محمد هاشم عبد السلام
في فيلمه الروائي الأول الطويل ”رُقية“ (Roqia)، وبعد إنجازه لعدة أفلام قصيرة، يفاجئنا المخرج الجزائري المُستقل يانيس كوسيم بعمل مُحكم ينتمي لنوعية أفلام الرعب الشهيرة. ورغم أن الفيلم بالغ القتامة، وعلى قدر كبير من العنف، وصادم للغاية، لكنه جد عميق ومؤثر ومشوق وصادق.
ليس ثمة مبالغة في التأكيد على أن ”رُقية“، المعروض خلال فعالية ”أسبوع النقاد في فينيسيا“ في دورتها الـ40، يعتبر من بين أفضل الأفلام العربية المصنوعة في السنوات الأخيرة. والأهم، أنه الأكثر فرادة وتميزًا عربيًا ضمن هذه النوعية الصعبة من الأفلام.
المثير للانتباه جدًا أن الفيلم كان، بلا جدال، من بين أهم وأميز الأفلام التي عرضت على امتداد فعاليات الدورة الـ82 لـ“مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“ (27 أغسطس/ آب – 6 سبتمبر/ أيلول، 2025)، مقارنة حتى بالأفلام العالمية الكبيرة المعروضة.
لا شك أن نوعية أفلام الرعب في السينما العربية نادرة جدًا. وأن الأفلام الجادة والأصلية والمُرعبة حقًا بالغة الندرة، أو معدومة تقريبًا في السينما العربية. خاصة المصنوعة ببراعة فنية، وحرفية إخراجية، وتنطوي على طرح فكري أو فلسفي أو إنساني. أو تقدم شخصيات ذات ثقل وأبعاد نفسية عميقة، تنأى بها عن التكرار والنمطية، أو عن الفشل في إثارة أي رعب، بل إثارة الضحك.
وهذا، للحق والأمانة، ينطبق أيضًا على سينما الرعب العالمية الراهنة، والتي باتت تشهد حبكات مكررة، وشخصيات مسطحة، وضحالة أحداث، ورؤية فكرية وفنية لا تتجاوز التسلية الرخيصة. التدهور الحاد في مستويات هذه النوعية، المحببة لدى الجمهور، جعلت شريحة عريضة تنصرف عنها تدريجيًا. خاصة، بعدما باتت تتخفى وراء المؤثرات الخاصة والحيل التكنولوجية، وابتعدت بأميال عن الجدية والابتكار، وصناعة أفلام رعب حقيقية وصادقة، تحترم الفن وعقول المشاهدين، قبل أي شيء.
لهذه الأسباب، وغيرها الكثير، يُعدّ فيلم “رُقية” مفاجأة سارة للغاية، وربما مذهلة، في ضوء مشاهدته ضمن أفلام بتوقيع كبار المخرجين في مهرجان بحجم وعراقة ”فينيسيا“. فإذا بنا أمام مخرج موهوب فعلا، يقدم تجربة ذكية وأصيلة وشيقة، وغير مسبوقة تقريبًا، تتخذ من أحد أصعب الأنواع السينمائية قالبًا تُناقش من خلاله قضايا شديدة الحساسية، وبالغة الجرأة والعمق. مع الابتعاد تمامًا عن تقديم فيلم رعب رخيص، أو عنف مجاني، يدغدغ أدرينالين المشاهدين، دون طائل.
من ناحية أخرى، ينبغي التأكيد على أن الكثير من المشاهدين العاديين، أو غير المحبذين أو المعتادين على هذه النوعية من الأفلام، وما تنطوي عليه من مشاهد عنف جريئة وصادمة، سيشعرون بعدم الارتياح لجرعة الرعب والعنف الزائدة، والدموية غير المُخففة. خاصة وأن مشاهد كثيرة في الفيلم مصنوعة بحرفية شديدة بالغة الواقعية، تنزع عنها ما يقربها من الخيال أو الإيهام. إذ لم يسع كُوسيم إلى دغدغة المشاعر والعواطف، بقدر سعيه الصادق لتوظيف مشاهد واقعية جدًا، تستحضر الماضي القريب والحاضر المعاصر، لإحداث أقصى قدر من الرعب الناجم عن فزع استعادة أو تكرار التجارب القاسية التي مرت على المجتمع الجزائري تحديدًا.
