محمد هاشم عبد السلام
لن يبوح “صديق صامت”، للمجرية إلديكو إنيدي، بأسراره الساحرة، إلّا لمُشاهِد مُطّلع على أفلامها السابقة، والمعجب بعوالمها وبمشاهد محدّدة منها، كما أنّه سيفتح عوالمه الفكرية والإنسانية المستغلقة للمُشاهد نفسه، الذي سيستوعب تكوينه البطيء، وإيقاعه الهادئ المتعمّد، وغرابة موضوعه ومَشاهده.
الإلمام بسينماها يُسهِّل ربط الموضوعات والمشاهد، واستيعاب المعالجات والرؤى، والاستمتاع بالجماليات المتقاطعة مع سبعة أفلام روائية لها، لكن من دون تكرار. ففي “صديقي الصامت”، هناك إعادة صوغ واسع للسابق، مع تعديلات وتطويرات، أو وفقاً للمصطلح الموسيقي “تنويعات”. التنويع تطوير فكرة موسيقية بإعادة عزفها، مع إدخال تغييرات في الإيقاع أو الهارموني أو الطبقة، من دون تغيير الفكرة الأصلية جذرياً. لذا، لسنا بصدد تكرارات، بل تنويعات أسلوبية، تعيد سبر الموضوعات السابقة، بلغة سينمائية مستكشفة، ذات بصمة شخصية فريدة لا تكرّر نفسها وأسلوبها ومعالجاتها.
“صديق صامت” تنويعة عميقة وصعبة ومُربكة جداً، مستقاة من روائع سابقة لإنيدي، رغم ابتعاده كثيراً عن الأشهَر لها، “عن الجسد والروح” (2017). لا يعني هذا أنه يصعب تلقي الجديد، أو التفاعل معه، بل بالعكس. لكنّ المؤكد أن المشاهد العادي سينفد صبره، وسيربكه الموضوع والانتقالات الزمنية التي تبدو غير مترابطة، قياساً بإيقاعه وطوله (147 د.). مع مشاهدته الثانية، يبوح بأسراره وجمالياته، وتُستوعب آليات ربط خيوطه وأحداثه الموزّعة في ثلاث قصص منفصلة، وشخصيات مغايرة، وأزمنة غير متطابقة، واشتغالات لونية وبصرية وتصويرية مختلفة، وإنْ تطابقت القصص مكانياً.
يمتد اشتغال إنيدي على التنويعات إلى تكرار الاستعانة بممثلات رائعات، كلونا ويدلر، الفائزة عن دورها هذا بجائزة “مارتشيلو ماستروياني لأفضل ممثلة“، بالدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا، وليا سايدو، وإنْ بدور ثانوي، كما تستدعي التنويعات مشاهد كثيرة من “قرني العشرين” (1989)، عن رصد النجوم المتألّقة في السماء، والأطواق المزوّدة بأسلاك كهربائية على رؤوس الحيوانات والبشر، والمشاهد الطويلة لنقاشات ذات طابع جدلي، والفلسفة الجريئة الصادمة. إلى الاهتمام بعلوم واختراعات، والإمعان في سرد مصطلحات علمية جافة وعسيرةـ وفواصل انتقالية تمتدّ وقتاً طويلاً على الشاشة.
التنويعة الأكثر اختلافاً أن هناك ثلاث قصص، تجري أحداثها أعوام 1908 و1972 و2020، مُصُوّرة على التوالي بكاميرات 35 ملم و16 ملم ورقمية. والقصص عن شجرة جينكو بيلوبا هائلة الحجم، عمرها 200 سنة، ستكون الشخصية الرئيسية التي تراقب بصمت مصائر البشر في قرن.
