمة عن العالم الصغير (الميكروكوزم)، الفكرة التي تقول بأن العالم بأكمله، الكون كله، عالم الأشياء الخارجية (الظواهر)، قد يكون، وفقًا لكل ما نعرفه، مختصرًا في أو محصورًا ضمن نطاق مكاني صغيرة جدًا، لذلك سيكون لدينا، على سبيل المثال، دائرة صغيرة مشعة بمكان ما في منزل معتم في بوينس أيرس؛ وهناك يمكن العثور على الكون برمته، وبناء عليه سنجد ألفًا آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية. وعندئذ، تولدت لديَّ فكرة أخرى. فكرت في رجل يتمتع بخاصية تتيح له الاطلاع على الكون كله، ولا يفعل بها شيئًا سوى استخدام هذا الامتياز في كتابة قصيدة تافهة. وهكذا نُسِج هذان العنصران معًا حبكة القصة.
دون بيل: أجد أنه من الملفت للنظر إلى حد ما أن بعض قصصك ظهرت في مجلة “إليري كوينز ميستري”.
بورخس: آوه، أنا فخور جدًا بهذا. حصلت بذلك على جائزة ثانية.
دون بيل: طبعًا، لا يمكنا مقارنتك بـ”ميكي سبيلان، أو روس ماكدونالد أو داشيل هاميت”، لكننا ربطنا بينك وبين “تشيسترتون، وإدجار بو وكافكا”–
بورخس: حسنًا، لا أعتقد أنني بإمكاني كتابة قصة بوليسية مباشرة مسلوقة جيدًا، كما تعرف، مليئة بالدماء وما هو جنسي… لا يمكنني عمل ذلك لأجل العيش. لكنني أتعجب من أنني لا زلت على قيد الحياة من دون عمل هذا، ناهيك عن، دي كوينسي وأهميته البالغة. قرأته، يرجع هذا إلى عام 1916 أو 1917، ومنذ ذلك الحين يبدو أنني قمت بعمل القليل بخلاف أن أقلده أو أعيد قراءته وتقديمه بأسلوبي الخاص الجنوب أمريكي.
دون بيل: في واحدة من قصصك تتحدث عن رجل يحلم أنه كان فراشة، وأنت تتساءل، أكان حقًا رجلاً يحلم بأنه كان فراشة، أم أنه كان فراشة تحلم بأنها كانت رجلاً؟
بورخس: كنت أتمنى من الله أن أكون أنا مبتكرها. فقد حصلت عليها من الصوفي الصيني “تشوانج تزو”، وقرأتها سنة 1915، في كتاب يدعى “شوانج زو: الصوفي، والفيلسوف الأخلاقي والمصلح الاجتماعي”. أعتقد أن هذا الكتاب يعطينا فكرة عن كيف نعيش الحياة مثل الحلم، إنه أفضل بكثير من شكسبير – على سبيل المثال، “نحن فحسب المادة التي تصنع منها الأحلام” – ولأن ذلك، في النهاية، تصريح عمومي شمولي. فإنه في هذه الحالة، تقترح الفراشة نوعًا من حالمية الحياة – أيضًا الفراشة قصيرة العمر جدًا. أعتقد أنه مثال رائع.
دون بيل: أنا متحير بسبب اقتباسك للمصادر. أحيانًا تكون اقتباسات موثوقًا فيها، لكن غالبًا ما تبدو مختلقة، مصنوعة بيديك. هذا يضلل القارئ لأنه لن يعرف أبدًا أيها يصدق.
بورخس: حسنًا، اسمع. سأعطيك كلمة شرف أن أكون أمينًا خلال هذه المحادثة، وبعد ذلك أيضًا. لن أخترع مؤلفين، لن أسرف في استخدام الاقتباسات الزائفة، سأبذل أفضل ما في وسعي للالتزام بهذا الوعد الجدي الذي أعطيه لك.
دون بيل: أود الآن أن ألقي عليك مقتطفًا. من قصتك “بحث ابن رشد”–
بورخس: أتذكر هذه القصة – حول عربي ذكي جدًا غير قادر على اكتشاف ما قصده أرسطو بالتراجيديا. رغم كونه رجلاً ألمعيًا جدًا، إلا أنه مفتقر للحقائق التي يحتاجها للإجابة عن بحثه.
دون بيل: حسنًا، هذا يستدعي المقتطف: “أعتقد أن ابن رشد، الذي جاهد ليتخيل الدراما بدون أن يخامره أدنى إدراك لما هو المسرح، لم يكن أكثر عبثية مني أنا الذي أجاهد لأتخيل من هو ابن رشد”.
