محمد هاشم عبد السلام

 

17/3/2015

 

قد تدفعك فكرة الفيلم الرئيسية إلى الرجوع بالذاكرة واستدعاء تلك المغامرات الجميلة والمجنونة التي قام بها المخرج الألماني القدير “فيرنر هيرتزوج” وأسفرت من دون شك عن إخراجه لروائع تسجيلية لا تنسى. وانطلاقًا من فكرة مماثلة أيضًا في جنونها، يُحلّق المخرج الفرنسي المتميز “هيوبر سوبر”، مخرج الفيلم التسجيلي اللافت “كابوس دارون”، بطائرة صنعها يدويًا على مدار عامين بفرنسا، ليسجل بها آخر أفلامه الإشكالية والشديد الأهمية الذي حمل عنوان “جئنا كأصدقاء”.

انطلق سوبر بتلك الطائرة الشديدة البدائية من الحدود المصرية الليبية، ليهبط بها في الجزء الشمالي من الأراضي السودانية قبيل التقسيم، يلتقي السكان المتوجسين هناك، ويطمئنهم أنه ومساعده قد “جاءا كأصدقاء” فيسمحون لهما بتصويرهم وعقد لقاءات معهم. وقد وفق “سوبر” أيما توفيق في اختياره لتسجيل أحداث تلك الفترة التاريخية الهامة والفارقة في تاريخ السودان، وخروجه بوثيقة غاية في الأهمية عن تلك البقعة المهمة بمنطقتنا، والتي لا نعلم عنها الكثير قبل وبعد التقسيم. بنظرة الأوروبي المحايد والناقد من قبل وبعنف لتجربة المستعمر الغربي برمتها في إفريقيا، يرصد لنا سوبر بكاميرته الشديدة الحيوية والصدق، تلك الروح المتسامحة بعض الشيء التي كانت بادية بين السكان قبل الانفصال، ثم الاحتقان والتشدد الذي تزايدت وتيرته لاحقًا وتجلى مع طرح من التقاهم لسؤال يستفسرون به عن هويته الدينية وإلى أي عرق ينتمي ويناصر، وكيف أن هذا كله قد تزامن مع دخول الشركات الصينية إلى الشمال وإقامتها لمشاريع كبرى هناك، لم يعمل السودانيون بها إلا في أدنى الدرجات.

ثم يأخذ سوبر في تعميق رصده للتحول عبر تصويره لبدايات حمل السلاح وإقامة معسكرات لتدريب الميلشيات أو الجنود النظاميين وحملهم لأحدث أنواع الأسحلة، وازدياد وتيرة العداء والكراهية وكل تلك العوامل التي أدت في النهاية لذلك الصراع المرير، ومعارك لم تكن لتنتهي، فكان من الحتمي أن تصل الأمور معها إلى طلب سكان الجنوب الانفصال، واصطفافهم على امتداد طوابير طويلة للمشاركة في الاقتراع من أجل التحرر عن هذا المحتل العربي. لأن هؤلاء المستعمرون العرب، على حد قولهم، قتلة وسفاكين دماء وناهبي ثروات ومحتلين أراضي ولا بد من التخلص منهم كي يستقل أهل الجنوب ويعيشون حياة راقية كريمة تنشد الرفاهية ورغد العيش مستقبلا. لكن، هل تحقق لجنوب السودان، أحدث دولة خرجت للنور، ما كان يصبو إليه أهله؟