وعليه، فإن الفيلم صعب المشاهدة فعلا. ليس فقط لكونه يُثير القلق، ويُجبر المشاهدين على التفكير والشعور، واستحضار رعب الواقع وآثار الماضي، وما حدث في الجزائر أثناء العشرية السوداء وما تلاها، بل أيضًا بسبب بنية حبكته غير الخطية، والنقلات الزمنية، وشخصياته الغامضة، وأحداثه الملتبسة والمتداخلة.
تعتبر تجربة ”رُقية“، المُكتملة فنيًا إلا من هَنَّات غير مؤثرة، خير تجسيد لمدى قوة النص، وصياغة الأفكار، وبناء أحداث مقنعة. كذلك، الاعتماد على مهارات فنية وتقنية بسيطة. مثلا، عدم الإفراط أو المبالغة في حركة الكاميرا، والاكتفاء بكاميرا محمولة سريعة، وإبداع لقطات مقربة ملهمة لمدير التصوير البارع جان ماري ديلورم. أيضًا، عدم الانشغال كثيرًا بجودة الصورة أو مدى صقلها وبريقها. ولذا، يبرز الابتعاد عن الحيل المعهودة في مثل هذه الأفلام، أو الاختباء وراء الاستخدام المبهر للمؤثرات والجرافيك، أو الإفراط في توظيف المكياج والديكورات الغريبة.
لم يبذل المخرج مجهودات خارقة لكسر المعتاد في هذا النوع السينمائي. فقط حافظ على أكبر قدر من الغموض في فيلمه. وتقريبًا، عدم توظيف المؤثرات الخاصة، خلا الصوتي منها، في مشاهد بعينها تطلبت هذا الأمر. كما يحسب له قيامه بإظهار الشخصيات الممسوسة بشكل غير مبالغ فيه. فقط، يُصدرون صرخات وحشية وأصواتًا مرعبة، مع بعض المكياج البسيط، والمؤثرات الصوتية غير المتكلفة، مما جعهلم يبدون بشريين، وأكثر إنسانية، وغير مثيرين للنفور أو التقزز.
يلاحظ أيضًا، وبقوة، أن إيقاع ”رُقية“ بطيء بعض الشيء، على عكس المعهود أو الشائع في أفلام الرعب التقليدية. إذ، من خلال بنية غير خطية، يراكم المخرج التوتر بإيقاع هاديء، بهدف نقل الشعور بالقلق، وعدم الأمان، والارتباك والضياع، ومدى الخطر المحيط، الآخذ في الاقتراب أو الزحف ببطء، بدون الانتباه له.
أما الاقتصاد في الإضاءة، وحسن توظيف الطبيعي أو الاصطناعي منها، فمن الأمور البارزة للغاية. كذلك، التقشف في الحوار، وقلة الشخصيات والأحداث، واستخدام ديكورات حقيقية، وواقعية، أغلبها داخلي، لخلق بيئة طبيعية لعالم حقيقي.
تضافر المكونات السابقة معًا سرعان ما يُوقع المشاهد في حالة من الرعب فور اندلاع العنف الدموي أو الهلوسات السمعية، مثلا. ومن ثم، نجدنا إزاء طمس احترافي فعال للخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، بمؤثرات بسيطة فعلا، لكنها ذات تأثير مذهل. مما يؤكد على أن أفضل أفلام هذا النوع لا ينجح بالسعي وراء الإثارة، والمبالغة في الأحداث، ومعالجة الصورة، والإمعان في البعد عن الواقع والحقيقة، وحشر الرعب المجاني، الخالي من الهدف أو الفكر أو الصدق.
تدور أحداث فيلم “رُقية” عبر خطين زمنيين مُتقاربين. يستخدم الفيلم الخطين الزمنيين المنفصلين لرصد أحوال مجتمع وبلد وأفراد مزقتهم الحروب الداخلية والإرهاب، وعنف وبطش الميليشات الأصولية، وأيضًا استكشاف كيفية تأثير هذه الفظائع على أجيال متعددة، وصولا إلى العصر الحديث.
