فينيسيا – محمد هاشم عبد السلام
اختتمت مساء السبت 6 سبتمبر/ أيلول فعاليات الدورة الـ82 من “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“، والتي بدأت عروضها في 27 أغسطس/ آب الماضي، وذلك بتوزيع جوائز مختلف المسابقات الفرعية، وصولًا إلى جوائز “المُسابقة الرئيسية”، التي أعلنها رئيس لجنة التحكيم، المُخرج الأميركي ألكسندر باين، وشارك في عضويتها المخرج الفرنسي ستيفان بريزيه، والمخرجة الإيطالية مورا ديلبيرو، والمخرج الروماني كريستيان مونجيو، والمخرج الإيراني محمد رسولوف، والممثلة البرازيلية فرناندا توريس، والممثلة الصينية چاو تاو.
التوقعات التي سبقت انطلاق فعاليات الدورة الـ82، والآمال المعقودة على الأسماء الكبيرة المشاركة فيها، والتوقعات بمستوى أفلام يعد بكثير، انتهت كلها على شواطئ جزيرة “ليدو فينيسيا” إلى خيبة أمل كبيرة، وربما كثير من الإحباط. سيما وأن أغلب الأفلام المعروضة لم يبرز منها ما يمكن أن يطلق عليه “تحفة فنية”. كما لم تحمل عودة نجوم الإخراج المخضرمين كثيرًا من التجديد، أو ما هو مفارق، أو يمثل انقلابًا، فكريًا، أو أسلوبيًا، أو جماليًا، على ما سبق لهم تقديمه. المثير للغرابة أكثر أنه في مختلف الدورات كان يبرز في التمثيل النسائي تحديدًا أكثر من أداء يضعنا في حيرة بالغة إزاء من تستحق الجائزة، لكن هذا العام لم تبرز أكثر من ممثلة بأداء لافت. كما لم يتألق كثير من الممثلين الذكور. إجمالًا، ولأن أغلب الأفلام المتنافسة كانت ذات مستويات جيدة، أو أكثر قليلًا، فأظن أن توزيع الجوائز وحسمها النتيجة لم تكن مهمة عسيرة، أو تطلبت نقاشات وجدالات كثيرة بين أعضاء لجنة التحكيم.
خارج الصالات: حضور غير مسبوق لفلسطين
على النقيض مما حدث في مهرجان برلين في دورته الماضية، حيث منعت أية مظاهرات مؤيدة لفلسطين، أو إبداء أي نوع من التضامن، وقمع حتى المخرجين، وعلى عكس مهرجان كان، الذي أكد قبل انعقاد دورته الأخيرة على خلو السجادة الحمراء من أية إشارات تضامنية سياسية مع فلسطين، لم تخل أغلب فعاليات السجادة الحمراء في مهرجان فينيسيا من حضور فلسطين والعلم الفلسطيني، وذكر غزة بشكل لافت للغاية، من دون أي اعتراض. كما لم يمنع المهرجان الجمهور، أو الإعلاميين، من الاتشاح بالوشاح الفلسطيني، أو الكوفية الفلسطينية الشهيرة، أو وضع دبابيس علم فلسطين، أو رفع صورة الشهيدة هند رجب، أو رفع الأعلام الفلسطينية، الكبيرة أو الصغيرة، سواء داخل القاعات، أو خارجها.

امتد الأمر لعدم اعتراض الأمن الإيطالي، ولا إدارة البينالي، ولا المهرجان، على وصول أكبر تظاهرة في تاريخ المهرجانات السينمائية، تقدر بـ15 ألف من المتظاهرين السلميين المؤيدين لفلسطين، والمناهضين لما يحدث في غزة، والمناصرين لوقف حرب الإبادة والتجويع. تزامن هذا مع إصدار بيانات إدانة صريحة وقع عليها كبار الفنانيين الإيطاليين، ونخبة من كبار المخرجين العالميين. وإذا أضفنا إلى هذا الاختيار الجريء لفيلم “صوت هند رجب”، وغيره من الأفلام من فلسطين، أو تتناول القضية، وما يحدث في غزة، فيمكن التأكيد على أن المهرجان قام بدور ريادي على المستوى الفني والأخلاقي والإنساني، وحتى السياسي، قدر الاستطاعة. وإن كانت إدارة المهرجان والبينالي لم تصدرا بيانًا صريحًا يدين إسرائيل، أو يدعوها لوقف الحرب، وإنهاء المجاعة والإبادة.
جوائز “المُسابقة الرئيسية”
اللافت للانتباه في الجوائز المعلنة هذا العام أن لجنة التحكيم لم تتأثر قط بأسماء المخرجين الكبار المشاركين في المنافسة، ولم تتردد أبدًا في منح أكثر من جائزة لمخرجين مشاركين للمرة الأولى في المهرجان.
