محمد هاشم عبد السلام
كعهدنا به دائمًا أو كما عودنا هو في أغلب أفلامه، لا يخش المخرج الجزائري المعروف مرزاق علواش التطرق إلى الكثير من القضايا المصيرية الشائكة التي تؤرقه وتشغل باله، وتؤرقنا تشغلنا أيضًا، نظرًا لخطورتها الفادحة على المجتمعات العربية والإسلامية، والتي تعاني منها الكثير من بلداننا العربية عامة، ومن بينها، بالطبع، الجزائر. ومن بين القضايا التي يتصدى لها علواش دائمًا دون أن يخشى شيئًا، وبجرأة يحسد عليها، مقارنة بمجايليه أو لاحقيه من المخرجين العرب، يأتي على رأسها بالطبع قضية التطرف الديني والإرهاب، والتي سبق لعلواش تناولها في أكثر من فيلم من أفلامه الروائية الطويلة، وإن انصب اهتمامه بالأخص على المجتمع الجزائري، لينطلق منه إلى المجتمع العربي عامة، وما تسوده الآن من أفكار متطرفة تكاد تعصف به على نحو كارثي.
منذ منتصف التسعينات تقريبًا، وعلواش مشغول بظاهرة التطرف، والإسلام السياسي، والجهاد، وحمل السلاح من قبل المتعصبين في مواجهة الدولة، ثم انعكاس كل هذا على مجتمعه بالجزائر، اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا، والتبعات التي جلبها وأدت في النهاية إلى العشرية السوداء وما تلاها حتى اليوم من انقسام ونار تحت الرماد لا تزال تتقد، ليس في الجزائر وحدها فحسب، بل في بقية المجتمعات العربية، التي اكتوى الكثير منها ولا يزال حتى اليوم بنيران أصحاب هذا الفكر المتطرف، ومن تبنوه وانطلقوا لتطبيقه بقوة السلاح سعيًا لقطف ثمار أعمالهم بالخلود في الجنة ونعيمها المُقيم جزاء ما اقترفوه من أعمال سعت، في نظرهم بالطبع، لإعلاء كلمة الحق وصوت الإله ونصرة الدين، وذلك وفقًا لما تعلموه أو بالأحرى لقنوه تلقينًا على أيدي الدعاة المتطرفين والجهلاء، الذين لا يزالوا يبثون سمومهم في مجتمعاتنا منذ عقود، عبر جميع الوسائل السمعية والبصرية، وتحت رعاية وتمويل وهابي صريح وفج.
وفي فيلمه الجديد، الذي عُرض بقسم البانوراما بمهرجان برلين الأخير، والذي حمل عنوان “تحقيق في الجنة”، وهو أول تسجيلي في مسيرة علواش السينمائية، ينصب اهتمام المخرج على تفنيد بعض المقولات أو الأفكار الخاطئة التي يلوكها الكثير من العامة ويردودنها دائمًا عن جهل وعدم ودراية، وهي المتعلقة بشكل الجنة وتخيلهم لها وأوصافها وما يوجد فيها. ومنها بالقطع قضية النساء العذراوات أو الحور العين، وما يتمتع به الرجال من نعيم نسائي أبدي لا ينضب في الجنة، وعدد من النساء اللاتي سيمتلكهن ويجامعهن هناك وأوصافهن إلى آخره، وبيان مدى تشرُّب واقتناع الأفراد بهذا الفكر داخل المجتمع الجزائري بمختلف فئاته وأعماره، والذي هو في النهاية مجرد مثال أو نموذج لما يدور في ذهنية مختلف الأفراد بمجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج.