إلى أراضي الجنوب يطير سوبر مُستعرضًا من نافذة طائرته مساحات شاسعة من الأراضي البكر الشديدة الخصوبة والغنية بالثروات، وفي نفس الوقت تعاني الجفاف والإهمال أو تعج بالمقابر الجماعية أو الألغام الأرضية، ليرصد لنا بنفس تلك الحيادية الأوضاع في أراضي الجنوب، الذي راحت تغزوه الشركات الأمريكية والأوروبية الواعدة بتحقيق الرخاء والرفاهية هناك. ويطلعنا كذلك على دور البعثات الدينية التبشيرية والجانب الإنساني والتعليمي، لا يخلو من مسحة سياسية بالطبع، الذي تلعبه هناك تجاه أهل الجنوب ومحاولة مساعدتهم في التغلب على الفقر والتخلف والأمراض، وانتشال الأطفال من الجوع والأمية بل وفي بعض الأماكن، العمل على إمدادهم بالكساء وتدريبهم على ارتداء الملابس وانتعال الأحذية، رغم رفض الكثير من الأطفال تحديدًا لأي شيء قد يستر أجسادهم العارية بالكامل، فهم يولدون ويعيشون ويموتون هكذا. كل هذا من دون أي افتعال أو زيف من جانب المخرج في نقل تلك الصورة الصادمة لنا وربما للعالم ونحن في قرننا الحادي والعشرين.

ومع اقتراب الفيلم، الذي يبلغ طوله الساعتين تقريبًا، (110) دقيقة على وجه التحديد، وعلى نحو صادم جدًا، يطلعنا سوبر على الحقيقة القاسية، عبر مجموعة من اللقاءات التي ترصد لنا تفشي صور الفساد من جانب الجميع، قادة الجيش والسياسيين ورجال الأعمال وزعماء القبائل وأثرياء الحرب وغيرهم من الخاضعين لسطوة وسيطرة المُستعمرين الجُدد المتمثلين في الشركات الأجنبية، التي باتت تمارس كل الحيل الممكنة وغير الممكنة لإبرام عقود طويلة الأجل مقابل أثمان بخسة للتنقيب عن البترول واستخراج المعادن وبناء المصانع وتشييد المطارات، دون اهتمامها قط بتحسين أحوال ما حولها من أرض وبشر. وانتهاء باستغلال الأهالي البسطاء وجهلهم للاستيلاء على عشرة بالمئة تقريبًا من الأراضي بعقود يشوبها التدليس البيّن تحت ستار التطوير والتنمية وغيرها من الأحلام الوردية.

ومن ثم، نجد أنفسنا في النهاية كمشاهدين استمتعوا بالفعل برؤية هذا الفيلم المُوجع “جئنا كأصدقاء” وقد بتنا على يقين تام بأنه لم يتبدل أي شيء، وأن الأوضاع على الأرض قبل وبعد الانفصال لم تتغير بالمرة، بل انقلبت للعكس وجاء بدل المستعمر الواحد أكثر من مستعمر بأكثر من جنسية، وبات أصحاب الأرض الأصليين يخشون أن يطردوا من أكواخهم البائسة، ويرهبون ذلك المستقبل الشديد الغموض والمُنذر بحروب أخرى قادمة والذي لم يعد مُشرقًا وواعدًا كما كانوا يحلمون.

يترك لنا الفيلم حرية تقييم ما شاهدناه على امتداد وقائعه وأحداثه، دون الانحياز لجانب أهل الشمال أو أهل الجنوب أو اتهام أحد بأي اتهامات تاركًا التقييم الأخير لنا، ومحاولة الإجابة عن العديد من الأسئلة التي يطرحها علينا الفيلم نحن أهل تلك المنطقة، والتي طرحها أيضًا بعض السكان الذين راحوا يتساءلون في وجاهة وعلى نحو غاية في السخرية والمرارة عن مصدر تلك الأسلحة الفرنسية الصنع بأراضيهم وعمّن جاء بها وسلح أهلهم بها، وعن تلك الرغبة غير المفهومة من جانب أمريكا في تغيير العالم في حين أنها لا ترسل وفودًا وبعثات لمساعدة الشعوب وإرشادها وإفادتها من أجل القضاء على تخلفها وتعمير أراضيها ومحو أميتها والتخلص من الفقر والأمراض بها.