يُفتتح الفيلم، الذي تدور أحداثه في ثلاثة فصول، بتسلسل ليلي مُروِّع في التسعينيات نشاهد فيه مجموعة من الإرهابيين القتلة يقتحمون قرية. تُسمع صرخات مدوية قبل أن نشهد سفك الدماء، والنحر، والتنكيل. يُحيل المشهد المحوري الغامض والصادم في افتتاحية الفيلم إلى أحداث الحرب عام ١٩٩٢، ضد الحركات الإسلامية المُتطرفة، والتي استمرت حتى عام ٢٠٠٢، والتي لا تزال أحداثها ماثلة في الذاكرة، دون ضمانات بأن الجزائر قد تجاوزت هذه المرحلة دون رجعة.
سرعان ما ننتقل إلى فصل أول نتعرف فيه على طارد أرواح، أو راقٍ مُسنّ، وهو رجل مُتدين بلا اسم، فقط ينادونه ”الشيخ“ (مصطفى جاجام). يقضي الشيخ يومه في المعالجة برفقة تلميذه المجهول الاسم (أكرم جغيم). في إحدى الزيارات، يبدو أن روحًا شريرة، من خلال محادثة بلغة مُبهمة، قد مَسَّت الشيخ. بعدها، تبدأ الأحداث الغريبة بالتكشف، في منزل الشيخ، وفي شوارع المدينة. تجتاح المدينة سلسلة جرائم عنيفة، ويشك التلميذ في مدى تورط مُعلّمه في انتشار الرعب في أنحاء المدينة.
من ناحية أخرى، تبدأ أعراض الزهايمر بالظهور على الشيخ، فيستيقظ ليلا ويتجول بلا هدف في المنزل. ينسى معلومات أساسية، ويفقد مصحفه. إلى جوار الشيخ وتلميذه، توجد أيضًا جارته الحامل ومساعدته، وفاء (هناء منصور)، التي تحمل حياتها قصة حزينة تبدو ذات أبعاد دامية. ورغم أننا لا نعرف قصتها كاملة، لكنها تذكر مرة أنها كانت ممسوسة سابقًا، وتفضل الموت على معايشة ذلك مجددًا.

يأخذنا الفصل الثاني إلى الماضي، حيث نتابع قصة جندي شاب يدعى أحمد (علي ناموس)، اختفى منذ زمن في حادث سيارة، ليعود فجأة، لكنه لا يتذكر هويته، ولا زوجته أو أطفاله. وفي حين ترحب زوجته سلمى (ليديا هاني) بعودته إلى المنزل، يبدو ابنه الأصغر مقتنعًا أنه ليس والده، لا سيما وأن رأسه ملفوفة بالكامل بالضمادات. يجن أحمد لفقدانه للذاكرة، لكنه سرعان ما يزداد خوفًا من استعادتها مع عودة ذكريات الفظائع التي ارتكبها لتنهَشَه. يُطارد أحمد أشخاص غامضون يهمسون له بتعاويذ مبهمة، كما أنه لا يعرف سبب شعوره بالقلق من رجل يُفترض أنه صديقه. أيضًا لا يعرف ما الذي أدى لقطع بعض أصابعه يده.
تدريجيًا، نتبين ملامح القصة. خاصة بعد إشارة جلية إلى كونه من الأمراء الذين تطوعوا للجهاد الأفغاني ضد السوفييت في ثمانينيات القرن الماضي. هنا، يكتسب الفيلم أبعادًا إضافية تخرج به من الدائرة الضيقة لأفلام الرعب أو المس الشيطاني، وكونه مجرد استعارة أو إحالة إلى الخارق للمألوف أو الطبيعة، لمستوى يشير بجدية إلى الشر وسفك الدماء، سواء في ميدان الحرب، أو مكافحة الإرهاب والتطرف. مع التذكير أيضًا بأن السياسة لا وجود لها بدون استغلال الجهل والدين. وأن الدين، بعيدًا عن الإيمان والأخلاق، يعمل كرمز سياسي. وعليه، تكتسب حبكة الفيلم مستويات إنسانية وعالمية أشمل وأعمق وأقوى.