ينطلق الفيلم من قيام الصحفية الجزائرية الموهوبة والمستنيرة “نجمة” الممثلة (سليمة عبادة) – ربما لاسمها مغزى يشتبك مع رواية “نجمة” لكاتب ياسين والتي تُحيل وفقًا لقراءات كثيرة للجزائر ذاتها، لكن اختيار صحفية اثني لطرح مثل هذه الأسئلة له دلالة كبرى على أية حال – وصديقها الصحفي “مصطفى” بإجراء تحقيق إخباري مُوسّع لجريدتهما، بعدما شاهداه من فيديوهات كثيرة تدعو للتطرف والكراهية والجهاد وغيرها، وحث شباب المجاهدين على التضحية بأراواحهم وأنفسهم في سبيل الآخرة والفوز بالجنة ونعيمها وأنهارها وعسلها ولبنها وخمرها إلى آخره.
تشرع نجمة في إجراء الكثير من المقابلات الصحفية مع عامة الناس من مختلف الأعمار والفئات والطبقات، عبر العديد من المدن، من العاصمة الجزائرية إلى تيزي مستغانم وغيرها، حتى أقصى الجنوب حيث مدينة تيميمون في الجنوب، وبقدر ما تضحكنا ردودهم بقدر ما تبكينا أيضًا، عندما يعجزون مثلا عن الرد عن نصيب النساء مقابل نصيب الرجل من الاثنتين وسبعين حورية وعن النصيب المقابل للمرأة أو عن رفضهم دخول غير المسلمين الجنة. كما تمضي لعرض الفيديوهات على الطبقة المستنيرة بالمجمتع الجزائري واستطلاع آرائهم، وهي آراء مهمة وسديدة بالقطع، وبالنهاية تتقاطع تمامًا ولا تختلف بالمرة عن آراء جميع المستنيرين بعالمنا العربي، الذين تصدوا ويتصدون لتلك الحالة ولتشخيص أسبابها ودوافعهم وكيفية القضاء عليها، لكنهم يقفون مكتوفي الأيدي وعاجزين عن إتيان أي فعل ناجع.
ومن بين النقاط البارزة في الفيلم، والتي تعكس تباينًا لافتًا ودقيقًا، إن تأملناها على وجه دقيق، أن جميع من توجهت إليهم الصحفية لإجراء المقابلة بمدينة تيمويمون، وأغلبهم من النساء، ويبدو عليهم الانتماء لمستوى ثقافي وتعليم واقتصادي فقير وبسيط، كان رد فعلهم هو الخوف من التصوير، ورفض التحدث أو الرد على الأسئلة أمام الكاميرا، وهي نفس ردة الفعل التي جاءت من طلبة إحدى المدارس عندما توجهت إليهم الصحفية وطرحت عليهم الأسئلة، أي، نفس شعور بالخوف والرفض. ومن النقاط اللافتة أيضًا بالفيلم ما قاله الروائي والصحفي كمال داوود، عن أن هناك الكثير من القنوات التي تدعم التطرف والتي يرتبط بها الخطاب الديني المتطرف وتُبث ويشاهدها الناس عبر أرجاء العالم العربي، في حين لا توجد قنوات مُغايرة أو تَبُثُ أي نوع من أنواع الخطاب العلماني أو التنويري في الاتجاه المقابل.
بالطبع فيلم علواش ليس موجهًا لنا نحن أبناء المنطقة العربية، فهو بالأساس يخاطب الغرب محاولا أن يُقرِّب لذهنيته الكيفية التي يفكر بها تلك النوعية من البشر، ولماذا هم على هذا النحو، وكيف هي طبيعة الأمور في مجتمعاتنا على حقيقتها، ولماذا يقدم هؤلاء على قتل أنفسهم بالأساس. فنحن جميعًا، ربما باستثناء قلة قليلة، ندرك أسباب التطرف والإرهاب، وندرك مدى استفحال هذه الأفكار وانتشارها في مجتمهاتنا، وتغولها على مدى سنوات في الكثير من مناحي حياتنا وسلوكيات البشر من حولنا، لا سيما بعد انتشارها على الإنترنت والفضائيات أيضًا. إذًا الفيلم، رغم قوته وأهمية الشديدة وما يطرحه وما ورد فيه من أفكاره، ورغم إدانته الصريحة والمباشرة والقوية للوهابية التي جلبت وساندت ودعمت ونشرت كل هذا الفكر، بالنسبة للمُشاهد العربي المُدرك، هو مجرد تحصيل حاصل، أي لم يُضِف جديدًا، وإن شئنا الدقة، لم يُعمِّقُ من تلك الأسئلة التي باتت مطروحة، سواء على مائدة البرامج الثقافية القليلة الجادة بقنواتنا أو بعض المطبوعات والمواقع المُهتمة أو حتى بعض صفحات التواصل لبعض المستنيرين.
