محمد هاشم عبد السلام
15/12/2014
لا شكّ أن النجاح الدولي الكبير الذي حظيت به السينما الإيرانية ولا تزال، أخفى الكثير والكثير عن الظروف التي يعمل في ظلّها الشطر الأعظم من صناع السينما في إيران. وليس المقصود بالظروف هنا تلك المُتعلقّة بالتمويل والإنتاج والتوزيع إلى آخره، فتلك كلها قاسم عالمي مشترك، بل ما نقصده على وجه التحديد، والذي رصده هذا الفيلم الشديد الأهمية، “سينما السخط” للمخرج جامشيد أكرامي، هو الرقابة التي تعانيها صناعة وصناع السينما في إيران منذ عقود. ولا يُقصَد هنا بمصطلح الرقابة تلك القوانين المتعارف عليها والتي تنصّب بالأساس على الآراء السياسية والانتقادات الموجهّة للدولة أو النظام أو التقاليد وغيرها، فتلك كلها من الأمور المُسلّم بها رقابيًا في الدول التي لا تزال ترزح تحت رحمة الرقابة والرقباء. إذن، أي نوع من المُحرّمات أو التابوهات التي ينبغي ألا تُكسَر من جانب العاملين بالسينما الإيرانية؟
الإجابة عن هذا السؤال الهام هي التي دفعت مخرج الفيلم لصناعة فيلمه هذا على وجه التحديد، كي يميط اللثام عن ذلك الكم الهائل من الممنوعات التي يعجز المشاهد فعلا على امتداد الفيلم عن حصرها لكثرتها، والذي يتوارى خلف تلك الصور السينمائية البديعة التي نشاهدها في الأفلام الإيرانية المعروفة لنا والتي نعجب بها أيما إعجاب على المستوى الدولي وفي المهرجانات لدرجة منحها أرفع وأرقى الجوائز.
بنى المخرج جامشيد أكرامي فيلمه، البالغ ساعة ونصف الساعة تقريبًا، على مجموعة من الشهادات مع اثني عشر مخرجًا وممثلا ومنتجًا وكاتب سيناريو من السينمائيين الإيرانيين المعاصرين من الرجال والنساء على رأسهم المخرجين جعفر بناهي وأصغر فرهادي وبهمن قوبادي، كان قد سجّلها على مدى خمس سنوات عندما التقى بهم خارج إيران في أمريكا وكندا. وتندرج تلك الشهادات ضمن تقسيمات رئيسية عدة، يطرح كل منها مجموعة من القوانين الرقابية التي عادة ما تُكتَب على فواصل من اللوحات أو تُنفّذ بطريقة كارتونية مصحوبة بصوت مُعلِّق خارجي يشرحها سريعًا. أما المساحة الكبرى بالفيلم فمُخصّصة لعشرات المقاطع الفيلمية القصيرة، التي اختارها المخرج بعناية فائقة من بين مئتي فيلم من أفلام السينما التجارية والشعبية الرائجة والمُحبّبة لدى الجمهور الإيراني، وذلك للتدليل على قانون رقابي ما أو لتبيان الطرق التي استُخدمت للتحايل عليه أو للتأكيد على ما قاله الضيوف في شهاداتهم.
ومن بين أهم القضايا التي شغلت مساحة لا بأس بها من الفيلم ومن شهادات الضيوف والمقاطع الفيلمية، تلك المُتعلقّة بغطاء الرأس، وهو بالطبع ليس الحجاب المتعارف عليه بالنسبة لنا، بل مجرد وشاح يغطي أغلب شعر الرأس دون مقدمته. ومن المفارقة أن قانون الرقابة بإيران يسمح منذ سنوات بعيدة للمرأة بممارسة التمثيل شريطة أن يكون الرأس مُغطّى بذلك الوشاح، ويُمنع عليها منعًا باتًا خلعه أثناء الفيلم، حتى لو كانت نائمة في الفراش بالمنزل أو في السير بفندق أو مستشفى أو في الحمام أو تحت المطر، حتى وإن كانت بمفردها.