في أول مشاركة له على الإطلاق في المهرجان انتزع الأميركي المخضرم جيم جارموش “الأسد الذهبي” بجدارة عن رائعته “أب أم أخت أخ”. يعود جارموش في جديده إلى أسلوبه القديم المميز ليقدم عمقه الإنساني المعتاد، بسينما بسيطة ومكثفة وخالية من التعقيد، فقط الأداء الرصين والحوارات القصيرة الموجزة، المصيبة لهدفها، من خلال ثلاث قصص مختلفة، ومنفصلة، تروي كل واحدة كثيرًا عن تفسخ العلاقات الأسرية والإنسانية.
أما جائزة “الأسد الفضي”، أو “جائزة لجنة التحكيم الكبرى”، التالية في الأهمية لجائزة “الأسد الذهبي”، فنالها فيلم “صوت هند رجب” للتونسية كوثر بن هنية، في أول مشاركة لها في مسابقة المهرجان على الإطلاق، لتصبح المخرجة العربية الثانية التي تحصل على هذه الجائزة الرفيعة في مهرجان كبير بحجم وعراقة مهرجان فينيسيا. يسرد الفيلم خلفيات الحادث الأليم الذي راحت ضحيته الشهيدة الصبية هند رجب. وذلك عبر استعادة صوتية لمكالمتها المطولة المُستغيثة والمُستنجدة بطواقم الإسعاف لإنقاذها قبل أن تغتالها وأقاربها رصاصات جيش الاحتلال الغادر.

أيضًا، في أول مشاركة له في مسابقة المهرجان، حصل الأميركي بيني سافدي على جائزة أفضل إخراج عن فيلمه “آلة التحطيم”، وذلك في أول فيلم له، كتابة وإخراجًا وإنتاجًا، من دون شقيقه جوش سافدي. لم ينل الفيلم كثيرًا من الاستحسان، بل رأى بعض النقاد أنه من بين أفلام المهرجان التي سقطت في فخ انعدام الأصالة، وتكرار الموضوع، وعدم الإتيان بجديد على مستوى الأحداث والشخصيات، رغم الأداء الجيد للممثل داوين جونسون في دور المصارع مارك كير. أجاد بيني سافدي توظيف داوين جونسون الذي كان مصارعًا قبل احترافه التمثيل لتقديم شخصية مصارع يصارع النجومية والأفول.
أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فذهبت إلى الوثائقي “تحت الغيوم” للإيطالي المخضرم في عالم الوثائقيات جيانفرانكو روسي، المتوج من قبل بجائزة “الأسد الذهبي” عن “الطريق الدائري” (2013). في فيلمه، يرصد المخرج، بالأبيض والأسود، وبأسلوب أنقذ الفيلم من فخ السقوط في العادي والمتكرر في هذه النوعية من الوثائقيات، الخطر الذي تواجهه مدينة نابولي، حيث يهددها أكثر من بركان. إضافة إلى تزايد الهزات الأرضية، رغم ضعفها، ورصد قلق ورعب السكان. بينما في أماكن أخرى، تحت الأرض، لا يكف الأثريون عن التنقيب عن آثار المدينة المطمورة.
كذلك حصل فيلم “في العمل”، للمخرجة وكاتبة السيناريو الفرنسية فاليري دونزيلي، على جائزة أفضل سيناريو، في أول مشاركة لها في المسابقة. الجائزة بعيدًا عن كونها مستحقة، تلفت الأنظار للمخرجة، ولأعمالها ذات النَفَس المختلف كثيرًا عما تقدمه السينما الفرنسية المعتادة، خاصة الأعمال النسائية. إذ تتسم أعمالها بالتنوع، والحضور الإنساني، والتكثيف، والاختيار الجيد للممثلين. تدور أحداث فيلمها عن مصور فوتوغرافي يترك التصوير ويمتهن الكتابة. وبعد إصدار روايات عدة غير ناجحة، يضطر إلى امتهان مهن كثيرة للبقاء على قيد الحياة بعد رفض نشر أعماله الجديدة.
لم يستطع أي ممثل آخر، في أفلام المسابقة التي ضمت 21 فيلمًا، التفوق على أداء الإيطالي العملاق توني سيرفيلو. ولذا، كان متوقعًا بقوة حصوله على جائزة “كأس فولبي لأحسن ممثل” عن دور ماريانو دي سانتيس، الرئيس الإيطالي المُتخيل، في فيلم “الرحمة” لباولو سورينتينو. رغم ما يطرحه المخرج في فيلمه من أفكار ومشاعر وفكر تأملي صادق، إلا أن هذا كله لم يكن ليكتمل أبدًا من دون ممثل من عينة سيرفيلو، بمقدوره أن يحمل الفيلم على كتفيه، ويجعلنا نصدق الشخصية وهواجسها وتوتراتها وانفعالاتها.

