محمد هاشم عبد السلام

 

في هذه الحكايات المثيرة الشيقة، نبحر في عالم قلَّ تواجده بحدة في حياتنا وكأن المخيلة قد أجدبت أو أن الحياة لم تعد تبعث فينا أو تلهمنا بما هو مفارق للعادي والمألوف، وفي هذه الكتاب الذي يحمل عنوان “حكايات شاعرية : قصائد من الأدب الألماني الحديث”، نعود إلى هذه النوع من الحكايات المفارقة للواقع، حكايات الجن، والسحر، والبطولة، والخرافة، والأحلام، والطموح إلى تغيير الأوضاع الظالمة، وانتفاء الجوع، وانتشار الحب والسلام والطمأنينة. وهي أيضًا الحكايات الشاعرية التي لا تخلو من رصد للغدر، والظلم، والبؤس، والتعاسة، وبحث الإنسان عن حريته وكرامته، والعلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة، على مر العصور، بين الإنسان وغيره من بني جنسه؛ مثل علاقة العبد والسيد والحاكم والمحكوم، بين الإنسان والكون – القدر، والطبيعة وغيره من العوالم المرئية وغير المرئية، الواقعية والمتخيلة، وكل ما تمور به هذه العلاقات.

كل هذه العلاقات وغيرها يتم رصدها في مساحة لا تتجاوز الصفحة أو الصفحتين أو، وهي حكايات قليلة، في بضعة صفحات على الأكثر، وكلها عبارة عن خلاصة فكرية فلسفية تأملية تعليمية تربوية، وقبل كل هذا، قصصية شعرية، لأن أساس صياغتها هو الشعر، إنها إن شئنا الدقة ذلك القالب الأوروبي الذي يعرف في الغرب منذ القدم باسم الـ”البالاد”، أي القصيدة القصصية أو القصة الغنائية، وهي مأخوذة من الكلمة الإيطالية “باللاتا” والكلمة البروفنسالية “بالادا” وتطلق في البلاد الرومانية منذ القرن الثاني عشر على الأغنية المصحوبة بالرقص وذات القوافي المتكررة. وانتقلت الكلمة –  التي تطورت في فرنسا القرن الخامس عشر إلى شكل فني محكم – إلى ألمانيا في القرن السادس عشر حيث دل معناها على الأغنية الراقصة، ثم انتقلت من الفرنسية إلى الإنجليزية حيث أصبحت تطلق منذ القرن الثامن عشر على الأغاني الشعبية القصصية. والميزة التي جعلت الكثير من المبدعين الألمان وغير الألمان يلجئون إليها، عبر العصور، رغم صعوبتها، هو ما أنها حسبما يشير المترجم في تمهيده للكتاب: “مجمع فنون أدبية مختلفة، تتميز بوجود السرد الذي استمدته من الملحمة والقصة والرواية، وبوجود الصراع والحوار اللذان استعارتهما من الدراما، وفيها العاطفة الأسيانة والشجن العميق الرقيق اللذان يجريان مجرى الدم في عروق الشعر الغنائي، وفيها – قبل ذلك كله – نصيب موفور من التأثر بالأغنية الشعبية بتراثها العريق وأشكالها ومضامينها البسيطة المؤثرة تأثيرًا مباشرًا على الوجدان، وهو تأثير تظل محتفظة به مهما تعقد شكل بنائها في مقطوعات وأوزان مختلفة الأطوال، ولوازم غنائية متكررة، وحرص على الإيقاع والقافية بطرق وأساليب متعددة، أو على التخلي عنها”.

يضم هذا الكتاب ما يزيد عن خمسين “بالادة” أو قصيدة قصصية، لأكثر من عشرين مبدعًا منهم المشهورين مثل، برتولت بريشت، وجوته وشيللر، ومنهم المعاصرين مثل، كارل ميكيل (1935 – 2000)، ومنهم القدماء مثل جوته (1749 – 1832)، إن بين أيدينا مجموعة من الحكايات المختلفة في التناول وفي المراحل التاريخية وفي طبيعة كتابها وتوجهاتهم الرؤيوية والإبداعية والحياتية. ومن بين هؤلاء الكتاب الذين ضمهم الكتاب: “يوهان فولفجانج جوته، كليمنس برنتانو، فريدريش هيبيل، فريدريش شيللر، أدالبيرفون شاميسو، لودفيج أولاند، هينريش هيني، إريش كيستنر، فرانز فيمان، فريدريش ريكرت، أناستازيوس جرين، برتولت بريشت، يوهان جوتفريد هيردر، إدوارد موريكه، يواخيم رنجلناتز، كارل ميكيل، برتولد فيرتيل، تيودور فونتانه، أدزلف جلاسبرنر، ريشارد ديميل، فريدريش فولف، إريش فاينرت، يوهانيس بيشر”. وفي نهاية الكتاب ثمة تعريف شامل دقيق بكل كاتب منهم بأعماله ونبذة عن حياته، وهو جهد يشكر عليه الدكتور عبد الغفار مكاوي كثيرًا، والذي عمل على نقل النص بمنتهى الدقة والأمانة قدر الإمكان، رغم اعترافه بتقصيره في صعوبة ترجمة الشعر الألماني بقوافيه وأوزانه ورنين الكلمات وعذوبتها إلى اللغة العربية، ورغم ذلك فقد جاءت الترجمة وموفقة وشاعرية وربما توازي الأصل في عدد من البالادات.

نختم في النهاية بنموذج من هذه الحكايات وهي لفريدريش فولف (1888 – 1953)، وتحمل عنوان حكاية شجرة المانجو: “شجرة المانجو عمرها آلاف السنين، آلاف القرود نامت على فروعها، آلاف الطيور بنت فيها أعشاشها. شجرة عمرها من عمر الدولة العظمى!

شجرة المانجو تقف في مكانها منذ آلاف السنين، آلاف البشر استراحوا في ظلها، وفلاحون من حقول الأرز، ومسافرون مع القوافل، وجنود.. أكثر من مائة جيل تمد عليهم شجرة المانجو ظلالها!

لكن ذات يوم هبت عاصفة على شجرة المانجو. سقط أحد غصونها على الأرض وصار حربة، ووقع أحدها في النار وتحول إلى مشعل لهب، وانكسر غصن ثالث فصار مقبض بندقية.

مائة بندقية، ألف بندقية، عشرة آلاف بندقية، من شجرة المانجو العتيقة العجوز”.

 

عنوان الكتاب: حكايات شاعرية (قصائد قصصية من الأدب الألماني الحديث)

تعريب : د. عبد الغفار مكاوي

الناشر: آفاق عالمية – الهيئة العامة لقصور الثقافة –  مصر

الطبعة: الأولى 2004

الصفحات: 215 قطع متوسط