فينيسيا – محمد هاشم عبد السلام

​الصوت الناعم البريء الضعيف والمُستَنجِِد للطفلة هند رجب، المسموع لساعةٍ تقريباً في “صوت هند رجب”، للتونسية كوثر بن هنية، سيظلّ صداه يتردّد في الأذهان فترة طويلة، وسيصعب على المرء تخيّل أنّه سينساه أبداً. تداعيات الصوت، وملابسات الأحداث وتطوّراتها، الحاصلة في 29 يناير/كانون الثاني 2024، لا تنهش ضمائرنا فقط، بل تدفع إلى التساؤل، صراحةً، بلسان هند: بأيّ ذنب قُتِلتُ؟

لا إجابات إلى الآن كشفتها التحقيقات. لا مجال للخيال السينمائي ولغيره تبرير ماهية هذا الموت المجاني البطيء، لطفلة، تبلغ ستة أعوام. المؤكّد، بلا أي لبس، أنّ وحشية “الإنسان” قتلت هند رجب بمنتهى البربرية.

ينتمي الفيلم، المعروض في مسابقة الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا، إلى نوع مؤثّر للغاية، يجعل المرء عاجزاً عن التفكير في أي شيء يتصل بالتحليل السينمائي. فقط محاولة السيطرة على تدفّق المشاعر والتوتر، وكبح الدموع، ومحاولة التشبّث بأمل واهٍ في نجاح جهود رجال الإسعاف، وإنقاذهم الطفلة. رغم التيقّن، منذ نحو 18 شهراً، أنّ هند قُتلت أمام العالم، ولم يتحرّك أحدٌ. كلّ واحد تابع شؤونه، كما يفعل يومياً، ونسى أو تناسى أو التهى، بسبب حياة لا تأبه بمشاعر، أو بمن رحل وسيرحل، ولا بأسباب الرحيل ومكانه.

بذكاء لافت للغاية، وبحرفية مهنية شديدة، التقطت كوثر بن هنية فكرة فيلمها، وأجادت الاشتغال على إعادة تجسيد الأحداث، وخلق الانسجام والتزامن بين المكالمات المسجّلة بصوت هند، والأداء التمثيلي. بالتالي، لفت الانتباه أيضاً ليس فقط بشاعة الجريمة، وملابساتها المستمرة ثلاث ساعات كاملة، ولا صناعة فيلمٍ يُثير المشاعر ويستدرّ عواطف الجمهور، ولا تقديم بروباغاندا سياسية زاعقة تخبو الحماسة بشأنها سريعاً، بل النقل الصادق، من دون تصنّع وإعمال خيال سينمائي زائد أو غير ضروري، لرسالة إنسانية بالغة القوّة والتأثير.

تكمن قوة “صوت هند رجب” أيضاً في كونه من الأفلام، النادرة جداً، التي تتحدّث عن جانب مسكوت عنه في حرب الإبادة الجارية: عشرات آلاف الأطفال وغيرهم قُتلوا في العامين الماضيين، واعتُبروا “أضراراً جانبية”، أو قتلوا خطأ. لذا، أثبتت السينما، عبر جديد بن هنية، قدرتها على حفظ ذكرى هؤلاء تحديداً، والحفاظ على الذاكرة العامة لشعب، ومقاومة نسيان ما يجري.

يسرد الفيلم قصة صبيّة صغيرة من غزة، كانت في سيارة بصحبة خالها وخالتها وأربعة من أولادهما. لا أحد يعلم بوجود السيارة إلا بعد اتصالِ قريبٍ للعائلة في ألمانيا، يُدعى عمر (معتز ملحيس)، أخبر فيه موظّف الاتصال بالهلال الأحمر في رام الله، ضرورة إنقاذهم. طلب منه عمر الحصول على رقم هاتف بالسيارة للاتصال به، وإرسال الإسعاف، سيّما وأنّ مكان السيارة يبعد عن أقرب سيارة إسعاف 8 دقائق فقط.

كانت هند وأقاربها يفرّون من منطقة تل الهوا، التي قصفها الجيش الإسرائيلي، والسيارة مُستهدفة بالقصف أيضاً. بصعوبة بالغة، نجت هند وابنة عمّ لها. تواصلت معها موظّفة الاتصال رنا (سجا كيلاني). في البداية، يُسمع صوتها، ثم استشهدت سريعاً، لينهار فريق التواصل. من جهتها، حاولت نسرين (كلارا خوري) التماسك، وحثّ زميليها على التماسك، وكبح الدموع، والسيطرة على العصبيّة، لبثّ الطمأنينة في هند، المرعوبة من أقاربها القتلى حولها، خاصة مع خوفها الشديد من حلول الظلام.

التواصل الصوتي متقطّع بسبب انقطاع الاتصال، أو العجز عن إخبار هند بأي شيء، خلا وعد إنقاذها. بعد ثلاث ساعات، نجحت جهود المدير مهدي (عامر حليحل)، الرافض المخاطرة بآخر طاقم إسعاف لديه في المنطقة، بالحصول على الضوء الأخضر من الجيش الإسرائيلي، عبر الصليب الأحمر، فانطلقت سيارة الإسعاف والطاقم لإنقاذ الطفلة التي، وسط حصار الدبابات وطلقات الرصاص المجلجلة فوق رأسها، بدأت تنزف، كما أفادت. لكنْ، بعد انطلاق فريق الإسعاف، وقبل أمتار قليلة، تُستَهدف سيارتهم، وفيها آخر المُسعفين.

بخلاف تفريغ الملفات الصوتية للمحادثة، التي تُسمَع كاملة، حرصت كوثر بن هنية على ضبط الأداء  التمثيلي، لاستخراج أفضل شحنة غضب وعصبية وتمزّق مشاعر، ورصد صادق لانهمار الدموع، والعجز عن الفعل والتواصل، وطمأنة طفلة مذعورة. كما أبقت بمصداقية لافتة للانتباه على التناسق اللوني للملابس، والتشابه الجسدي مع الشخصيات الأصلية. إضافة إلى اعتمادها حركة كاميرا محمومة (خوان سارمِيَنتو خ.)، تتحرّك بعصبية وسرعة مزعجتين، ولقطات مقرّبة للغاية على الوجوه غالباً، ليس لضعف صُنعة، بل لنقل حالة وتكثيفها، أساساً.

بنائياً، الفيلم بسيط للغاية، مُحكم وصادق ومؤثّر إلى أقصى درجة. لكنْ، يصعب تفهّم أحداثه الواقعية، أو تقبّلها منطقياً. ناهيك بمحاولة تجاوزها وتناسيها. سيما أنّ اللقطات التسجيلية والأرشيفية، التي ضمّنتها بن هنية في نهايته، تُظهر أنّه بعد 12 يوماً عُثر على السيارتين، واستُخرجت الجثث، وفُهم ما حدث، فيظهر هولٌ ودمار مُرعبَان. أما كلمات والدة هند في الختام، ولقطات الفيديو لهند وهي تلهو على البحر، فتؤكّد مجدّداً أنّ ألم هذا الفشل الماثل، وعاره المستمر إلى هذه اللحظة، يُكلّلنا جميعاً.