أما جائزة كأس فولبي لأفضل مُمثلة، فحصلت عليها الصينية زيلي شين عن دور ميون في فيلم “الشمس تشرق علينا جميعًا” للمخرج شانج جون كاي. يعد أداء زيلي شين الرائع وتتويجها بالجائزة بمثابة مكافأة للفيلم إجمالًا، وكان من أبرز الأفلام الدرامية الكلاسيكية الطابع المعروض في المسابقة. اتسم أداء الممثلة بالبساطة الشديدة، وقوة التعبير عن مشاعر امرأة لا تكف الأقدار المعاكسة عن الوقوف في طريقها، وقلب حياتها تمامًا، سواء في عملها، أو مع حبيبها، أو في ما يخص حملها، أو علاقتها بزوجها مريض السرطان والسجين السابق.
أخيرًا، حصلت على جائزة مارشيلو ماستروياني لأفضل مُمثلة صاعدة السويسرية لونا ويدلر عن شخصية غريتا في فيلم “صديقي الصامت”، للمجرية إلديكو إنيدي. يعد الفيلم أحد أكثر أفلام المهرجان غرابة وإثارة وجدة وتجريدًا وعمقًا. يلامس الفيلم الإنساني بمنتهى العمق، وبالأسلوب الفني المعهود لدى المخرجة، وذلك عبر ثلاث قصص تدور في أزمنة مختلفة ترصد علاقة البشر بالنباتات وتفاعلنا معها.
فيلم الختام
عقب توزيع الجوائز عُرض فيلم الختام الفرنسي “الكلب رقم 51” للمخرج سيدريك خيمينيز. ينتمي الفيلم إلى نوعية أفلام دراما التشويق والتحري، التي تسلط الضوء على تصرفات رجال الشرطة وعقولهم، لكن في أجواء تدور في المستقبل القريب. إذ نرى العاصمة باريس، ومحيط برج إيفل الشهير، وقد تحولت إلى غابة من البنايات الإسمنتية الزجاجية، في تشابه مسخي بين عاصمة النور وشبيهاتها في أميركا. كما جرى تقسيم المدينة إلى مناطق، 1 و2 و3، بحيث يحذر التنقل بينها إلا لمن يمتلك تصريحات انتقال خاصة، ومنهم رجال الشرطة.
يتسم الفيلم بإيقاع سريع للغاية، إذ لا يهدأ صوت الرصاص، ولا تتوقف المطارات، ولا تغيب الدماء المسكوبة لعشرات الرجال. في قلب المعمعة، نتعرف على الشرطيين زيم (جيل ليلوش)، وساليا (أديل إكساركوبولوس)، ونعاين مدى تحكم الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات من الكمبيوترات الفائقة السرعة، في توجيه مجريات الأمور. يمضي زيم وساليا في طريقهما العسير لكشف جريمة قتل أحد الوزراء. وبعد توتر على مدى ساعتين تقريبًا، نكتشف أن الأحداث التي دارت، والقتل والاغتيالات، وغيرهما، كانت من تدبير الذكاء الاصطناعي نفسه، الذي خرج عن طور الوزارة، وتمرد على الأوامر، وبات ينفذ فقط ما يراه صحيحًا. وعليه، فإن الفيلم الذي يبدو عاديًا للغاية، ومناسبًا جدًا للعرض على شبكة (نتفليكس) الشريكة في الإنتاج، يتضح أنه في النهاية يحذر وبشدة، على طريقته، من مخاطر الذكاء الاصطناعي.
جوائز عربية

كما فاز الفيلم اللبناني “نجوم الأمل والألم”، أو “عالم حزين وجميل”، للمخرج سيريل عريس، المشارك في تظاهرة “أيام المؤلف”، بجائزة “الجمهور”. الجائزة تمنح بناء على تصويت الجمهور، وتقاسمها الفيلم مع فيلم “ذاكرة” للأوكرانية فلادلينا ساندو.
بعد أفلام وثائقية عدة لافتة جدًا، أقدم سيريل عريس على إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول. الفيلم دراما رومانسية كوميدية، لطيفة ومؤثرة وصادقة، تلامس الجمهور العريض الباحث عن إمكانية الحب والرومانسية والتعايش، رغم حضور الموت والحرب والفراق والرحيل. وذلك عبر قصة حب تجمع بين رجل وامرأة وُلدا في اليوم نفسه تحت وطأة القصف، وفرقتهما الحياة، ثم جمعهما القدر.