محمد هاشم عبد السلام
الفيلم
قالت سوزان سونتاج عن تانجو الشيطان: “سأسعد دائمًا لو شاهدته كل عام، طيلة حياتي”. بداية، يجب عليّ الاعتراف أنني عندما شاهدت تانجو الشيطان قبل سنوات بعيدة كنت من المفتوتين به حتى وقت قريب، وكان لهذا الافتتان أسبابه السينمائية التي لم تتغير بالقطع، لكنني وقتها لم أكن قد اطلعت بعد على الرواية. وعقب قراءة الرواية، وإعادة مشاهدة الفيلم في ضوء قراءة سينمائية تارة وقراءة روائية تارة أخرى، تبين لي أولا الفارق الكبير أو الهوة الواسعة بين الوسيط الأدبي والسينمائي فيما يتعلق بهذا العمل، ووقفت على فرادة عوالمهما الخاصة. كذلك وجدتني على إعجابي القديم بالفيلم، وإن كنت مع كل دقيقة مرت، ومع إدراكي لطبيعة التعبير في الوسيطين ومفرداتهما وأدواتهما، ألفيتني أميل بشدة إلى الرواية وقوتها وعمقها والكثير من أجوائها، التي كان من الصعب فعلا عن أي سينمائي مضاهاتها أو نقلها بصريًا إلى الشاشة. ووجدتني أُرجِع قوة الفيلم بالأساس إلى قوة الرواية، فهي التي حملت الفيلم وحلقت به وليس العكس.
من الأمور البارزة التي وسمت رواية “تانجو الشيطان” وتحدثنا عنها من قبل، البنية شبه الدائرية، ودقتها وإحكامها، بداية من جعل الفصول ذات عدد صفحات متماثل وفقرة واحدة فقط، وسرد كل فصل من نقطة يصل بها إلى نقطة تقاطع في مصائر الشخصيات وخط سيرها، كان قد تطرق إليها أو ختم بها الفصل السابق، وتلك كانت من الأمور المميزة فعلا لبناء الرواية. والغريب أن كراسناهوركاي تخلى بعض الشيء عند كتابته لسيناريو الفيلم عن تلك الطريقة، فقط حاول محاكاتها في بعض فصول الفيلم. وبالرغم من أن التنفيذ كان سهلا، عن طريق المونتاج، لكن النتيجة النهائية على الشاشة، وبرغم الاجتهاد، لم تكن بنفس القوة والبروز الذي عليه في الرواية. كما يمكننا القول إنها كانت على قدر من الغموض أو انعدام الإقناع من الناحية الفنية بالفيلم. وعليه، يمكننا القول أيضًا، إن بنية الفيلم قد اتخذت إلى حد كبير نمط البنية الخطية التصاعدية، في حين حاكى الفيلم الرواية فيما يتعلق بخط سير الأحداث وشخصياتها، دون حيود، إلا فيما ندر.
ومع ذلك، فقد حاول لازلو وتار محاكاة بنية الرواية إلى حد كبير، لدرجة محاكاة الفصول وعناوينها، والحفاظ على الطابع الزمني لكل فصل من الفصول، وجعلها متساوية قدر الإمكان – تقريبًا 40 إلى 50 دقيقة لكل منها – مع صفحات الرواية، الأمر الذي جعل زمن الفيلم يمتد لما يناهز السبع ساعات. الأمر نفسه تقريبًا ينطبق على بناء الشخصيات في الرواية، التي حافظ عليها الفيلم تمامًا. وبالرغم من قلتها بالرواية والفيلم، وبرغم براعة اختيار تار للممثلين وتوظيف قدراتهم وطاقاتهم على نحو غاية في التميز، ومحاولة الإمساك بطبيعة الشخصيات وحالاتها النفسية والذهنية عبر اللقطات المقربة والإضاءة الطبيعية والملابس المناسبة وخلق الأجواء الملائمة من حولها، وبالرغم أيضًا من أنها بدت بالفعل شخصيات من لحم ودم، لكنها لم تكن على الشاشة بنفس العمق والقوة التي بالرواية، ولم يستطع تار سبر أغوارها بصريًا كما فعل لازلو روائيًا.
لا شك في أن بيلا تار يعتبر من أكثر المخرجين المعاصرين روحانية وعمقًا منذ دراير وتاركوفسكي وبريسون، ومن هم على شاكلتهم. وأنه لفرط موهبته في تناول هذا العمل، استطاع عن جدارة وإلى حد بعيد، أن يبرز فيه ما لم تستطع الرواية إبرازه. مع الأخذ في الاعتبار أنه، في النهاية، مهما بلغت موهبة وبراعة لازلو، لا تستطيع كلماته أن ترسم، كما الصورة، منظر المنازل والبيوت والحقول والخراب بالمكان، ناهيك عن المطر المنهمر والطين والرياح وهبوب العواصف وبرودة الطقس الصقيعية وملابس الشخصيات الملطخة بالأوحال، باختصار كل ما يتعلق بطبيعة المكان وشخصياته، والتي تفوق فيها تار بصريًا بامتياز، لدرجة أنك بالفعل تكاد في الفيلم تشم رائحة الخراب في كل تفصيلة، حتى رائحة المطر والعطن والعفن بالبيوت والوحل والأوساخ بكل مكان في المنطقة، ناهيك عن قذارة الأجساد، وربما حتى فساد وخراب الأنفس، التي تنسحب عليها كل الأوصاف السابقة.