وحدة المكان (حديقة نباتية في جامعةٍ بكولونيا)، والتمحور حول علم النبات ومصطلحاته، تَكِئة لرصد مدى تفاعل البشر من عدمه مع هذا الصديق الصامت، أي النبات. إضافة إلى سرد قصص مشوّقة ومثيرة ومربكة، ومضحكة أحياناً، والقصص رقيقة وعميقة وإنسانية، تركّز إنيدي على العوالم الإدراكية المختلفة لأبطالها، وما يستشعرونه بالسير في المسارات المكانية نفسها في الحديقة، والتواصل (لمس) مع الجذع نفسه للشجرة، وردّات الفعل الحاصلة، المتجاوزة رصداً يومياً وعادياً، مع محاولة صعبة لسبر التواصل بين كائنين حيّين من مملكتين مختلفتين، لا يتحدثان اللغة نفسها.
لا تتبع دراما الفيلم، الذي يُعرض خارج مسابقة الدورة 46 (12 ـ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2025) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (صدر كتاب “سينما إلديكو إينيدي: كي لا يموت السحر في العالم” لأحمد عزت عامر، عن دار ريشة، بالتزامن مع هذه الدورة)، خطاً سردياً تراكمياً ومتصاعداً. البنية مُحيّرة قليلاً، ولا سيّما البداية، خاصة لمن يبحث أو يعتاد سرداً مستقيماً، وحبكات عادية، أو متداخلة ـ متقاطعة لكن بوضوح. في مرحلة متأخّرة منه، يتحقّق التناسق والاتساق والاستيعاب، وتتجلّى متعة وفرادة سحر وعمق فيلم شديد الإنسانية. التأخر ينبع من أن القصص لا تسرد بالوتيرة الزمنية نفسها. حتى الانتقال بينها غير ثابت، هناك تعمّد في إحداث نقلات سريعة أو بطيئة، أو تداخل غير متراتب، وذهاب ـ إياب متعدّد ومتنوّع، من دون التفات إلى وحدة الموضوع في كل قصة، بل التكوين والإيقاع والفكرة المراد إيصالها.
أولاً، هناك العالِم وونغ (توني ليونغ)، المُحاضِر الزائر، القادم إلى الجامعة الألمانية، والمتخصّص برصد لغة الرُضّع في مرحلة ما قبل النطق، التي سيطوّرها لاحقاً على النباتات، بدعم العالِمة أليس (سايدو)، بعد إضطراره إلى البقاء في الجامعة بسبب كورونا (2020). ثم عالَم الأسود والأبيض، عام 1908: غريتا (ويدلر) شابّة عبقرية تُقبَل كأول طالبة في كلية العلوم بالجامعة، بعد اختبار عسير، مُذلّ وساخر منها ومن قدراتها. تتعلّم التصوير الفوتوغرافي، ثم تُسخّره لرصد أطوار حياة النبات وأنماطها، فترة النمو. أخيراً، عام 1972، والتصوير على خام مُلوّن بكاميرا 16 ملم، ينقل طبيعة العصر: يُغرم الريفي هانز (إنزو بروم) بغوندولا (مارلين بورو)، زميلته في السكن، المستغرقة بالبحث في قدرات النباتات على التواصل، وتسجيل الاهتزازات الكهربائية، مع الاستمتاع بأجواء الهيبيز والتحرّر، وهانز مكترثٌ بقراءة ريلكه فقط.
فكرياً وإنسانياً وتأملياً، أقدمت إلديكو إنيدي على مخاطرة فنية مخفية وجسورة ونادرة، في روائي طويل لا في وثائقي، استغرقت فيه بالطبيعة وعلومها، والرصد المجنون والاستثنائي للنباتات، التي لا نتشارك معها الأهمّ: الإدراك والوعي واللغة. رغم هذا، لم تبتعد كثيراً عن هاجسها الأساسي منذ فيلمها الأول. أي رصد مدى فشلنا المرعب في التواصل معاً، وفضح علاقاتنا الفاشلة بعضنا ببعض. ورغم اقتصارها سابقاً على علاقة الرجل بالمرأة، خاصة في رائعتيها “قصة زوجتي” (2021) و”عن الجسد والروح”، مضت في جديدها إلى الأبعد: رصد فشل التواصل بين مملكتين مختلفتين، البشر والنبات.