في حين يُبرز المُخرج شهادة أمريكي من العاملين بالجنوب يقول فيها: “إن العالم الثالث متأخر عن العالم الأول بمئتي سنة تقريبًا، وأنه قد يكون هو من اختار أن يعيش على هذا النحو من حيث طبيعة حياته ودرجة تحضره، وليس ضرورًا أن يكون على النحو الذي هو عليه نتيجة لفشله في التطور، بالعكس الأمر قد يكون اختيارًا منذ البداية، لأنه ببساطة يروق لهم أن يكونوا عالمًا ثالثًا”، وما قاله يضعنا دون شك أمام أنفسنا طارحًا علينا أحد أهم الأسئلة المصيرية التي لا مفر أمامنا من الإجابة عليها.

هل سنفيق يومًا لنُخرج منطقتنا من كل ما مرت وتمر به وباتت أسبابه ودوافعه جلية أمامنا وأمام الجميع، وليس أولهم مخرج هذا الفيلم، أم سنبقى هكذا ونظل وتظل تلك المنطقة تعاني آثار العولمة وتبعاتها وهي تمكث بانتظار من يأتي لإنقاذها وإدخالها عنوة للقرون الحديثة وإلحاقها بركب التطور البشري؟

ولد المخرج “هيوبرت سوبر” عام 1966 في منطقة تيرول، بالنمسا. وهو مخرج وكاتب وممثل ومنتج سينمائي. درس التصوير الفوتوغرافي في الولايات المتحدة، ثم درس الإخراج السينمائي في جامعة فيينا للفنون الجميلة، ثم انتقل منذ عام 1994 للإقامة في فرنسا والدراسة بجامعة باريس 8. و”سوبر” أستاذ جامعي زائر في جامعات هارفارد، وييل، وكولومبيا بنيويورك، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وكلورادو، والجامعة المركزية في فنزويلا، وجامعة هافانا في كوبا. وقد حصل فيلمه “مذكرات كيسانجانى” على شهادة تقدير من لجنة التحكيم في مهرجان “كارلوفي فاري” عام 1998، ونال عنه أيضًا في نفس العام جائزة “نورمبرج” لأحسن فيلم عن حقوق الإنسان.

أما فيلمه المهم والمتميز “كابوس دارون” فقد حصل على جائزة علامة سينما أوروبا من مهرجان “فينيسيا” عام 2004، كما اختير الفيلم من قِبل “هيئة جوائز السينما الأوروبية” كأفضل فيلم تسجيلي في عام 2005، وفى عام 2006 تم ترشيحه لجائزة أوسكار أحسن فيلم تسجيلي عام 2006. وقد مُنح فيلمه الأخير “جئنا كأصدقاء” جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” في مهرجان “صندانس” عام 2014، وجائزة “السلام” في مهرجان “برلين السينمائي الدولي” لعام 2014. ونرى أن “جئنا كأصدقاء”، من وجهة نظرنا، يعتبر هو الجزء الثالث من ثلاثيته الإفريقية، وذلك بعد فيلميه “مذكرات كيسانجاني” (1998) الذي تناول فيه مآسي الحروب في رواندا والكنغو، و”كابوس دارون” (2004) الذي تحدث فيه عن تأثير صيد أسماك بحيرة فيكتوريا وبيعها في الأسواق الأوروبية، والأضرار العائدة على أهل تنزانيا الذين يتضورون جوعًا ولا يجدون تلك الأسماك.

وقد أخرج سوبر أفلامًا روائية وتسجيلية وصل عددها إلى تسعة أعمال، إلا إن الأفلام التسجيلية على وجه الخصوص هي التي صنعت شهرته، وقائمة أفلامه التسعة كالتالي: “عصر الحد الأقصى” (1989)، “البلاسي” (1990)، “القراصنة في النمسا” (1990)، “لديّ شيء سار” (1993)، “لذلك أمشي نائمًا في وضح النهار” (1994)، والتسجيلي “مذكرات كيسانجاني” (1998)، “وحيدون مع حكاياتنا” (2002)، والتسجيلي “كابوس دارون” (2004)، والتسجيلي “جئنا كأصدقاء” (2014).