فقد آثر علواش في فيلمه، غير الموجه لنا بالأساس، وأنا أصرُ على هذا، ناهيك بصعوبة عرضه جماهيريًا في أي بلد من بلداننا العربية، آثر السير على الصراط المستقيم، بمعنى، أنه اكتفى بمجرد طرح أو تسليط الضوء سينمائيًا على تلك الأسئلة الشائكة، والتي لم يطرحها أحد من قبل، وتقديم الصورة المغلوطة للجنة المتوهمة من خلال آراء الكثير من العامة من مختلف الأعمار والطبقات. ومن ناحية أخرى، طرح الصورة النقيض أو تبيان أسباب انتشار هذا الفكر وتلك التصورات من جانب الكثير من الأدباء والمثقفين والفنانين والأطباء النفسيين وأصحاب الرأي المستنير من رجاء الدين وغيرهم من أبناء نفس المجتمع والمنتمين لذات الطبقات.
بالطبع، لا نطلب من علواش إيجاد أية حلول من خلال فيلمه أو تصحيح الصورة لدى أفراد المجتمع أو تغيير مفاهيمهم، لكن كان من المنتظر من مخرج له جسارته، ومهموم بتلك القضية التي تشغله منذ سنوات، أن يمضي ليطرق لب القضية الحقيقة، ويلمس الجذور الأصلية للمشكلة. فعلواش في فيلمه، على سبيل المثال، لم يتطرق لموضوع إن كانت الجنة وما ورد من أوصافها هي محض تخيل أو مجاز لتقريب الصورة العامة أم لا، وتبيان ذلك على نحو صريح وواضح وانحيازي لما هو صحيح وعقلاني؟ كذلك لم يُسلط الضوء على ما بات راسخًا في بطون كتب الفقه والتراث والتفسير والتأويل وغيرها من الآراء؟ وأيها الأصح والأدق؟ ولماذا عدم الاقتراب من المسلمات الدينية وتفنيدها؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي تجنب مرزاق طرحها، ربما لصعوبتها وجداليتها، وربما أيضًا لرؤيته أن السينما كوسيط فني يصعب عليها مثل هذا الطرح.
برغم طول فيلم “تحقيق في الجنة”، والذي أدى من ضمن ما إلى اختلال إيقاع الفيلم وحدوث بعض الترهل والتكرار وعدم الإضافة أو الإتيان بجديد خلال بعض فترات الفيلم، لكن فيلم مرزاق علواش على قدر كبير من الأهمية بالطبع، حتى وإن رأينا أنه قد أتى في مرحلة متأخرة بعض الشيء من تاريخه الفني، وأنه كان حريًا به أن يضرب على هذا الوتر، ويكشفه منذ سنوات بعيدة، بدلا من أن يكتفي، كما في أفلامه السابقة برصد التبعات دون التطرق للأصل. لكن ها هو الآن، بفيلمه هذا، يحرث التربة بحثًا عن العوالق والجذور العفنة والسامة على أمل أن يُكمِل، هو أو غيره، تنظيف الأرض وتطهيرها، ثم تمهيدها من أجل إنبات ما يصلح لأن يُعمِّر الأرض وينفعُ الناس، سواء في دنياهم أو أخراهم.