يُظهر لنا الفصل الأخير، الذي تدور أحداثه في الحاضر مجددًا، عواقب ما حدث لوفاء، جارة الشيخ. إذ يعود الرجال الغامضون، الذين ظهروا في المشهد الافتتاحي للفيلم، أو من هم على شاكلتهم، ليقومون بإسالة دماء الموجودين بالمكان، دون شفقة أو رحمة، مما يؤدي إلى ذروة دموية ووحشية، مفاجأة وصادمة معًا.
خاتمة تؤكد، مجددًا، على أننا لسنا مع فيلم تقليدي عن المس أو الرقية أو إخراج اللجن أو غيرها، ولا عن الخير والشر والعنف المجاني، بل استكشاف آثار دورات العنف المجتمعي التي يبدو أنها لا تنتهي. وكيف أن رفض الاعتراف أو غض الطرف عن الأهوال التي حدثت سابقًا، وعدم معالجتها وتجاهلها، يجعل المجتمع محكومًا بتكرار نفسه، وربما مواجهة نفس الأحداث مرة ثانية.
من هنا، كان إصرار المخرج على أن يكون الخيط الرابط بين ثنائية الماضي والحاضر هو الذاكرة، والخشية من فقدانها، سواء لدى الشيخ أو أحمد. حيث أن الإنسان أو الشعب أو المجتمع عامة من دون منطق أو عقلانية، وبلا ذاكرة أو ذكريات، سيظل يدور حتمًا في دائرة جهنمية. ويُكرر، إلى ما لا نهاية، أخطاء وكوارث وأهوال الماضي.
مجددًا، نؤكد على مهارة وذكاء مخرج استطاع في أول أفلامه الابتعاد عن السطحية السائدة في الغالبية العظمى من أفلام الرعب، وذلك بتسكين حبكة فيلمه، دون أي افتعال، وبرؤية ناضجة، ثاقبة وصادقة، ضمن السياق التاريخي الأسود لبلده، مما أكسب السرد القصصي مصداقيته، الواقعية والرمزية أيضًا.
يذكر أنه في سياق النوع السينمائي الخاص بأفلام الرعب والإثارة والرمزية، أنجز التونسي عبد الحميد بوشناق فيلمه الروائي الطويل ”دشرة“ (2018) بمهارة لافتة. في هذا الصدد أيضًا يمكن ذكر بعض أعمال التونسي علاء الدين سليم. كما يمكن أيضًا ذكر فيلم ”الذراري الحمراء“ (2024) للتونسي لطفي عاشور، خاصة وأنه تناول رعب وتبعات الإرهاب. وهي من الأفلام العربية الحديثة المميزة والمغايرة فعلا، والجريئة في تناولها ومعالجتها، وإن كانت موضوعاتها ومعالجاتها لم تقترب من قوة ”رُقية“ ليانيس كوسيم.
الأمر نفسه ينطبق، وإلى حد بعيد جدًا، على فيلم فرنسي إنتاج عام 2023 بنفس العنوان ”رُقية“ (Roqya) أو ”الساحرة ذات القلنسوة“ للمخرج سعيد بلخطيبيا. بطولة الإيرانية جولشيفته فراهاني، والنجم دوني لافان، وجيريميه فيراري، وأمين زهراوي.
ورغم اندراج الفيلم ضمن نفس النوعية تقريبًا، وسيطرة جو السحر والرُقية والمُس، وتوظيف الزواحف البرية المخيفة، إلا أن دراما الفيلم جاءت سطحية جدًا. وانحرف الفيلم إلى مطاردة الساحرة نور (جولشيفته فراهاني)، التي ظلت طوال الفيلم تحاول إنقاذ ابنها أمين، بعد اتهامها بالشعوذة والتسبب في مقتل مريض شاب.
وعليه، فإن سطحية الحبكة وعدم أصالة الأفكار وافتعال الأحداث في ”رقية“ لسعيد بلخطيبيا لا تضعه بالمرة في مقارنة، من أي ناحية، مع قوة وجاذبية وتشويق ”رقية“ ليانيس كوسيم، والذي، رغم قسوته، لن يفشل أبدًا في إثارة اهتمام الجمهور، وتفاعلهم مع أفكاره العميقة التي يتعين تأملها مليًا فور الانتهاء من مشاهدته.