بورخس: كنت أجمع قصة من بعض فتات المعلومات ليس إلا. وفي النهاية، ربما بعد أن اعتقدت أنني خدعت القارئ ليصدق القصة، عندئذ قلت: “أنظر، ليس عليك أن تصدقني، لأنني أعرف القليل جدًا عن ابن رشد، وهذه القصة كذب صريح من الألف من الألف إلى الياء”. لكن كل القصص زائفة بطبيعة الحال، لأنه حتى لو كتبت قصة عن جاري الملاصق لي مباشرة، فستكون قصة زائفة، لأنني في النهاية، لست هذا الجار.
دون بيل: عشت السنة الماضية في أمريكا الشمالية، شاغلاً كرسي”تشارلز إليوت نورتون[4]” في هارفارد. كيف تفاعلت مع تيارات المجتمع الأمريكي الشمالي؟
بورخس: حسنًا، رغم بعض الحنين إلى الوطن، وبعض اللوعة، وبالطبع فإنه من المستحيل أن أتجنب الحنين واللوعة، أشعر أكثر بكثير عما كنت عليه من قبل أن أصل إلى أمريكا. بالطبع، قدمت إلى هذه القارة للمرة الأولى عندما كنت ولدًا صغيرًا عن طريق “هوكليبيري فِن”. كانت هذه هي أول صورة ملموسة مجسدة كنت قد حصلت عليها – من هوكليبيري فِن والمسيسيبي والطوف وجيم الصغير، وغيرها. وبعد ذلك واصلت مع “بريت هارت” وحتى “بو”. ثم، أعتقد، باستغراب كاف، كان كتاب التاريخ الأول فعلاً الذي أقرأته من البداية إلى النهاية، وأنا فخور جدًا بهذه الحقيقة، كان – مؤامرة بونتياك – “لفرانسيس باركمان”. لذلك بقى عندي دائمًا حس تعاطفي تجاه أمريكا. كانوا على صواب وفي جانب الحق في الحربين العالميتين، والآن، من زاوية ما أشعر كما لو أنني أعود إلى أمريكا. أجد كل شيء محبب جدًا في هذه القارة. إلى جانب، أنني عثرت على أناس طيبون جدًا. الليلة الماضية، على سبيل المثال، عندما ألقيت محاضرتي الرابعة عن “إليوت نورتون” في هارفارد. حصلت على نوع من الهتاف والتصفيق لم يسبق لي أن حصلت عليه في بلدي أو في أي مكان آخر لهذه المناسبة. أعتقد أن هذه القارة متفائلة جدًا ومفعمة بالتفاؤل. بالطبع، نحن في بلدي كنا محزونين. كانت عندنا ديكتاتورية. أتمنى أن نتعافى منها لأنني مواطن أرجنتيني صالح. وأؤمن بمستقبل بلدي. في الوقت نفسه، عندما يأتي المرء إلى هنا، يشعر أنه قادم إلى عالم أكثر تفاؤلاً. بلدي تعني الكثير بالنسبة لي. أنا لا انتقص من قدره. أقول الحقيقة فحسب، لاعتقادي أنني مدين لكم بها.
دون بيل: من دون أدنى رغبة في ترويعك أو الإساءة إليك، هل قررت كيف ستكون مرثيتك التي ستتم كتابتها على قبرك؟
بورخس: حسنًا، عليك أن تمهلني عدة سنوات. ربما يمكنك أن تقول، “هنا يرقد فلان الفلاني، الذي وجد الموت ليس أقل غموضًا ولا أقل جمالاً من الحياة”. حسنًا، ابتكرت هذا الآن عفويًا. وقد لا أجد الموت أكثر تعقيدًا أو أكثر روعة. ربما سوف أجد نفسي في محنة ضد حائط سد بلا أبواب ولا نوافذ، أليس هذا ممكنًا؟
[1] البُمْب أو البمباس : سهلُ معشوشب مترامي الأطراف بأمريكا الجنوبية.
[2] مذهب اللا أدرية أو اللا أدريين، القائلين بالتوقف عن الحكم في وجود كل شيء، فهم ينكرون العلم بثبوت الشيء أو، لا- ثبوته، ويجحدون إمكان التأكد من وجود الله، ويعلقون الحكم على وجوده، فلا ينكرونه ولا يثبتونه. ومن أبرز فلاسفة هذا المذهب المحدثين توماس هكسلي (1869)، وهو الذي سك الاسم الإفرنجي للمصطلح.
[3] وفقًا لترجمة د. محمد أبو العطا، مجموعة الألف، شرقيات، 1998. وعنوان القصة الأصلي “فوينس قوي الذاكرة”.
[4] تشارلز إليوت نورتون 1827 – 1908، كاتب وتربوي أمريكي.
* نشرت هذه المقابلة للمرة الأولى في صحيفة “الناشيونال بوست” الكندية، 24 أغسطس1999، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد بورخس.