وفي حين يتجنب كياروستامي على سبيل المثال مثل هذه المشاهد كي لا يقع تحت طائل الرقابة، يلجأ الكثيرون غيره أو يضطرون إلى تنفيذ مثل هذه المشاهد، الأمر الذي يجدون أنفسهم معه مضطرين لتنفيذ القانون غير عابئين بمدى فجاجة ما يُقدّمونه وافتقاره لأدنى حدود الواقعية أو درجات المصداقية، وبالتالي يجد المشاهد نفسه وقد عجز فعليًا عن الإمساك عن الضحك، بل وفي بعض الأحيان القهقهة، وكيف لا وأنت تشاهد أمامك بطلة فيلم مُمسكة بمجفف الشعر كي تُجفّف به شعرها لكنها تفعل هذا فقط من فوق الوشاح. وتعليقًا على مثل هذه المشاهد تقول الممثلة سارة نودجومي: “ما من امرأة في إيران لا تضع غطاء الرأس، لكن هذا لا يستقيم بالمرة في المنزل أو حجرة النوم أو في السرير أو أثناء الاستحمام أو حتى تجفيف الشعر”.
وعليه فإننا، ومع كل مقطع من مقاطع الفيلم وما يُقدّمه لنا المخرج من أفلام تُدلّل على طرحه وتؤيد ما يقوله ضيوفه، لا نستطيع أن نمنع أنفسنا بالمرة من الضحك الهيستيري الممتزج بالمرارة على زيف وبلاهة ما يُقدّم من مشاهد، ليس فقط لأنها قد تكون متعارضة مع قناعتنا، بل لأنها بالأساس تتعارض في أحيان كثيرة وبديهيات الصناعة السينمائية ذاتها، ولذا كثيرًا ما تقع تلك الأفلام فيما نطلق عليه “الراكور”، ففي أحد المشاهد مثلا، نجد البطل والبطلة يجريان تحت المطر وهما مبتلين تمامًا، وفي اللقطة التالية مباشرة نجد شعره مبتلا بفعل المطر وهي وشاحها كما هو ولا أثر للبلل أو حبيبين يقذف أحدهما الآخر بالمياه فيبتلان، وفي اللقطة التالية مباشرة هو يُجفّف شعره بمنشفة وهي وشاحها جاف ولا تجفف شعرها إلخ.
إن تلك الضحكات الصادقة المتولدّة عن مثل تلك المفارقات والتي تترك لنا المرارة في النهاية، مردّها في كثير من الأحيان للقطات الأفلام، الموضوعة بمكانها المناسب تمامًا بالفيلم، والتي أسهمت إلى حد بعيد في إبراز تلك التناقضات المضحكة في حد ذاتها. ومردّها أيضًا لقوانين الرقابة نفسها التي ما أن تُطرَح أثناء الفيلم كقوانين أو أفكار مجردة حتى تثير السخرية والضحك على الفور. لدرجة أن مخرج الفيلم تحدّث عن نوبات الضحك التي انتابت المخرج بهمن قوبادي بعدما شاهد الفيلم مكتملا في وقت لاحق، على الرغم من أنه في سياق الفيلم وصف تلك القوانين بأنها “محض تعذيب”.
والمثير في الأمر، ومن هنا تجيء أهمية وقوة هذا الفيلم ورسالته، أنه لو ألقى الضوء على هذه القوانين من دون أن يتبعها بالتعليقات والأجزاء الفيلمية، لما اكتسبت كل هذا العمق وأثارت كل هذه الضحكات الساخرة. فكيف يُلاحِظ أو يستوعب المشاهد، على سبيل المثال، استخدام مجفف الشعر من فوق غطاء الشعر أو عدم تقبيل الأب لابنته أو الأم لابنها حتى لو اقتصر على تقبيل اليدين أو السلام أو حتى إمساك الطبيب أو الطبيبة بالمعصم لقياس النبض مثلا. ناهيك عن الرقص أو الغناء، والذي إن اضطرّت إليه البطلة فيكون مجرد اهتزاز آلي انفرادي دون وجود أحد، وفي حالة الغناء فمجرد تحريك الشفاه مع الأغنيات فحسب لأن صوت الأثنى كمغنية ممنوع رقابيًا.
كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير والكثير مما تفرضه قوانين الرقابة الإيرانية ويرصده فيلم “سينما السخط”، دفع المخرجين إلى التلاعب والتحايل واللجوء إلى كافة الوسائل والأساليب لتمرير أفلامهم من تحت عيون الرقباء دون خسائر فادحة قد تصل بالطبع إلى منع فيلم ومصادرته وأحيانًا توقيف مخرجه ومنعه من ممارسة الإخراج السينمائي. والفيلم يزخر بتلك الحلول الإبداعية المبتكرة والمسليّة أيضًا، التي يمكننا أن نطلق عليها “جماليات التحايل والمراوغة”، ومن بينها، على سبيل المثال، وأثناء حفل زفاف ولكي يتلاشى المخرج احتضان العريس للعروس وتقبيلها أو تقبيل الأب لرأس ابنته واحتضانها نجد العروس وقد تحولت إلى ملاك صغير أو صبية بلباس عروس بين يدي العريس أو الأب فتنطبع القبلة ويتم العناق أو أن يرقص حبيبان معًا لكن كل منهما في حجرته وتنقل لنا الكاميرا المشهد عبر الجدار الفاصل بينهما أو أن تتم الملامسة من فوق قطعة قماش أو من كم القميص أو البيجامة إلى آخره من تحايلات غريبة ومضحكة في سياق الفيلم، بالرغم من أنها في السياق الحقيقي داخل الأفلام لا تستدعي الغرابة أو الضحك، بل ربما الحزن والبكاء لأنه أحيانًا يكون المشهد لقتيل وتريد زوجته أن تطبع قبلة على خده أو جبهته، فيحدث قطع للقتيل قبل وفاته ثم صوت رصاصة تنطلق أو اصطدام ما، ثم قطع آخر وقد انطبع أحمر شفاه على خدّه أو وجنته، ناهيك عن ذلك القانون العجيب الذي يُجرّم التلامس تمامًا، لكنه في نفس الوقت يسمح به في حال تبادل الضرب أو الصفع أو الركل بين الرجل والمرأة!
لأجل كل هذا وأكثر نجد أنه بإمكاننا تأويل الفيلم أيضًا كنوع من الاضطهاد والتجنّي على المرأة وحريتها في المجتمع الإيراني، نظرًا لأننا لو دقّقنا النظر في معظم، إن لم يكن كل، القوانين الرقابية المطروحة من جانب الفيلم سنجدها مُنصبّة بالأكثر على المرأة.
وبالرغم من كل هذا فقد جاء في غير مكان بالفيلم أن الإيرانيين يقاومون الرقابة ويصطدمون بها واعترف أصغر فرهادي أنه في فيلم أو فيلمين له، استطاع أن يُمرّر من تحت عيني الرقيب بضعة مشاهد لم تكن لتمرّ في الأحوال العادية، لكن إدارته الإخراجية للمشاهد والممثلين والتوظيف الدرامي جعل الرقباء ينسون مهمتهم ويتفاعلون معها لدرجة التغاضي عنها، وهنا يبرز منحى آخر بالفيلم مغاير للنقد والسخرية، ينصبّ على المقاومة وتغيير الواقع وكذلك الرغبة والتصميم من جانب العاملين بالصناعة على عدم ترك البلاد والبقاء بها وصناعة ما يحلمون بتقديمه دون رقابة. وهم بإصرارهم هذا وتواجدهم التنافسي في جميع المحافل السينمائية الدولية وحصدهم لأرفع الجوائز يضربون لنا المثل بصناعتهم لتلك الأفلام الراقية والمتميزة برغم كل تلك القيود والمعوقات الرقابية التي لا نعاني نحن من مثيلاتها في عالمنا العربي.
ترأس المخرج جامشيد أكرامي عدة مطبوعات سينمائية قبل مغادرته إيران، وهو يعيش الآن ما بين أمريكا وكندا حيث ينشر ويحاضر عن السينما في جامعتي ويليام باترسون وكولومبيا. وجدير بالذكر أن “سينما السخط” هو آخر أفلامه التسجيلية، وآخر فيلم في ثلاثيته التسجيلية، التي كتبها وأخرجها وموّلها، والتي ركزّت على السينما الإيرانية، وكان أولها عام 2000 بفيلم تناول فيه السينما الإيرانية بعد الثورة عام 1979 وجاء بعنوان “إقناع ودّي”، والثاني الذي نفذّه عام 2007 حمل عنوان “السينما الضائعة” وهو عن الإخراج السينمائي تحت حكم الشاه. وقد عُرض “سينما السخط” في العديد من المهرجانات الدولية، ودور العرض والمحطّات المتخصصة بأمريكا وكندا.