أيضًا، من بين النقاط المتفردة التي تحسب لتار دون شك، والتي تُعزى بالأساس لأسلوبه المتفرد والأصيل، تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، والموسيقا التصويرية شبه الجنائزية المُميزة، التي نسمعها تتكرر دائمًا على امتداد الكثير من مشاهد الفيلم، والتي يصعب نسيانها فعلا. كذلك، لم يكن غريبًا بروز اللقطات المفرطة الطول، منذ افتتاحية الفيلم، التي استمرت لتسع دقائق تقريبًا، والتي غلب على معظمها الصمت والسكون عادة. كذلك لقطات التتبع أو التعقب المفرطة الطول المأخوذة من الخلف أو الأمام، والتي يستحيل بالفعل أن تمحى من الذاكرة. هذا إلى جانب جميع أنواع اللقطات الأخرى التي وظفها تار ببراعة، وفقًا لطبيعة وحاجة كل مشهد. أيضًا، الاستعانة دائمًا بالإضاءة الطبيعية على امتداد الفيلم، وعدم اللجوء للإضاءة الاصطناعية إلا في مشاهد قليلة، مثل مشهد الحانة، وقت رقصة التانجو في منتصف الليل.
ومن الأمور التي تحسب للفيلم أيضًا ولتار على وجه الخصوص، إخراج مشهد الحانة ورقصة التانجو، الذي نقل لنا بالفعل تلك الحالة شبه الهستيرية، المختلطة ببعض الجنون والمجون والخبل والصخب والعربدة، لتلك الشخصيات البائسة حتى في رقصها وفرحها. وهنا بالفعل تفوق على الرواية بعض الشيء. أيضًا، إقدام تار وجرأته على تنفيذ بعض التحديات التي، ربما كانت ستستحيل على أي مخرج آخر أو كان سيتردد ويتوقف عندها طويلا، ومنها مثلا، ذلك المشهد القوي والقاسي والعنيف والجريء في الرواية، ونقصد به ذلك المتعلق بالفتاة الصغيرة، شبه المعاقة ذهنيًا، “إستي”، التي خدعها شقيقها “ساني”، والذي صارعت فيه القطة، وقتلتها، ثم انتحرت في النهاية. وبالرغم من قوة الفصل وقتامته بالرواية وما ينتج عنه من صدمة لدى القارئ، لكن تار نجح عن طريق تلك الفتاة الصغيرة، ووجهها الذي لا يُنسى بسهولة، في الاقتراب بشدة من قوة مشهد الرواية دون أدنى تلطيف أو تخفيف منه، وحقق تقريبًا نفس تأثيره بالرواية، وهذا يُحسب لتار بالقطع.
وبطبيعة الحال، مثلما تمَكّن تار حينًا من الاقتراب أو مضاهاة بعض فصول الرواية بصريًا، أخفق أحيانًا في الوصول لهذا أو الاقتراب منه على امتداد الفيلم، وليس هذا لعيب إخراجي أو لافتقاد المخرج للموهوبة أو افتقاره للمخيلة الإبداعية، ولكن مرده كما أسلفنا لطبيعة الوسيطين، فن الرواية وفن السينما. ونذكر هنا على سبيل المثال، نظرًا لأنه أحد أقوى فصول الرواية، الفصل الثاني الخاص باستدعاء “إريمياس” و”بيترينا” إلى إحدى الدوائر الحكومية، وهو بالقطع يعد فصلا كافكاويًا بامتياز ودون أدنى لبس. ومثلما أخفق عتاة الإخراج، مثل “أورسون ويلز” و”مايكل هانيكه”، في التصدي لأعمال كافكا، جانب تار التوفيق في إخراج ذلك الفصل من الرواية. وينبغي علينا القول إن لازلو وتار قد أحسنا صنعًا باستبعاد تفاصيل عدة أحداث من الرواية واختزال بعض فصولها، وهي جد قليلة، لانعدام فائدتها من ناحية، مثل فصل “رؤيا سماوية؟ هلوسة؟”، ولعدم إضافتها لجديد، من ناحية أخرى، ناهيك عن إطالة زمن الفيلم.
ربما من الأمور الأخرى القليلة البارزة بالفيلم مقارنة بالرواية، والتي تستحق التوقف والتأمل فيها كثيرًا، تلك الخاتمة المتعلقة بذلك الفعل البسيط الذي أقدم عليه الطبيب. ففي نهاية الرواية، عندما عاد إلى منزله، أغلق على نفسه الباب بالمسامير، وجلس ليكتب عن تلك الشخصيات. في حين ختم تار فيلمه بجعل الطبيب يضع ألواحًا خشبية قام بتثبيتها بالمسامير على النافذة التي كان يراقب منها، ليل نهار، شخصيات الرواية، أهل القرية، ويرصد ويكتب عن أفعالهم وتصرفاتهم اليومية، وبالتالي غرقت حجرته في ظلام دامس. وتلك، بالطبع، خاتمة أكثر قوة من خاتمة الرواية، فهنا على الأقل يعلن الطبيب، الذي كان قد عاد لتوه من المستشفى ولا يدرك شيئًا عن مغادرتهم للقرية، أن علاقته بتلك الشخصيات وبذلك العالم ومراقبته قد انتهت. وأيضًا عن بداية تجسيده ومواصلة صنعه لها ولعوالمها على الورق. وهذه المعالجة البصرية لخاتمة الرواية سينمائيًا، فاقت إلى حد بعيد خاتمتها بالكلمات على الورق.